صورتها ، كما رأيتها أخيراً في القاهرة ، هيَ هيَ : فيفا نيفا . أراها صباحَ مساءَ أمامي في مرآة شاشة الكومبيوتر حيناً وفي شاشة التلفزيون أحيانا . كتبتْ تحتجُ . قالت لستُ مَن ترى أنا . أنتَ واهمٌ . أنت اليومَ في نوفمبر وكنتَ رأيتني في شهر أكتوبر . علامَ غضبها ، وما فرقُ أكتوبر عن نوفمبر ؟ الفرقُ كبيرٌ ، أجابت نيفا. أنت لا تدركُ الفرقَ لأنكَ فارقتَ عهود الفتوة والصبى . طأطأتُ رأسي المُثقل وهمستُ : نعم يا نيفا ، كبرتُ ولكنَّ الزمان لا يكبر . ليس للزمان عمرٌ لذا لا أرى فرقاً بين ( أكتو ) و ( نوفو ) .إبتسمت ربّة النيل والنصر وساحة طلعت حرب وميدان التحرير وشارع شريف . ما الذي جعلكِ تبتسمين يا أيتها السيدة الرزان الصموت ؟ وسّعت إبتسامتها ثم قالت : أراك سعيتَ إلى مداعبتي باختصارك نوفمبر إذ جعلته ( نوفو ) ! وأين عنصر المداعبة يا صموت ؟ مسّت كتفي بلطف حقيقي وقالت : هل نسيتَ أنك تسميني نيفا حيناً وفيفا أحيانا ؟ أطرقتُ وفكّرتُ : نيفا ... فيفا ... نوفو ... نيفا ! إهتديتُ . وجدتها . نوفو أخت نيفا وهذه أخت فيفا . والحاصل ؟ الحاصل [ جَمَلٌ ] لا أكثر .عدتُ بجدٍّ لصورتها في مرآة التلفاز . إنها ليست صورتها . طيّب يا آنسة ، أين أنتِ إذاً وأين صورتك الحقيقية ؟ قالت أنا هناك ، أشارت بأصبعها نحو الجهاز . إلتفتُّ فالفيتُ الجهاز مُطفأ والشاشة سوداء كسواد بَشرة وجه عنترة بني عَبْس الأخشيدي . لكني لا أرى شيئاً يا سيدة . قالت من الطبيعي ألاّ ترى . صورتي ممنوعة عليك . محجوبة محرّمة رغم أني كما تراني لستُ مُحجّبة . كيف السبيلُ إليك إذاَ يا نوفو ؟ حطّمْ حهازك تجدني ، قالت . إحترتُ في الأمر . أين وكيف أجدها إذا ما حطّمتُ التلفاز ؟ إذا كانت أصلاً جزءاً منه فلسوف تتحطمُ لا شكَّ معه . وإنْ لم تكنْ جزءاً فيه منه فما جدوى تحطيمه ؟ حيرة ، حيرة كبيرة . لاحظتْ حَيرتي فقالت : ألمْ أقلْ لك إني الحاضرة الغائبة وإني الهُنا وإني الهُناك وإني الليلُ في نهارك ونهارك في الليل ؟ ما هذه الفلسفة يا نوفو ؟ لا من فلسفة فيما أقولُ . إنما قصدتُ أني وصورتي الحقيقية قابعتان خلف شاشة جهازك . وظلُّ صورتي يتراءى لك على وجه عنترةَ الأخشيدي . اللوح الفوتوغرافي السالب لوجهي هو ما ترى على الشاشة . هذا إستحقاقك وليس لك في حياتك غيره ولا تطمع بزيادة واتعظ بقول المتنبي :
وإذا كانت النفوسُ كباراً
تَعِبتْ في مُرادها الأجسامُ
طريقك مقفلٌ مُغلق مفاتيحه في جيب رداء والدتي . تساءلتُ في سرّي : تُرى ، أين أجدُ والدتها ومَن عساها تكونُ . هل أجدها كوالدتي الراحلة مُتشّحة بالسواد ؟ مثقفة ؟ جميلة وعصيّة كإبنتها ؟ كانت نيفا النوفونية تقرأ أفكاري فقرةً فقرة مكتوبة أمامها على شاشة كومبيوتر ركّبه طبيبُها الخاص لها في مركز دماغها لا يراه أو يحسُّ به غيرها . كانت قادرة على قراءة أفكار وخطط عصافيرها وقططها بل وحتى دُببها التي احتفظت بها منذُ صغرها عاماً بعد عام هدايا ميلادها ومُشتراة . إنها تهوى دُببة الأطفال حتى قلت لها يوماً مُداعباً ليتني كنتُ أحد هذه الدببة التي تشغلُ أمكنة كثيرة في حجرة نومك . أجابت بل سأضعكَ مع مجموعة عصافيري في القفص . الدُببة دُمى لكنَّ العصافيرَ أحياء يُرزقون ورزقك اليومي معهنَّ من أفضل أنواع الحبوب كالفستق والبندق والجوز واللوز . ألا من لحوم ؟ قالت إذا لم تطق الحياة بدون لحوم فسأضعك مع مجموعة القطط . تساءلتُ هل الحرية مع القطط واللحوم أفضل أو الحياة في قفص مع جيد الحبوب ونادر العصافير الآسيوية ؟ إحتجت العصافيرُ في القفص وزقزقت وهاجت ورفرفت قالت ( نوفو ) إنها تريدك أنْ تبقى معها لأنها لم ترَ آدمياً من قبلُ في قفص . ستهتم بك وستداريك مثل والدتك وتطعمك حصتها مما أضع لها من فستق حَلَبي وجوز هندي ولوز باكستاني وبعض الحلوى . وماذا عن الماء يا صاحبة العرش الروماني ؟ انا لا أشربُ إلاّ الماء المعدني المُعبّأ في أوعية بلاستيك لأنَّ ماء النيل يُسبب لشاربه إسهالاً كما أفادني بعض الناس . كما تُحبُّ ، قالت . سآتيك بالماء معدنياً مستورداً من ينابيع وعيون جبال الألب الألمانية ـ النمساوية ـ الإيطالية . إذاً سأبقى معك في بيتكِ مسجوناً وحيداً في قفص خاص يتدلى من سقف حجرة نومك يطرد وجودي عنك سأمَ ووطأة برد الشتاء ولياليه الطويلة وإنها كما تعلمين ثقيلة على فتاة فاتنة مثلك تحمل في قسمات وجهها الكثير من سمات جميلات روما وعلى رأسهنّ [ فَنِسْ أو فينوس أو فينوسة ] . مُحال ، قالت ، ذلك أمر مُحال . ترفضه أمّي . إنها تخافُ منك عليَّ وانا وحيدتها منذ رأت النورَ عيني . مُحالٌ مُحالٌ مُحال ... يا سماء ! متى اتخلص من محالات الدنيا وما تجرّهُ عليَّ من مشاكل وتبعات تُبهض كاهلي ، متى ؟ ظللتُ أفكّرُ طويلاً فيما عرضت [ نمف ] نيل مصر عليَّ : لحوم مع القطط أمْ كَرَزات فاخرة ومياه معدنية في قفص ، تلك هي المُعضلة . هي تعرفُ أني لستُ نباتياً ولستُ بالطبع هندياً . غيّرتُ مسارَ الحديث فسألتها هل والدتك مُحجّبةٌ وتلبس مثل والدتي السواد وهل تمدُّ يدَها لتصافحَ الرجال ؟ قالت إنها تلبس الألوان وتصافح الرجال لكنها نصف مُحجّبة ، تُغطّي رأسها لتُخفي شعر الرأس كاملاً . ما دامت تصافح الرجال فليس لي من مشكلة معها ، طمأنتُ نفسي مُخادعاً . من خلال يدها أستطيعُ التفاهم معها ومع وحيدتها مليكة عروش إهرامات الجيزة وأنْ أمدَّ جسور الحديد لعلها تلين فتخفف من شدة غيرتها ورقابتها على مليكة الجميع . بقيتُ لأسبوعين أُمنّي النفس ولكنْ لا من أملٍ يلوحُ في الفق . لا من نصرٍ في مدينة نصر القاهرة . بقيت الرقابةُ على ( نوفو ) كما كانت من قبلُ على ( فيفا ) بل وأكثر شدّةً وصرامة . فيفا نوفا فيفا نوفو فيفا خوفو ! لم أسمع إلاّ الصدى يدقُّ أذُنيَّ ولا سيّما اليسرى لأنها الأضعف بين الأختين . حضرني السؤالُ اللعين إيّاه : هل أعيشُ حُرّاً مع قطط أو أعيشُ مقفوصاً مُعلّقاً مثل المشنوق الذي تعرفون مع عصافير أجنبية مستوردة ؟ تلك هي المسألة ! حرية مع حيوان يدبُّ على أربع أم سجن مع
طائر له جناحان يطيرُ بهما إنْ سنحت الفُرصة ؟ قبول الأمر الواقع أو مواصلة الحياة مع أمل في الحرية والتحرر ؟ أدبُّ كالقطط على أرض غريبة أو أُحلّقُ طليقاً في سماوات الكون الواسع ؟ غازلتني قططها ـ وليتها ما غازلتني ـ تُحببُ لي البقاء معها فما قيمةُ الحريّة الواسعة إذا كانت الحياةُ ضيّقة والعمر محدود ؟ إبقَ يا رجلُ معنا وكلْ ما نأكلُ من لحوم مُعلّبة لا أحدَ يعرف لأيّ حيوان تنتمي وأخرى طريّة لعلها لحوم بغال أو حمير أو خنازير وتمتعْ في ليالي الشتاء الباردة بدفء أحضان نوفو بل وبعضنا يشاركها سرير نومها وأغطيتها فالدنيا حظوظ . رايته عرضاً مُغرياً حقّاً ولكنْ ماذا عن الرقيب العسكري ذي العينين الواسعتين تريان حتى المخبوء في الظلام ؟ صرخت القطط جميعها إبقَ معنا ولا ترحلْ . إبقَ معنا واصبرْ فالصبرُ يحملُ في جيوبه مفاتيح الفَرَج . لا تدومُ الدنيا لأحد . كلُّ مَنْ عليها فانٍ . إبقَ إبقَ وإلاّ ستندم . الأمل ! الأملُ في أنْ أحظى في الشتاء ، وهو على أبواب دورة الزمن ، بحرارة صدر وفراش وأغطية الملكة الفرعونية الرومية التي خانها مارك أنطونيو فانتحرت وما زالت على قيد الحياة . إنها مجرّد حرارة مُتاحة لكنَّ مصدرها مُحرّمٌ عليَّ . يفيدُ البشرُ وغير البشر من حرارة وضوء الشمس ولكنْ مَنْ ذا الذي يمدُّ لها يداً للإمساك بها ؟ ثم إني مجرد قط في أفضل أحوالي وما يفعلُ قطٌّ مُدجّنٌ لإمرأة ؟ صاحت القطط النيلية وماءت : لا تطلْ التفكير ولا تعكّر مزاجك . < بُكرة الدنيا تروق / من أغنية مصرية لشادية > . اترك الأمر لها ، نوفو ، هي التي تتصرف مع قططها دونما مراقبة عيني الرقيب الثاقبتين كالنجم الثاقب . هي التي تملك في عَتمات ليالي فراشها مفاتيح الدنيا قاطبة وتعرف سبل بلوغ الغايات الخاصة بمتطلبات الجسد الأنثوي الناضج بهدوء تحت حرارة نيران دورات الزمان والمواسم والفصول والشهور القمرية والشمسية . دعها تفيد منك قطّاً بشرياً في أقطان وحرير وصوف فراشها والملاحف والأغطية . قطّاً في النهار ورجلاً في ظلمة الليالي بعيداً عن أشعاعات الليزر الخارقة في عيني والدتها .
أفقتُ في السادسة صباحاً من نومي فالفيتُ نفسي ثانيةً في ألمانيا لا نيلُ ولا قطط ولا عصافير . كانت جميعاً أحلام عصافير حالمة سجينة في قفص . وكانت رؤى قطط تموء في رأسي المُتعب .
0 comments:
إرسال تعليق