توبـة المتنبي/ نعمان إسماعيل عبد القادر

قصة قصيرة
شعرَ أنهُ تَمادى في غيِّهِ فقرَّرَ التَّوبةَ إِلى اللهِ.. إِلى هُنا وهذا يكفي.. هذهِ نقطةُ العودةِ. كانَ قدْ أقسمَ يمينًا غليظًا أَمامَ الملأ أنْ يقتلَ الفقرَ الذي منهُ هربَ قبلَ أنْ يقبضَ عليهِ وينهشهُ بأسنانهِ الحادةِ. عبسَ فانطلقَ يحاربهُ بكلِّ ما أوتيَ منْ قوةٍ دونَ أنْ يقفَ في وجههِ حائلٌ فداسَ في طريقهِ على كراماتِ الآخرينَ ورقصَ على آلامِهمْ.. أولادُهمْ أَدمنوا.. اعتُقِلوا.. وَتَشَرَّدُوا.. نساؤُهُمْ سَقَطَتْ.. وبيوتُهم بيعتْ بأرخصِ الأَثْمانِ. ولسانُ حالِهِ يقولُ في زهوٍ:
"لا أقولُ كما قالَ المتنبي- أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعْمى إِلى أَدَبي وَأَسْمَعَ كَلِماتي مَنْ بِهِ صَمَمُ
بل أقول: أَنا الَّذي اقْتَلَعَ الأَحْزانَ مِنْ جَسَدي وَحَطَّمَ الْفَقْرَ وَالنِّسْيانَ بِالْحَجَرِ
أَنا الَّذي اخْتَرَقَ الزَّمانَ في عَجَبٍ وَأَغْدَقَ الْخَيْرَ كَالسَّحابِ وَالشَّجَرِ"
إنهُ ومنذُ أنْ قتلَ الفقرَ، لمْ تنفتحْ شهيتهُ للنظرِ إليهمْ. كانَ كلّما تذكّرَ أيامَ الجوعِ الَّتي قضاها مع إخوتهِ الصغارِ تراءى لهُ مشهدٌ منْ مشاهدِ يومِ الحشرِ. تراءى لهُ ذلكَ الوحشُ الذي لولا تجربته الأولى في ذلكَ اليومِ وانقضاضهُ على دجاجةِ جارتهمْ سعدية، لصارَ منْ الكادحينَ. ثمَّ لماذا ينظرُ إليهمْ؟ همْ ظلَّوا فقراء واختاروا الفقرَ بأيديهمْ، فليبقوْا بينَ فكيّهِ إِلى الأبدِ.. أمّا هوَ فلا.. فقدْ طلّقهُ ثلاثًا وثلاثينَ مرةً وتبرأَ منهُ إلى الأبدِ.. نعمْ نجحتِ التجربةُ وضاعتِ الدجاجةُ.. فتّشوا عليها.. اتُّهِمَ فُلانٌ وَعَلانٌ.. فليكنْ. الْمُهِمُّ أنَّ المهمّةَ انتهتْ بنجاحٍ وهيَ خطوةُ أولى نحوَ خطوةٍ تتبعُها خطواتٌ كثيرة. العقابُ الإلهيُّ الذي تحدّثُوا عنهُ لمْ يحدثْ مثلما قالوا ولنْ يحدثَ. إِذا كانَ المغفلونَ وقوعهمْ سهلٌ فهم أهلٌ للعقاب. الدجاجةُ تبعَها أرنبٌ ثمَّ درّاجةٌ ومركبةٌ فمخزنٌ. واقتحامُ المخازنِ ليسَ بالأمرِ السهلِ إذْ يحتاجُ إلى جرأةٍ عاليةٍ وخبرة واسعةٍ وحذر شديدٍ.. واقتحام المخازن دَرَّ عليهِ أرباحًا وفيرةً. تذكّرَ الحادثةَ الأولى الَّتي قامَ فيها بسرقةِ مركبةٍ فَعَثَرَ فيها عَلى لعبةِ أطفالٍ جميلةٍ ولا يزالُ يحتفظُ فيها للذِّكرى.. راحَ يحدِّدُ الأهدافَ بدقةٍ متناهيةٍ ويرسمُ الخططَ.. وضعَ الفرضياتِ وجمعَ المعلوماتِ ثمَّ جنّدَ العناصرَ اللازمةَ لعمليةِ التنفيذِ. علميةٌ تلتْها عملياتٌ. منْها الناجحةُ ومنْها ما تَمَّ إلغاؤُها في آخرِ لحظةٍ كيْ يُعادَ التخطيطُ لها بدقَّةٍ أكثرَ، وفيما البعضُ رغمَ فشلِها إِلا أنَّهُ لمْ تُتْركْ على إثرها بصمةٌ واحدةٌ ولم يُكتشفْ أمرُ فاعليها.
ولمّا كانتْ أعباءُ العملِ تزدادُ يومًا بعدَ يومٍ صارَ يستوجبُ عليهِ افتتاح مخبزٍ للخبزِ البلدّيِّ حتّى إذا ما سُئِلَ يومًا عنْ مصدر ثروته، يعرفُ كيفَ يجيبُهمْ.. ما أكثرَ الحسّادِ في هذا العصرِ! أليسَ منْ حقّهِ أنْ يتقدَّمَ في حياتهِ؟ مخطئٌ منْ قالَ كلمةً زائدةً ليسَ لها أساسٌ منَ الصِّحَّةِ. كان يعرف كيفية احتوائهم إلى جانبه. فليمتْ كلٌّ منهمْ في نحرِهِ. ذاتَ يومٍ دعا النَّاسَ لتناولِ طعامِ العشاءِ ولحضورِ افتتاحِ معرضِ السياراتِ الدائمِ. لَبّى الدّعوةَ كثيرونَ وقاطَعَها كثيرون. لكنّ افتتاحَهُ المشاريع التالية فرضتْ عليهم تلبية الدعوة وأخذوا من يومها ينادونه "أبا حمزة". نعم " أبا حمزة" الرجل الكبير الذي صارت كلمته مسموعة عند الجميع.. يحترمه الناس ويقدِّرون تبرعاته السخية. ثمَّ كيف ينادونه باسمه من دون كنيته؟ فزكاة ماله التي يخرجها كلّ عامٍ في شهر الصيام تكفيه شهادة على صدقه أمام ربِّه والناس أجمعين.
قرر التوبة عن تلك الأرباح الخفيَّة السريعة وإن لم يعلمها إلا بعض الأخلاء.. وتوبة صادقة لا رجعة فيها عن تلك الحياة الأخرى مع عشيقاته التي لا يعرف عنها إلا هنَّ. وتوبة نصوحًا عمما سببه للآخرين من أذى.. وعاهد ربّه أن لا يعود إلى معصيته إن هو شفاه مما هو فيه.. اكتشاف الأطباء المرض أربكه كثيرًا.. صحيحٌ أنه أشبه بمرض عضال وعلاجه سهلٌ إلا أنه راح يصلي وواظب على تلاوة القرآن ساعةً عقب صلاة الفجر. قراراته الساخنة سمعها كل من عاده في المستشفى. رجال الدين سارعوا لزيارته زرافاتٍ ووحدانًا فاستقبلهم بأحسن استقبالٍ ورحب بهم أجمل ترحيب ثم شكر لهم وقوفهم إلى جانبه في محنته. وظل يكرر دائمًا: "الصحّة أعظم وأغلى من مال الدنيا"..
ثمة شيطان زاره ذات يوم فقال له ساخرًا منه: يا رجل ستشفى دون أن تمرِّغ وجهك في التراب.. أتصلي لمن خلقك فقيرًا ونبذك صبيًّا وابتلاك كبيرًا. أتسجد لمن لم يمنحك درهمًا ولا دينارًا.. أنسيت أنك خرجت من بطن الفقر بجهودك. ألا تدري أنه أعطى غيرك ونسيك أنت ذاتك. ثروتك هي ملكٌ لك.. ألم يعطهم والمال والجمال والسلطان؟ وُلدوا وفي أيديهم ملاعق من ذهب وهم يتقلدون عقودًا من اللؤلؤ المكنون. أيستحق مثل هذا العبادة؟
من مرضه شفي تمامًا.. بيد فترة النقاهة التي قضاها في أمستردام بصحبة إحدى عشيقاته التي لم ينقطع عن الاتصال بها حتى في أسوأ الظروف، أعادت له حيويّته ونشاطه. بعثت فيه روح الشباب ونبض الحياة. نظر من نافذة الطائرة وقال في نفسه متحسّرًا: الحياة هنا لا حياة بعدها. الجمال والماء والوجوه الحسنة. تكفيهم الحريّة التي يفتقدها الناس في حياتهم في بلادنا.
صوب غيّه القديم عاد مسرعًا وهو يحنُّ إليه. لم يكن في مقدوره التخلّي عن مشاريعه التي استثمرها بكل بساطةٍ. لكنّه أثناء عودته تلقفته يد القدر.. عاد من ليله يقود السيارة مخمورًا. ولم تنجح محاولات عشيقته عن ثنيه عن قيادته المركبة بالحال التي هو عليها. قال لها بصوتٍ مخنوقٍ: " أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمع كلماتي من به صممُ"
لم يكد يقطع الإشارة الحمراء حتى داهمته شاحنة فسحقته مع سيارته.

CONVERSATION

0 comments: