وهج الجمر الكامن تحت الرماد/ محمود شباط


في صباح صيفي مشرق كان الشيخ تقي الدين الصخراوي يجلس على كرسيه أمام خيمته الزراعية المنصوبة في السهل. يُبـَرِّدُ رجليه بمياه الساقية ويحادث شقيقه أسعد الذي يعمل لديه كمراقب على المزارعين ويُشـَغـِّلُ محرِّكَ مضخة البئر الأرتوازي. على بعد أمتار من الشيخ سيارته الفارهة وبيده سبحة الكهرمان النفيسة المثقلة بالشرابة الذهبية. وعلى طاولة خشبية يستخدمها كمكتب صينية الفواكه وأبريق الماء ودفاتر واوراق وعدة أجهزة هاتف جوال. رن أحدها فوضع الشيخ نظارتيه السميكتين على عينيه وتحقق من الرقم ثم أسكت الجهاز. رن آخر فتحقق من الرقم أولاً ثم أحال المتصل بلامبالاة على أسعد. رد أسعد، امتقع وجهه وأخبر الشيخ بما يريده المتصل ولكن الشيخ بقي جامداً كجلمود صخر ولم تتحرك شعرة من شاربيه.
طلب الشيخ من أسعد أن يجلب له ملف المصاريف والإيرادات ، تصفحه كما كل يوم ليتنتشي بزيادة جديدة في رصيده ، كما للتفكير في وسيلة جديدة لزيادته أكثر وأكثر، شرع يفكر بالوسيلة. قطع عليه أسعد حبل أفكاره ليخبره بأن قريبهما عساف الصخراوي ومنور البياري يبذران أسرار العمل ويقولان للمزارعين بأنهما سألا تجار الجملة في سوق الخضار في بيروت واكتشفا بأن التجار يدفعون للشيخ ضعف الأسعار المسجلة بالفواتير التي يحاسب الشيخ المزارعين على أساسها . وسأله أسعد : شو بدنا نعمل؟ .
لم يرد الشيخ لأنه يحتفظ لنفسه بسر الرد الذي يرتأيه. زاد من تجهمه واستأنف التفكير في طريقة للمزيد من الكسب، مرة أخرى قاطعه أسعد : سمعتُ بأن عددا من أصحاب الأراضي لن يقبل بتأجيرها لك بـ 5 دولار للدونم كل موسم .
التفت نحوه الشيخ بتضايق وقال له : فليتركونها بوراً وسوف أزرع ما حولها ولن يستطيعون الوصول إليها . لن أزيد لهم قيمة الضمان وليُبلـِّطوا البحر. عليهم أن يعلموا بأن علي تكاليف أخرى كثيرة، قل لهم ! اشرح لهؤلاء الغبياء بأنني أقدم للمزارعين البذار والشتل ومياه الري وأتولى تسويق الإنتاج عنهم، على أصحاب الأراضي أن يشكروني لأني أفلح أراضيهم بدلاً من أن تبقى بوراً وتقسى تربتها، ولو كنت جشعاً لطلبت منهم قيمة الفلاحة. نبرها الشيخ بصوت عال فعرف أسعد بأن شقيقه لن يتحمل المزيد من الأخبار فلاذ بالصمت وراح يفكر بما يقوله الناس عن الشيخ الحوت الجشع والذئب المتسلط ، النصف أمي، الداهية بدماغ استراتيجي المكائد الناعمة، يدَّعي العلمانية بحضور أصدقائه من الطوائف والمذاهب الأخرى ولا يوظف سوى أبناء مذهبه المقربين منه، والذي يجلد بسياط كلام يوجع ولا يدمي ويرفقه بابتسامة خبيثة تخدر المتألم كي ينسى الوجع أو يتناساه.
ران الصمت على الجليسين أمام الخيمة ، الشيخ لازال يتصفح الملف ثم خرق الصمت بسؤال وجهه إلى أسعد :
- كم تكلفنا عملية الحفر في قطعة الأرض الكبيرة الخاصة بي ؟
- دفعنا في السنة الماضية 3 آلاف دولار .
- لن ندفع شيئاً هذه السنة !
- كما تشاء . قالها أسعد ولاذ بالصمت ولكن عيناه كانتا تسألان : كيف ؟

لم تفت الشيخ الداهية تلك الحيرة فوضع اصبعه على صدغه: اليوم الأحد ؟ أليس كذلك؟
- أجل .
- إذن نقيم مباراة بين المزارعين يوم الأربعاء القادم، ومن يفوز ندفع له مئة دولار. سوف يتسابقون لكسب مئة دولار في اليوم للفائز الأول ، وخمسن للفائز الثاني، وخمسة وعشرين للفائز الثالث . ثم صمت الشيخ للحظات واطال تفرسه بوجه أخيه : ولـِمَا لا تكون أنت معهم؟ أيضرك ذلك المبلغ الدسم ؟
ارتسمت على فم أسعد ابتسامة عتب صفراء وهو الذي يعلم بأن قدرته الجسدية لا تؤهله للفوز بمباراة من هذا النوع سيخوضها الماردان عساف الصخراوي ومنور البياري ، ومع ذلك سيستغله شقيقه ليلتهم المزيد من ملح عرقه ودمه دون اعتبار للأخوة وصلة الرحم . حينها استرجع أسعد في باله ما يردده البعض عن أخيه بأنه يتظاهر بفعل الخير ويمارس عكسه وبأن هيبة العمامة ونفوذه المالي يحميانه من الإنتقاد العلني على الأقل. ويتندرون على ولاء الشيخ السياسي الزئبقي المناخ الذي لا يبتعد كثيراً عن جيبه. لا أحد بالضبط يعرف مع من يقف الشيخ. تارة يناصر تحالف 14 آذار وطوراً يزايد على تحالف 8 آذار ويستخدم ميوله المتقلب في بث الشقاق بين المزارعين. إنما بروية سياسي محترف ينتقي كلماته المنمقة المرتبة ، ودائماً بما يناسب ويخدم نفعيته.
لن يرفض أسعد اقتراح أخيه مباشرة لأن الشيخ لا يحب أن يسمع كلمة "لا". فبرك أسعد رداً اعتذارياً على أخيه : لدي مراجعة لدى الطبيب يوم الأربعاء القادم ، وعلي أن أرتاح ليوم قبلها ويوم بعدها لعمل الفحوصات .
أدرك الشيخ بأن أسعد يتهرب بدهاء لا يقل دهاء عنه ولكنه لم يصبح ثرياً بعد لأنه لازال أسير مكابح ضميره فأعفاه من المباراة لأنه لا يستغني عنه كمساعد له. أعفاه إنما بتمنين.
في اليوم التالي، وكان نهار اثنين، جمع الشيخ المزارعين في خيمته. تحدث بإسهاب عن خسائره المزعومة ثم عن الضائقة المالية التي يمر بها البلد وأطلعهم على فكرته بخصوص المباراة وكم ستكون الجوائز مفيدة بالنسبة لمن يفوز بها. وبينما هو يكلمهم كان يرى في عيونهم ارتياب الضعيف المغلوب على أمره والذي يعرف بأن الشيخ تقي الدين ليس تقياً ولا شيخاً، ولكن الجميع يغدقون عليه التبجيل ويُسبـِقون اسمه الموقر بعبارة "شيخنا" أو "حضرة الشيخ" . رغم أنهم يعلمون أو، على الأقل سمعوا ، بأن الشيخ تقي الدين كوَّن ثروته من غسيل الأموال وتهريب الممنوعات في أميركا اللاتينية.
في يوم الثلاثاء ، قبل المباراة بيوم واحد تناهى إلى مسامع الشيخ ما كان قد سمعه من شقيقه عن تحريضات عساف ومنور للمزارعين ، تأكد له بأن قريبه عساف الصخراوي الذي يناصر تحالف 14 أذار ومنور البياري الذي يؤيد 8 آذار، وأقرب الأصدقاء لعساف يبذران أخباراً تؤكد بأن الشيخ يسرق تعب المزارعين ويتلاعب بالفواتير بالتواطؤ مع تجار الجملة في سوق الخضار في بيروت.
قرر الشيخ أن يدق اسفيناً بين الشابين الصديقين واستدعاهما على الفور إلى خيمته. اجلسهما على يمينه وعلى شماله. مال نحو اليسار و ربت على كتف منور وسأله:
- متى سيتخرج شقيقك ريان من كلية الحقوق ؟
ابتسم منور بارتياب لسؤال الشيخ عن شقيقه التوأم ريان الذي يشبهه إلى حد التطابق ولا يميز بينهما سوى أهلهما وقلة من أقاربهما المقربين. ورغم شكه بنية الشيخ رغب في معرفة المقصود متأملاً بأن يعرض عليه الشيخ وظيفة لريان، أحب أن يتأكد فرد على الشيخ :
- لماذا يا حضرة الشيخ ؟
- أحتاج إلى محام شاطر.
بذلك الوعد المعسول بدأ الشيخ باختراق نسبي لمناهضة منور له فصار الشاب يبادله مكراً بمكر ويتظاهر بالتودد إليه، وبدوره صار الشيخ يساير منور في مناصرته لتحالف 8 آذار. ثم مال الشيخ إلى اليمين وربت على كتف عساف وطمأنه :
- الجائزة والفوز بانتظار من يستحقهما. ثم هزه بقوة على كتفه محمساً بل محرضاً.
شكره عساف على إطرائه بعدم اقتناع واستمر في التسلية بحبات سبحته بينما استمر الشيخ في كلامه وحدثهما طويلاً محاولاً بين العبارة والعبارة أن يحدث الوقيعة بينهما ولكنهما لم يقعا في شراكه. ثم ومضت الفكرة التي ستفجر أساسات الصداقة والأخوَّة حتماً فنكأ الشيخ جرح 7 أيار منتقداً المقاومة فانبرى منور للدفاع عن جماعته وبأن من حق المقاومة ألا تـُسلـِّم رقبتها للعدو وتنكشف أمامه كرمى لعيون عملاء أميركا وإسرائيل. اتهام منور لحركة 14 آذار بالعمالة استفزعسافاً فرد بسرعة : وهل تجرأ أحد على اتهام "بابا الشيوعية" جوزيف ستالين بالعمالة لأميركا وبريطانيا عندما تعاون معهما في الحرب العالمية الثانية؟ . ثم لنفترض أن حركة 14 آذار أخطأت في اتخاذ القرارين المشؤومين ، أريد ان أفهم لماذا تتذكرون القرارين وتنسون أن من اتخذهما تراجع عنهما في 5 أيار حين وضع القرارين بتصرف قيادة الجيش ؟ .
شعر منور بأنه سيخسر صديقه فيما لو استمر بالجدال فحول الجد إلى مزاح ولكن ذلك لم يرق للشيخ فاستمر في النفخ بالجمر ودز بوقدة أخرى في أتون الجدال الساخن وقهقه : وضع القرارين بعهدة الجيش لوضع الجيش في مواجهة المقاومة !
رد عساف مستنكراً : بل ثقة بقيادة الجيش وحكمتها ورويتها وحرصها على مصلحة المقاومة والوطن والشعب، واعتبار ذينك القرارين بأنهما صارا بحكم المُجمَّدَين الميتين بعد أن أصبحا في عهدة الجيش، فلو صلحت النيات لدى الطرف الآخر لما كان هناك من داع للقيام بما قام به في 7 أيار. الملامح المحتقنة الغاضبة المتبدية على وجه صديقه منور حدت بعساف لتبريد حدته وللمسايرة والتجمل فأكمل بصوت هادىء بأنه وكل الغيارى على المقاومة لا يتمنون أن تستمر في نهج الإستقواء والتهويل وانحراف بوصلة فائض القوة نحو الداخل ورفع شعار استخدام السلاح لحماية السلاح كي لا يرفع فريق ما ، في يوم ما شعار المقاومة على المقاومة، وبأن لا أحد يرغب في التفريط ببطولات وتضحيات المقاومة كي لا نقدم أفضل هدية للعدو حين نتلهى بمقاتلة بعضنا البعض.
عبارة "المقاومة على المقاومة" استفزت منوراً وهـَمَّ بالرد ولكنه تريث حين دخل في تلك الأثناء عدد من المزارعين الذي سلـَّموا على الشيخ وجلسوا. طلب لهم الشيخ الشاي وعدَّلَ جلسته لتتناسب ومقام مشيخته ، جال بعينيه الحمراوين على الحضور وشرع بتذكيرهم بشروط وحوافز مباراة الحفر في أرضه. لم يعترض أي منهم فاعتبر بأنه حاز على موافقة الجميع للمشاركة في المباراة في صباح اليوم التالي.
مضي دقائق منذ دخول المزارعين برَّد المناخ المحتقن وأسهم في تأجيل رد منور على عساف، حتى أنه فكر في صرف النظر عن الرد كي لا يخسر صديق العمر رغم امتعاضه منه. سبب آخر أجبره على السكوت هو خشيته من اشتعال فتيل عراك بين الفريقين من الحضور. ولكن الشيخ كان في واد آخر، مصلحته تقتضي اشتعال كل الفتائل، إذ ما إن أنتهى مما يريد أن يبلغه للمزارعين حتى عاد إلى التحريض مذكراً بأن المقاومة قد قامت بما قامت به في 7 أيار للتذكير بأنها ليست لقمة سائغة وبأنها لن تسكت بعد الآن عن استفزاز من قبل كائن من كان. ولصب المزيد من الزيت على النار التفت إلى منور سائلاً كما لو كان يحضه لاستئناف الجدال : أليس كذلك يا منور ؟
بقناعة هز منور رأسه عدة مرات فانفعل عساف و استشاط غضباً من لغة التهديد والتخويف وشرع يرشق كلاماً قاسيا ينال من المقاومة ومن يناصرها فردَّ عليه منور بشتم وتخوين حركة 14 آذار واختلط الحابل بالنابل وعلت أصوات جميع الحضور واستنفروا وقوفاً. وحين رأى الشيخ بأنه قد أفلح في إيصال الأمور إلى حافة الهاوية، وهو الخبير المشهود له بالتعامل مع حافة الهاوية ، وليس من مصلحته أن تذهب الإشكالات إلى أبعد من ذلك أمر بالتهدئة صارخاً بوعظية دجلية : يا جماعة ! هذه عين وهذه أختها ، ثم أكمل بكلماته المنمقة المنتقاة من أفضل القواميس الدبلوماسية كالقحبة المحاضرة بالعفاف فهدأ الجميع تدريجياً. فوجىء بهدوء أكثر مما يرغب به ويناسبه. ومع ابتعاد الفريقين عن حافة الهاوية رشف الشيخ كوب الشاي بعصبية مرة واحدة ثم أشار إلى منور كي يقترب منه حيث هو جالس في صدر الخيمة وهمس بأذنه بـ "نصيحة" تضمن له الفوز على أقوى منافسيه : صديقه عساف ، فهز منور رأسه عدة مرات ما زاد في ارتياب عساف وكرهه لصديقه منور الذي حسبه صار في صف الشيخ ضده ، وقرر مقاطعته والفوز عليه بالمباراة بأية وسيلة.
زرعُ الشيخ أثمر افتراقاً على خصام وزعل بين الشابين الصديقين وانقطع التواصل بينهما، وكذلك غادر الآخرون بجو مسموم.
في منزل أهله أفصح منور لوالدته عما نصحه به الشيخ تقي الدين فلطمت عينيها وفمها استغراباً واندهاشاً وتعجباً واستنكرت وأوضحت لولدها بأن أمثال الشيخ لا ينصحون إلا إذا كان لهم مصلحة بنتيجة تعود عليهم بالنفع وتضر الغير. وبأن قصد الشيخ من النصيحة هو زرع بذرة خلاف بينه وبين صديقه عساف وحفر أرضه الواسعة سخرة. اقتربت منه أكثر واحتضنته كما يوم كان طفلاً . كررت رجاءها وأوصته بحرقة قلب الأم ألا يقبل بما قاله الشيخ. تفرست بوجهه وقرأت ملامحه، لم يقتنع بعد ، رجته مرة أخرى أن يحافظ على صداقة عساف فقال لها بضيق بأن عساف لم يعد صديقه و هو غير آسف على خسارته لتلك الصداقة. لم تحتمل وقع الخبر ولم تعد رجلاها تحملها فهوت على مقعدها فاغرة فمها وعرفت بأن الشيخ أوقع بينهما . وقفت متسمرة في مكانها متخوفة تهجس بما ستؤول إليه الأمور غداَ تردد كلاماً كثيراً فهم منور منه بأن "المنتصر على أخيه مهزوم" . تركها منور خوفاً من أن تقنعه واتجه إلى فراشه.
في عتمة غرفته كان منور يسترجع تحذيرات أمه التي يثق بسداد برأيها. ولكنه مال إلى ما تغريه به نصيحة الشيخ. تمدد على فراشه ونام .... إنما بقلق . وفي اليوم التالي بكـَّر في نزوله إلى السهل للمشاركة في المباراة.
في صباح الأربعاء الباكر الجميل المترع بأجواء التنافس والتحدي والحقد والكيد والفرقة بين منور وعساف، وبينما كان المتبارون الآخرون يكدون بالحفر بنشاط وحماس، كان عساف يبذل جهداً مضاعفاً كي لا يترك أدنى فرصة لمنور بالفوز ، كما كان منور يكافح كي يهزم عساف.
في تلك اللحظات كان السهل ينهض من هجوعه كطفل باسم يفيق على رؤية وجه أمه. اطلت بوادر بهير الشمس من بين قمتي الجبال الشرقية، وبعيد دقائق شع مصباح السماء ليغمر السهل بمزارعه وحقوله، الريح الغربية تدغدغ الأجساد الساخنة المتعرقة لعشرات الشباب المنكبين بحماس على الحفر بينما الشيخ يتفرج عليهم من على كرسيه المريح في خيمته، سعيدا بنجاح خطته التي كانت تطلق غيومها السوداء لتعكر صفاء اللوحة الطبيعية البانورامية البكر، حيث تتماهى أهازيج ريح الريف العذبة وشدو العصافير الراقصة على الترانيم الآتية من البعيد من محركات مضخات المياه التي تسقي الجهة الأخرى من السهل.
انطلقت صفارة المراقب أسعد فعاد المزارعون ليحظى كل منهم باستراحة ربع ساعة في خيمته. سكب منور لنفسه فنجان قهوة ثم آخر ثم آخر من رفيقه الدائم "ثرمس القهوة" واشعل لفافة تبغ من لفافة كان يدخنها.
بعد الإستارحة الثالثة فرك منور يديه ابتهاجاً بتقدمه الكبير على خصمه عساف، شعر بامتنان للشيخ. ثم عاد ليتفكر في بعض ما قالته له أمه بأن "المنتصر على أخيه مهزوم". لم يتوقف كثيراً عند تلك الهواجس بل مال لإقناع نفسه: ما هـَمَّ ؟ طالما أن نصيحة الشيخ ستضمن له الفوز المؤكد بالبطولة والجائزة والإعتزاز بالقوة وهزيمة غريمه عساف الذي لم يعد مجرد خصم سياسي بل عدو لدود.
بعيد الظهر كان الغريمان القويان منور وعساف يجدَّان بالحفر في قطعتي أرض متجاورتين، يراقب أحدهما الآخر وهو يلهث ويكد ويعرق ويبذل أقصى ما بوسعه للفوز، حينها بدا التعب على عساف ولكن غريمه منور كان يتمتع بنشاط يتجدد ويزداد بعد كل استراحة ما أثار حيرة جميع المزارعين ودهشتهم وعلى الأخص عساف ، ولكن ليس الشيخ و لا منور ولا شخص آخر سنعرف اسمه لاحقاً.
بعد أن غاب نصف قرص الشمس خلف التلال الغربية بدأت حركة المزارعين والدواب والعربات والعصافير تخف مع تنامي دبيب الغسق . أطلق أسعد صفرة طويلة إشارة إلى انتهاء المباراة فانطلق الشيخ ومعاونوه بجولة ليقيسوا كميات الحفر التي أنجزها المزارعون فتبين بأن منور هو من فاز بالجائزة، احتفى منور على طريقته بفوزه بعدة قفزات بالهواء وصرخات ابتهاج. ابتسم الشيخ وشرع في استكمال حبكته الفتنوية فأشار لعساف الغاضب المتحفز كي يقترب منه وهمس في أذنه بعبارة قصيرة فهجم عساف على صديق عمره منور واشتبك الشابان في عراك أدميا بعضهما البعض، وكالعادة أوقف الشيخ المعركة كونه ارتأى وجوب إيقافها. أنهى الإشتباك ولكن بعد أن ضمن بأن الصديقين الحميمين أصبحا عدوين لدودين وكل منهما صار بحاجة لدعمه له. أملى عليهما وجوب التصالح وتبويس اللحى فتصالحا ، ثم دعا الجميع لشرب فنجان قهوة في الخيمة وتبعه الآخرون، في طريقهم إلى خيمة الشيخ. تقصد الشيخ فضح المستور من نصيحته لمنور ولتأجيج النزاع مرة أخرى بين منور وعساف فعمد إلى المرور على خيمة منور ودخلها بفظاظة وصفاقة فدخل خلفه من دخل ورفع ستار خيش حيث رأى الجميع رياناً ، الشقيق التوأم المطابق بالشكل لمنور يكمن القرفصاء ويرتجف في مخبأه السري خلف ستار الخيش. حينها عرف الجميع سر احتفاظ منور بقوته وحيويته حين رأوا التراب على رأس ريان وملابسه المماثلة لملابس منور. وعرفوا بأن الطالب الجامعي ريان كان ينوب عن أخيه بالحفر حين يتعب منور.
على وقع مفاجأة الحضور وقهقهة الشيخ وانخذال منور وأخيه أشفق عساف على نفسه وعلى الشابين الشقيقين الضحيتين، بدأ يدرك حجم المأزق- الفتنة الذي تورط فيه وكيف لعب الشيخ لعبته بينه وبين منور وخرَّب بأيام قليلة علاقة صداقة وأخوة عمرها من عمر الشابين الصديقين. كز عساف على أسنانه غضباً من الشيخ وكـَوَّرَ قبضته للكمه على فمه واحتقنت أوداجه كرهاً له ولكنه لن يجرؤ على مس شعرة من جسد الشيخ. استدرك سوء العاقبة و قرر أن يكيده ويحاربه بسلاحه فعض على جرحه وتحامل على زعله فاقترب من صديقه منور وعانقه واعتذر منه وعاتبه همساً على غفلتهما كونهما قـَبِلا بأن يكونا شريكي الشيخ في فتنته بينهما.

الخبر في : 06/11/2010

CONVERSATION

0 comments: