إصدار مجموعة قصصيَّة جديدة للأديب الشَّاعر صبري يوسف

أصدر الأديب والشَّاعر السّوري صبري يوسف مجموعة قصصية جديدة في ستوكهولم عن طريق دار نشره، تتضمَّنت المجموعة 10 قصص قصيرة، نشر أغلبها عبر الصحافة الورقية والإلكترونية، وهي المجموعة الثانية بعد مجموعته الأولى "احتراق حافات الرُّوح" التي نشرها في عام 1997، والتي تتضمَّن هي الأخرى 10 قصص قصيرة.
يغلب على مجموعته الجديدة طابع الفكاهة والكوميديا في بعض القصص والشوق والحنين والحب والفرح في بعضها الآخر ونقد بعض العادات والتقاليد الاجتماعية أيضاً.
كتب هذه المجموعة ما بين عامَي 1996 ـ 2009 وهناك مجموعة قصصية أخرى مخطوطة، يشتغل على صياغاتها الأخيرة وهو بصدد نشرها في العام القادم، مع مجموعة قصص قصيرة جدّاً، لأن فضاءات القصص القصيرة والقصيرة جدّاً متقاربة لبعضها بعضاً، لهذا أجَّلَ نشر المجموعتين إلى العام القادم كي يتفرّغ كلياً لنشر نصّ أنشودة الحياة بأجزائها العشرة خلال هذا العام 2012.
تضمّنت المجموعة الجديدة القصص التالية:
1. ترتيلةُ الرَّحيل ـ تراجيديّة شاعريّة
2. الذِّكرى السَّنوية ـ فكاهيّة
3. الكرافيتة والقنّب ـ فكاهيّة
4. أنا والرَّاعي ومهارتي بِبَيعِ العدس ـ فكاهيّة
5. عذوبة القهقهات ـ فرحيّة فكاهيّة
6. اللُّحية واللّحاف ـ فكاهيّة نقديّة
7. عمّتي تشتري عظامها من الله ـ فكاهيّة نقديّة
8. حنين إلى تلاوين الأمكنة والأصدقاء ـ شوقيّة
9. فراخ العصافير ـ فكاهيّة حنينيّة: حنين إلى الطُّفولة
10. غيمة وارفة في مذاقِ العناقِ ـ (ايروتيكيَّة شاعريّة)
إليكم قصة الكرافيتة والقنّب وفراخ العصافير

الكرافيتة والقنّب
             
كان والدي محتاراً بإحدى مشاكله المرتبطة بغنمته، حيث بذل قصارى جهده لمعالجة أمورها .. كان بحاجة ماسّة في ذلك اليوم أن (يكزلَ*/يجدلَ)  لغنمته حبلاً لا يضاهيه حبلاً آخر .. والمعروف أنَّ والدي لا تخلو جيوبه من الخِرَق الصَّغيرة والقنَّبات والخيوط الملوَّنة، إلا أنّه كان قد ملَّ تماماً من هكذا أصناف من الخيوط والقنَّبات، فما وجد نفسه إلا وهو يفتح خزانتي التُّوتياء العاجَّة بالكرافيتات من كلِّ الأشكال والألوان، فلم يتردَّد ثانية واحدة من إختيار كرافيتة ملوَّنة بألوان تأخذ العقل، فتناول هذه الكرافيتة من بين أكوام الكرافيتات، هامساً لنفسه:
كيف سيعرف صبري أنَّ هناك كرافيتة ناقصة أمام هذا (الّلود*) من الكرافيتات؟ .. أمسك الكرافيتة من نهاياتها، وبدأ يمطِّيها بطريقةٍ، بحيث لا تنقطع كي يعرف مدى مرونتها وقوَّتها، ثمَّ خرجَ إلى ذلك البلكون الفسيح. جلس على دوشكايته* الصَّغيرة وأخرج من جيوبه خيوطه وبدأ يكزلُ قنّبه ليصنع منه حبلاً لغنمته على مزاجه، واضعاً في الإعتبار انَّه سيتمكَّنُ من انجاز مشروعه قبل أن آتي من دوامي، إلا أنَّه لم يضع في الإعتبار أنَّ لديّ حصة فراغ وسآتي مبكَّراً في ذلكَ اليوم.
عبرتُ ساحة الدَّار، وعندما شاهدني والدي لملم مباشرةً نهايات خيوط قنَّبه ووضعه تحت إبطه ليخفي ما تبقّى من الكرافيتة .. وكانت بدايات الخيوط مربوطة في إبهام قدمه اليمنى..وكان حبله مكزولاً بشكلٍ أنيق ملفت للإنتباه، وفعلاً جذبني حبله بألوانه الجميلة، فقلت له بابا أشْ حبلك حلو! .. فضحكَ وقال: هذا الحبل الحلو هو خصوصي لغنمتي ..                            
عندما أمعنت بألوانه الجَّميلة، شعرتُ أن حبلاً جميلاً كهذا يليق أن يكون في أعناق غير الغنم، فقلتُ لوالدي من أين لكَ هذه الألوان الجميلة يا بابا؟ ابتسم وهو يضحكُ بطريقة هادئة وبثقة عالية، محاولاً أن يشتِّتَ الموضوع وقال لي بدعابة أبويّة: روح طلِّع في المطبخ، أمُّك قد عملَت لكَ أكلاً طيّباً. فقلت له: لستُ جائعا الآن يا بابا.. لاحظتُ أنّه توقَّف عن الكَزْل، فقلت له لماذا لا تتابع كَزل الحبل؟ .. فقال: أريد أن أرتاح قليلاً. ولفتَ إنتباهي أنَّ نهايات الحبل غير المجدول ململمة تحت إبطهِ، فقلتُ له لماذا لا ترتاح قليلاً، هل سيهرب الحبل، ولماذا حشرتَ نهايات حبلكَ تحت إبطك؟ فقال بطريقته الساخرة، وإذا هرب شو بدّي أعمل! .. دخلت المطبخ .. راودني أن أراقب والدي، فضول قويّ دفعني أن أراقبه، بعد أن أحسَسْتهُ أنَّني أعطيته الأمان وتركته وشأنه، فما وجدتُه بعدَ لحظات، إلا وهو يبدأ بسرعة بكَزْل حبله، فتراخى إبطه وسقطت نهايات القنَّب على جانبه، فبدَتْ كرافيتتي الحمراء والبيضاء والخضراء الرَّفيعة، تتوارى سريعاً داخل الحبل المجدول، آنذاك عرفتُ أنّه انقضَّ على فريسته مستغلاً غيابي، فتركته يتابع عمله .. لكنّي خرجتُ من المطبخ وفاجأته قبل أن ينتهي من طمس معالم فريسته داخل حبله، وعندما وجدني لملم نهايات القنّب ووضعها تحت إبطه مرّةً أخرى .. ووجدته هذه المرّة مرتبكاً قليلاً..وبادرني بسؤاله؟ هل أكلتَ؟ فقلت له لا، سأنتظر حتّى تنتهي وسنأكل سويةً. فقال لي أنا أكلت، بإمكانك أن تأكل لوحدكَ. مع يقيني أنَّ والدي ما كان قد أكل بعد. وبعد حوار قصير بدأت أداعب والدي وأمزح معه ثمَّ تذكَّرت أن والدي (يتدغدغ) من خاصرته وإبطه، فبدأت أدغدغه  من خاصرتهِ، ضحكَ راجياً إيّاي أن أتوقَّف عن دغدغته، لكنّي لم أصغِ إلى رجائه، تابعتُ أدغدغه، فتعالى ضحكه وفقدَ السَّيطرة على إحكام إبطه على خيوط القنّب، فسقطَت نهايات القنَّب على ركبتهِ، كانت كرافيتتي تحني رأسها المدبَّب نحوي وكأنَّها تطلب النَّجدة  كي أنقذها من هذا الإنحباس الّذي حبسها فيه! فقلت: بابا! .. أجابني بلطف:
أيشْ ابني! فقلتُ له: أَليسَتْ هذه كرافيتتي الحمراء الرَّفيعة؟ فقال وهو يضحك ممازحاً إيّاي، أشْ عليك يختبي على الله ما يختبي، بلى والله يا ابني هذه هي كرافيتتك الحمراء الملوَّنة. ولماذا أخذتها وكزلتها مع خيوطكَ وقنّباتكَ؟ .. بصراحة منذ الصَّباح وأنا أبحث عن قنَّبٍ أو خيطٍ رفيع وحلو وقويّ، بحيث يتناسب مع الحبل الّذي أريده لغنمتي، فلم أجد أجمل وأنسب من كرافيتتكَ، لهذا أخذتُ كرافيتتكَ .. ثمَّ غمره الضّحك، كي يحسِّسني بأنَّه لم يعمل خطأً أو شيئاً غريباً.. فقلت له: لكنِّي كنت أحبُّ هذه الكرافيتة كثيراً جدّاً يا بابا و... فقال مقاطعاً أيّاي: ولكنَّكَ لم تحبها مثلما أحببتها أنا! ثمَّ تابع حديثه قائلاً: أنت عندكَ عشرات عشرات الكرافيتات غيرها، فهل ستخرب الدُّنيا لو أخذت واحدة منها؟! انتابتني في تلك اللَّحظة نوبة ضحك خارجة عن المألوف ثمَّ أردفتُ قائلاً له: والله العظيم معكَ حقّ .. خيّو ألف مبروك على غنمتكَ كرافيتتي! 
عنـدما سـمعني أُبـارك لـه عـمله، سرعان ما وجدته يمسك نهايات كرافيتتي وقنّباته، متابعاً (كَزْل) حبله بشغفٍ كبير!!
ستوكهولم: صيف 1996
هوامش:
*يَكْزِلُ: كلمة عامّية تعني يجدلُ.
*الّلَوْد: الكومة الكبيرة، والفلاحون الآزخيون كانوا يقولوا لَوْد تبن، كومة كبيرة من التّبن ..إلخ
*دوشكاية: فراش صغير يصنع باليد، تصغير دوشك، والدُّوشك، يعني: فراش.
فراخُ العصافير

إهداء: إلى طفولتي،
وأسرتي الَّتي كانت تعانقها سهول القمح أيام الحصاد!
أحنُّ إلى أيامِ الحصاد. كنتُ أتوه بكلِّ شغفٍ بينَ متاهاتِ الحقول، ألملم النَّباتات الملوّنة بأبهى أنواع الزُّهورِ، تتراقصُ أمامي صوراً ومشاهدَ مسربلة بين طيّاتِ الغمام. عندما كنتُ طفلاً، كنتُ أعبرُ البراري الفسيحة، أركضُ خلفَ الفراشات والجراد الأخضر. أهربُ من لملمةِ باقات الحنطة. كانت أمّي تقول لأسرتي دعوه يفرحُ معَ عوالمِ الفراشات والعصافير.
أتذكّرُ جيداً كيف قادتني إحدى الفراشات إلى أعماقِ الحقل وإذ بي أمام عشِّ عصفورٍ فيه فراخ صغيرة تفتح مناقيرها عطشاً.. تساءلتُ، هل هذه الفراخ عطشى مثلي أم أنّها تتوقُ إلى أحضانِ الأمِّ .. ركضتُ نحو جرّةِ الماءِ ثمَّ عدْتُ حاملاً في يدي الصَّغيرة طاسةَ ماءٍ، فقالت أمّي لمن هذا الماء يا ابني؟ ركضتُ نحو الجهة المعاكسة لأهلي قائلاً، لفراخِ العصافير، ضحكَتْ أمّي ثمَّ قالت، ونحن ألا نستحقُّ قليلاً من الماء يا ابني؟ سآتي حالاً يا أمّي، تهتُ عنِ العشِّ ولم أهتدِ إليهِ لأنّه كانَ وسطَ الحقلِ ثمَّ جلستُ وحيداً وسنابل القمح تحضن دمعي .. قَلِقَ الأهل عليّ عندما طال بهم الإنتظار، وخافوا أن تكونَ قد لسعتني أفعى في قيظِ تلكَ الظَّهيرة في رحاب الحقلِ.. ثمَّ استنفروا يبحثون عنّي فوجدتني أختي، زغردَتْ وقالت هوذا صبري ثمَّ حملتني وهي تمسح دمعي، فبكيتُ  أكثر، سألتني أمّي ماذا تريد يا ابني؟ قلتُ لها ضيّعتُ الطَّريق إلى عشِّ فراخِ العصافيرِ! .. ضحكوا، فجنَّ جنوني وطلبتُ منهم أن يمشّطوا الحقل بحثاً عنِ العشِّ. تلكؤوا في بادئِ الأمرِ لكنّي بدأتُ أبكي بصوتٍ عالٍ، فما وجدوا بدّاً إلا أن ينصاعوا إلى أمري، وبدؤوا  يبحثون عن العشِّ، أمسكَتْ أختي يدي ونحنُ نمشي. بعد لحظات سمعتُ أمّي وهي تهلهلُ (كليليليليلي!)، هوذا العشُّ يا صبري!
ركضتُ بفرحٍ، آهٍ .. ولكن أين طاستي؟ قلتُ لأختي اركضي، نسيتُ طاستي هناك عند دمعتي، ركضَتْ أختي مثل البرقِ ثمّ جاءَت تحملُ رغبتي، أمسكتُ الطَّاسة ثمَّ وضعتُ اصبعي في الماءِ وبدأتُ أنقِّطُ قطرات الماء في حلقِ الفراخِ وهي تفتحُ مناقيرها الغضّة، نظرَ والدي إليَّ بتمعُّنٍ ثمَّ همسَ متمتماً مع أمّي، كنتُ غائصاً في عوالمِ الفراخِ،  أُغدِقُ على حلوقهم العطشى مطري، سمعتُ والدي يقول لأمّي هذا الولد (مو عادي)، فقالت أمّي (خلّي) يفرح مع فراخ العصافير، فقال لها (خلّي) يفرح لكنّه شديد الحساسية إلى درجةٍ لا يتصوّرها عقلي، وأخافُ عليه من الجنون، جنونُ الحبِّ والعشقِ، جنونُ التَّواصل مع اخضرارِ الكونِ!
.. فَرَحْتُ عندما شبعَ الفراخُ ثمَّ أمسكتُ الفراخ بيدي وبدأتُ أداعبُ زغبها النديِّ، أتذكَّرُ أنّني قبَّلتها .. كنتُ أشعرُ وكأنّها تشكرني، كانت عيونها الصَّغيرة تنظرُ إلى عيوني، هل فهمَتْ أنّني لستُ أبيها ولا أمّها؟
هل عرفَتْ أنّني دمعةٌ ساخنة تخرُّ على فضاءِ الرُّوحِ؟.. شوقٌ جامح إلى هلالاتِ العشقِ، ومضةُ فرحٍ طريّة فوقَ جباهِ النَّسيمِ، طفولةٌ مفروشة فوقَ أمواجِ البحرِ. تعالي يا طفولتي أريدُ أن أفترشَكِ فوقَ أجنحتي لعلَّكِ تفتحي أمامي أبوابَ النَّعيمِ.
ستوكهولم: آب (أغسطس) 2003

CONVERSATION

0 comments: