لماذا لم يكتمل الاحتضان (6)/ محمود شباط

مذ كانت رائحة العشب المندى بالمطر، شهية كخبز الجدات في تنانير القرى، كان النمل يجمع مؤونة الشتاء في الصيف. أهو الإنسان الذي علّم النمل كي يقلق على غده ؟ أم إن النمل ألهم الإنسان، أم أنه العزيز الجليل الذي علَّم "الصبي زينو" ما لا يعلم.
مضى ذانك الشهران على "زينو" كصبي محتضن من قبل أبوين غريبين عطوفين، هو الأرض العطشى وهما الغيث بعد انحباس المطر. ماما أديل تبثه أمومة نضرة وتحرص على تسريح شعر "دميتها" بنفسها وتعطره، وبابا اسكندر يجدد أبوته بعد أن سجل زينو في مدرسة خاصة وعيَّنَ له مدرساً في المنزل.
أدرك الأبوان الجديدان اللذان احترما رغبة "أم زينو" في احتضان ابنها ولكن دون تبنيه بأنهما يغرسان نبتة في تربة لما اكتملت عناصرها بعد. نفر منهما العديد من الأقارب والأصدقاء وتوقفوا عن زيارة منزلهما،فيروس المقاطعة بلغ ذروته لدى السيد عيسى،الشقيق الأصغر للسيد اسكندر حيث رفض فكرة "إيواء مشرد".
قلة من المسايرين الذين هضموا عملية الزرع كانوا يحوِّلون كلامهم إلى همس أو صمت بمجرد انتباههم لوجود "الصبي الغريب". يرسمون ابتسامة شكليات شاحبة كنوع من الاعتذار المخملي المحشو بدجل العلاقات العامة. في تلك الهنيهات البركانية تبدأ غربان غربة "زينو" بصفق أجنحتها وينتقل على مضض وبانكسار إلى مقعد آخر بعيداً عمن تنكدوا من حضوره معهم دون أن يعلنوه.
سمع "زينو" الكثير وادخر الألم، في إحدى السهرات كانت سيدة تتباهى بسلطويتها التي حالت دون زواج ابنها من فتاة "نصف مسيحية و نصف مسلـ....." أطبقت راحتيها على فمها حين لكزتها زميلتها فاستحيت، لعلها عتبت على بدو مهد الأبجدية الذي يرسمون قانونهم بلون خيم القبائل.
في جلسة أخرى روى لي زينو كيف عبرت حياته صفحة جميلة كسحابة ربيع تجاوزت الصيف إلى خريف مدلهم. حكى لي كيف أيقظته الخادمة "أم لطفي" في صباح باكر،وكيف همهم بتكاسل وهو يفرك عينيه بأن الوقت لازال مبكراً جداً للذهاب إلى المدرسة، سمعها تبكي فصحا،سألها ما الخبر فأنبأته بخبر مقتل أهله الجدد بحادث سير في الليلة الماضية. خال نفسه يسقط في الفراغ من علو شاهق، يمد يديه للتعلق بجب عوسج أو قضيب نار. كان يرتعش كفرخ حمام ذبيح. حاول الوقوف، داخ فعاد وجلس على سريره يبكي بصمت و يهتز جسده الصغير، خافت عليه أم لطفي فانحنت فوقه راسمة علامة الصليب، تتمتم بأدعية وتواسيه بكاء. الصبي يتمزق وتنشطر مهجته بين أمَّيْهِ: أمه أديل الحنونة العطوفة التي فقدها للتو ، وأمه في القرية التي كانت تفترض بأنها مطمئنة إلى مستقبله ومستقبلها طالما أن ابنها محتضن من أهله الجدد.
قال للخادمة بأنه يود أن يودع بابا اسكندر وماما أديل، مسحت دمعتين جديدتين وأوضحت له بأن الجثمانين لازالا في براد المستشفى . فكَّرَ في الذهاب لرؤيتهما فطلب منها استدعاء السائق، قالت له بأنه في دائرة الخطر في غرفة العناية الفائقة.
غامت الدنيا في عينيه. سمع نواح نسوة وهرج رجال في القاعة يتهيأون للتوجه نحو الكنيسة، أطل من شق الباب الموارب وأختلس نظرة، معظم الوجوه مألوفة، توقفت عيناه على صورة زفاف أهله الجدد،اندفع إلى القاعة ركضاً بلباس النوم واحتضن الصورة، نترها عيسى من يده وزجره صارخاً به أن يتصرف بحضارية ولباقة، وأن يكون أكثر أدباً ويستأذن صاحب المنزل وبأن يرتدي ما يليق بالمناسبة . عاد "زينو" إلى غرفة نومه يخبط الأرض بقدميه لحرمانه من احتضان صورة من احتضناه. أدرك بأن عيسى صار صاحب البيت الفعلي والآمر الناهي وبأنه يكرهه فأسرَّ إلى "أم لطفي" ،التي يحبها ويثق بها، بأنه ينوي مغادرة ذلك "الكهف المعتم" الذي صار مالكه "أنكل عيسى". فزعت عليه من التشرد،رجته ألا يفعل، جثت أمامه تتوسله، أمسك براحتيها وقبلهما، حار في ما هو فاعل، أيرحل أم يبقى؟ وإن رحل كيف سيواجه عودته للتأقلم مع وضعه كمأمور بعد أن كان آمرا.
ومضت شرارة القرار، سيرحل، أخذ بطاقة هويته من محفظته المحشوة بالنقود وأعادها إلى بنطاله الذي سوف يتركه هناك ولن يلبسه بعد اليوم، خلع البلاك الذهبي وساعة الرولكس الذهبية وقلادة ذهبية ووضعها في جيب معطفه الذي لن يلبسه بعد اليوم، أعادتهم أم لطفي إليه، ردهم بغضب صبياني إلى المعطف، كررت أم لطفي محاولتها. اكفهر وجهه، ألصق راحتيه على جيبيه وعاودته لعنة "نمردة" أبناء الأثرياء على خدمهم :" قلت لك لا أريدهم!. أعطني صرة ملابسي القديمة التي أحضرتها معي يوم قدومي " . أمرها بحزم السيد فامتثلت. ثم ندم لجرح تلك الطيبة التي يحبها و تحبه وتعمل لخيره.
تمنت أم لطفي لو يقبل منها، وتمنت لو يتخلى عن حساسيته المرهفة التي ستعود عليه بالوبال حين يعود إلى بيئته السابقة. انتظرت التغير ولم يغير رأيه، استسلمت، غابت للحظات وعادت بصرة الملابس مخفية سراً ما في بريق عينيها الدامعتين. دعت له بالتوفيق وغادرت الغرفة منكسرة القلب، تمشي ببطء نحو الباب وترنو صوب الصبي وتوصيه بالاتصال بها هاتفياً ليطمئنها عنه.
خلع زينو ملابس نومه على عجل وارتدى ملابسه القديمة. حاول انتعال الحذاء العتيق فاكتشف بأنه ضاق على قدميه. انتعل بدلاً منه "السبيدرين" الأبيض الذي اشترته له ماما أديل. وغادر دون قرش في جيبه.
عيون حظ زينو يراودها النعاس ككبوات جدتي في أول السهرة،انطلق من المنزل مشياً، وصل إلى "دُوَّيرة مار يوسف" ، بدأ بالبحث عن عمل لغاية الظهر، شعر بالجوع، كعادته سيجوع ولن يحني هامه ولن يستجدي، اتجه إلى أقرب مستوعب نفايات ليبحث عما يسد رمقه، نقَّب ولم يجد، جاءت في تلك الأثناء خادمة وبيدها كيس كبير رمته وغادرت، انتظر إلى أن ابتعدت الفتاة ودخلت باب العمارة التي أتت منها فهرع نحو المستوعب والتهم ما تيسر.
اجتاحته موجة افتقاد لأهله الجدد، ألم افتقاد الزغاليل لأمان أعشاشها، لم يعرف قبلاً بأنه يحبهما بذاك القدر كأهل. مشى مغرورق العينين بالكاد يبصر طريقه وما حوله. دخل منطقة برج حمود ودار في حواريها الضيقة للبحث عن عمل ولم يوفق، وصل إلى مسافة قريبة من النهر، تقزز من روائحه الكريهة فركض مبتعداً عنه، أكمل تجواله، تعب وعاوده الجوع، اتجه نحو مستوعب نفايات، قلّب ما فيه بخشبة ولم يجد طعاما، عثر على كيس فيه ملابس، انتشله وتفقد محتوياته فرأى بأن بعضها يشبه الجديد، والبعض الآخر جديد لم يلبسه جسد بعد. حمل الكيس وفرَدَ الملابس على الرصيف، باعها كلها في غضون ساعتين لأنه كان يبيع القطعة بالسعر الذي يعرضه الزبون دون مساومة:عشرة قروش ، ربع ليرة ، نصف ليرة ، أو أي سعر يقترحه الزبون. جمع من صفقته ليرتين ونصف، تغدى بربع ليرة واحتفظ بالباقي "لغدرات الزمان" الذي لا تطول، ولن تطول هدنته مع "زينو" .
استقل باص النقل المشترك، أو "جحش الدولة" كما سمع الآخرين يقولون عنه. ترجل في ساحة البرج. مسح الساحة بعينيه و محالها ونصب الشهداء وأشجار النخيل. لن يكرِّر خيبته السابقة هناك ويعاود البحث عن عمل في البرج، لقد جرَّبها قبلاً، أكمل طريقه مشياً صوب باب إدريس وسينما ستاركو ووادي أبو جميل ثم نزلة الديك وطلعة جنبلاط فالقنطاري فالحمرا فالروشة فالرملة البيضاء ، سأل كل المحال والمطاعم ولم يوفق بفرصة عمل. ردد في ذاته مثلاً سمعه عن أمه " ع حظ الحزينه بتسكر المدينة" أدرك الآن معناه أكثر حين رأى تلك الجنة الضاجة بالحركة صحراء قفراء لا مكان لأمثاله فيها فاشتاق لعتم قريته.
في منطقة الرملة البيضاء رأى أربعة شباب صياحهم يملأ الجوار، اثنان منهما يهللان للرابح ويحثانه على المزيد من اللعب والمزيد من الربح، اقترب زينو منهم فوجد رابعهم وقد وضع أمامه طاولة صغيرة عليها ثلاثة كشاتبين يحركها بسرعة وخفة واحتراف، ولكنه يتظاهر بالغضب حين يخسر ويخبط رأسه في كل مرة يربح فيها اللاعب المزعوم ليرة مقابل رهانه بخمسة قروش. أغرت تلك اللعبة زينو أملاً بالربح السهل فغامر بما معه وخسره كله.
لام غباءه وتسرعه،أدرك بأنه وقع ضحية لأولئك "الكشتبنجية" النصابين. ندم وحزن لخسارته ثروته الصغيرة ، فكر فيها: هل خسر ما جناه من بيع الملابس لأنه مال حرام ؟ ثم أعفى نفسه من الذنب كونه لم يسرق الملابس بل وجدها مرمية طوعاً من قبل صاحبها البطر، وبأن مصيرها كان سيؤول إلى محرقة النفايات أو إلى البحر ربما. أوَليسَ فقيراً مثله أولى بالملابس من محرقة النفايات أو البحر ؟ طمأن ضميره :"بلى !".
مالت الشمس نحو المغيب. نصف قرصها الأرجواني يغطس على مهله في أفق البحر الأزرق كطفل يراوده النعاس. عاد "زينو" أدراجه من منطقة الرملة البيضاء صوب الروشة. الجوع اضطره للمرور مجدداً على المطاعم علّه يوفق بعمل كي يأكل أولاً. مر بمطعم الجندول والميرامار واليلدزلار والسندباد، لابريق أمل بعمل، عَبَرَ الشارع إلى الجهة المقابلة حيث مطعمي النصر والبيجون روك ولم يوفق .
لم يرفع المقاتل الصغير رايته البيضاء رغم تقهقره كجندي مهزوم منحدراً في نزلة الروشة باتجاه المنارة.حلت عتمة المساء فرنا صوب البعيد، رأى قرى معلقة على الجبال كقلادة لآلىء تومض بصمت وتزغرد بصمت.
ملاحظة : في الحلقة القادمة سوف يكبر زينو سنين خلال أشهر ويواجه صعوبات واقعه الجديد كسلطان سابق دون سلطة. سوف يضطر لدفع ثمن كرت توصية من زعيم كي يحصل على وظيفة عامل تنظيف في فندق كبير.
محمود شباط
الخبر في : 23/05/2012

 

CONVERSATION

0 comments: