لماذا لم يكتمل الاحتضان 7/ محمود شباط

بقدر أمل حنجرة رضيع بكسر مخلب وحش كان أمل "زينو"  في العودة إلى النعيم الذي قذفه منه سوء طالعه بعد رحيل من احتضناه : ماما أديل وبابا اسكندر.  مر بمدينة ملاهي "عروس البحر"، توقف عند مدخلها يحسد أطفالاً بعمره يتقافزون كحملان الغنم في الربيع، رعاتهم يتشمسون وراعيته ماتت. عادت به الذاكرة إلى يوم جاء "عروس البحر" صبيا مدللا بصحبة ماما أديل فانتابه حزن الواقفين على الموانىء لحظة سفر حبيب أو قريب. جرجر ظله متجهاً صوب الحمام العسكري وسأل الحارس عن عمل، أشفق عليه الجندي، تأمله بتعاطف ثم أمره  بالإبتعاد.
 أكمل "زينو" سبيله نحو فندق الريفييرا ومسبح عجرم، يمشي الهوينا ثم يعنُّ له تقليد طيور البحر فيفرد ذراعيه ويطير على الأرض، توقف على كورنيش منارة بيروت أمام السوداني الأسمر الذي يبيع الفستق على عربة غرس في أعلى الكومة مدخنة كرتونية مخروطية يتصاعد من فوهتها دخانٌ خفيف سائغ مُحمَّلٌ برائحة الفستق المحمَّص،رفع البائع نظره صوب الطيور: "سوف تطير مثلها إن أكلت الفستق" ، ابتسم زينو للدعابة وأكمل طيرانه ممتطياً تيار قدميه صوب جل البحر ثم عين المريسة فالزيتونه. توقف عن الركض أمام ملهى ليلي،  علق جناحاه الصغيران في دبق صور مغرية لراقصات فاتنات شبه عاريات، وبينما هو يتحسس نهداً ملوناً بيديه وعينيه ولعابه فاجأه الحارس بخبطة قوية من قدمه على الأرض كما لو كان يهش هراً شارداً ففر الصبي مكملاً طيرانه الأرضي صوب منطقة الميناء. وصل إلى موقع مبنى شركة النورس للسياحة والسفر حيث التقاه بابا اسكندر للمرة الأولى وعرض عليه أن يتبناه.
تسمر زينو قرب المبنى بقلب جاحظ صوب جدرانه، يبتعد قليلاً ثم يعود. ثم يبتعد ويعود ويتحسس براحتيه الخرسانة بحنين الراكع على أطلال دار أهله. 
قارب الليل منتصفه، التعب والجوع أنهكا الجسد الصغير،خلع "زينو"  حذاءه الرياضي، لفه بمنشفة، تمدد على عتبة محل بيع إطارات، توسَّدَ الحذاء ولكنه هب مستوياً هلعاً لخشيته من أن يسرق أحدهم "السبيدرين" أثناء نومه. حمل صرَّة حاجياته وصعد  إلى "فندق أبو شادي" ، واحد من مئات الفنادق الشعبية في تلك المنطقة، دخل الباب فرأى أربعينياً بديناً مائلاً بجسده الضخم إلى الوراء في كرسيه، رحتاه مشبوكتان حول رأسه من الخلف، مسنداً ظهره إلى الجدار وقدماه الحافيتان على مكتبه صوب المدخل، خلف أذنه قلم و في جيب قميصه خمسة. على الجدار صورة مبالغ في حجمها يبدو فيها أبو شادي نحيلاً دون صلعة وهو يضع سماعة الهاتف بين أذنه وكتفه كي يبدو للناظرين في قريته كرجل أعمال، ممسكاً بقلم كما لو كان يكتب وكل من يعرفه يعلم بأنه بالكاد يقرأ ويكتب. حيَّاه الصبيُّ وسأله إن كان لديه سرير شاغر لليلة واحدة فرد الرجل بالإيجاب وطلب من نزيله الصغير نصف ليرة.
سكوت الصبي أوحى للرجل بأمر ما فسأله :
- ما الذي بإمكانك القيام به ؟
- كل شيء
حاول الوجه الضخم المتلبس جدية حديثي النعمة أن يبتسم، عرض على زينو توظيفه لديه مقابل ليرة واحدة في اليوم على أن يتدبر أمر طعامه، وافق زينو، وبات على الطوى.
عمل الصبي لغاية ظهر اليوم التالي. لاحظ صاحب الفندق ترنحاً في مشية موظفه الجديد فسأله إن كان يشكو من ألم، رد الصبي نافياً واستمر في مسح الأرض وتنظيفها. نهره المعلم : " أترك ما بيدك ورح إلى السوق وتناول طعامك" أطرق "زينو" أرضاً ولم يرد. لعلعت نهرة الرجل كما لو كان ينهر قطيع ماعزه الذي باعه ليشتري تلك الشقة القديمة البائسة ويسميها فندقاً: "قلت لك اذهب وتناول غداءك!!" . حدجه زينو بغضب و قلب جيبي سرواله بغضب. سلَّفه الرجل نصف ليرة وكرَّر أمره.
بعد كل تلك السنين لازال زينو يتحسس موضع طعنة الذئب الجبلي المنغرزة بألم سكين في الصدر، عز عليه أن يذعن لأوامر أمي جاهل بعد أن كان يصدرها للخادمة وحارس العمارة وبابا اسكندر وماما أديل،جلس في المطعم يأكل ويهجس في عواقب الخطوة التالية، خاف من غدرات الغد المجهول واستمر في عمله على مضض.
 لم يتوقف سيل المعاملة الحجرية من قبل العلم. شلال الرصاص استحال إلى ستائر نار، وقف الصبي يوماً على شرفة الفندق الضيقة المطلة على الميناء، بصرُه على أفق البحر و بصيرته على شوك الصخر وصعوبة القرار، لن يجرؤ على المغامرة ببطالة ولكنه سوف يهدد أبا شادي كي يخفف من قساوته. عاد من الشرفة ، توقف في منتصف المسافة، فكر كيف سيقولها له، ثم اهتدى إلى الأسهل، ولكن الأسهل علق في الحنجرة وجمد زينو في مكانه.
- سأله أبو شادي بخشونة : ما بك ؟
- مريض.
- سلامتك ! كلكم سواسية كسالى تدعون المرض.
قذفها الرجل من بين أسنانه واختفى بعصبية خلف مكتبه للحظات ثم ظهر فجأة كالذئب المتحفز ورشق الصبي ببضع ليرات: عد إلى عملك حين تشفى!.
تردد زينو في الإنحناء لالتقاط النقود عن الأرض.لم يستجد من محسن كريم فكيف سيقبلها من لئيم، تمنى لو ينهار سد دموعه لتبريد عينيه ووجهه وقلبه وكل خلية من جسده، تصاعد ضيقه إلى أن وصل إلى ذروته وعاد لينحدر صوب النفراج. ومضت في تلك الأثناء شرارة برق، أحس بتيار بارد يجتاحه ويدجنه، إباؤه يتصدع، كاد يرجو المعلم أن يبقيه في العمل، كاد يقول له بأنه يعيل أمه وأخوته.
غادر زينو الفندق الشعبي متصالحاً مع مرونته المستجدة جراء وضعه الهش، متسلحاً بما اعتبره خبرة بالعمل في الفنادق، مقتنعاً بأن أمه وأخوته الأصغر منه يستحقون أن يحني من أجلهم .. ويتحمل أوامر ، إنما ليس أوامر كالرصاص.
اتجه زينو للبحث عن عمل في الفنادق التي شاهدها في طريقه، وصل أحدها، انبهر بأحرف اسم الفينيسيا الكبيرة. خفق قلبه لجميلات بفساتين قصيرة تكشف عن سيقان جميلة، يدخلن باباً عريضاً في الواجهة الزجاجية الضخمة ويخرج مثلهن بصحبة رجال كعارضي الأزياء. الحمالون فتيان رشيقون بزي أنيق موحد يحملون حقائب الزبائن. لا أوامر ناشفة هنا بل ابتسامات تمطر لطفاً و إكراميات. 
اقترب زينو نحو السيارات الفارهة المركونة بصف طويل أمام الفندق وبجانب كل منها سائقها في انتظار الزبائن. اقترب من أحدهم وسأله :
- كيف يمكنني أن أجد فرصة عمل في الفندق؟.
 لم يردّ السائق على سؤال الصبي بل صار يبحلق في ملابسه الرثة ويقارنها بالحذاء الرياضي الأنيق وسأله بغتة : "من أين سرقته؟"
كظم الصبي غيظه من تلك الدعابة السمجة طالما أنها أخف من رصاص أبي شادي، واتجه إلى سائق آخر كي يستوضحه عن أمر العمل، سأله السائق عن اسمه واسم منطقته وما هي طائفته ومن أي فئة من تلك الطائفة. جاوبه زينو عن كل الأسئلة إلا عن التبني أو الاحتضان وما تلاهما. أفهمه الرجل بأن العمل في الفينيسيا يتطلب "كرت" توصية من زعيم أو "زلمة زعيم" مقابل عشر ليرات، إضافة إلى خمسة وعشرين ليرة ليوصله إلى دارة الزعيم للحصول على الكرت وليعيده إلى الفندق.
تردد زينو في القرار لأنه لا يملك المطلوب.
- "احسبها على مهلك !" همهمها السائق بعدم اكتراث مصطنع و مشى بهدوء مفتعل صوب زميله، وبنصف نظر صوب زينو.
وقف الصبي يفكر، خياله المشوش ينسج كحائك أعمى. لحق بالسائق : " لدي عشر ليرات وسوف أدفع لك الباقي من أول راتب أستلمه من الفندق".
لم يتردد السائق لأنه يثق بمفعول كروت التوصية ، فتح باب السيارة وأشار للصبي برأسه كي يدخل.
وصلا إلى باحة دارة الزعيم، عشرات الوجوه تعضُّ على سلاسلها بالنواجذ كي لا تصدأ وتهترىء. ركَنَ السائق سيارته على عجل، وركض على عجل بين السلاسل والقيود صوب المدخل الكبير، غاب لما يقارب الساعة وعاد ركضاً بِكَرْتِ التوصية. ثم رجع بزينو إلى الفندق ودخل معه إلى قسم شؤون الموظفين ، سلّم الكرت إلى المدير وهمس في أذنه.
باشر زينو عمله في قسم التنظيفات في فندق الفينيسيا بدوام ليلي مرهق بالنسبة لحدث بعمره، يبدأ من الحادية عشر ليلاً ولغاية الثامنة صباحاً براتب شهري قدره مئة ليرة. سلّمه رئيسُه بدلة كاكية كبدلات عمال البلدية، فوجىء الصبي وكاد يسأله: لماذا كاكية وليست بيضاء كبدلات أولئك الشباب الذين رآهم أمام الفندق، ثم صرف النظر عن احتجاج غير محمود العواقب ورضي بضمان معيشته وإرسال خمسين ليرة إلى أمه في آخر كل شهر.
حين استلم زينو أول راتب توجه إلى "كاراج بيبلوس" كي يبعث برسالة وخمسين ليرة إلى أمه مع الشيخ يحيى، وبينما هو يبحث عن الخمسين ليرة في محفظته شبه الخاوية المتعددة الجيوب، فوجىء بأن لديه مئة ليرة، احتار في أمر الخمسين كيف تحولت إلى مئة، بحث أكثر فوجد الخمسين ليرة، شغَّل شريط استرجاع الأحداث فتذكر نظرات أم لطفي الحانية عليه حين سلمته صرة ثيابه وتأكد بأنها هي من وضعت المئة ليرة في محفظته. عاد إلى سكنه وهو يفكر في سمو خلق تلك الخادمة-السيدة النبيلة، عاهد نفسه على ألا ينساها وعلى أن يرد جميلها. اشترى علبة حلوى ومنديل أسود، قصدها ولكنه لم يجدها.
اشترى باقة ورد واتجه لزيارة قبر بابا اسكندر وماما أديل. جثا في حضرة  قبر "أهله الجدد" اللذين رحلا، بكاهما وسألهما إن كانا يتذكرانه وأكد لهما بأنهما لا يبرحان خاطره.
في الحلقة رقم 8 سوف تدفع حماوة الدم زينو دفعاً كي يغطس في مغريات مياه  المراهقة الدافىء، أخطر ما سيواجهه غياب الموجه، رغباته الجنسية سوف تتخذ القرار عنه، ومع تصاعد حمى غريزة الجسد سيتحجر القلب وينسى زينو أمه وأخوته. 
الخبر في : 30/05/2012

CONVERSATION

0 comments: