لماذا لم يكتمل الاحتضان 4/ محمود شباط

سلك خليل الطريق البحري بمحاذاة منطقة المرفأ، يسوق بحذر، وبحذر يستجدي هزة رأس بـ "نعم" أو "لا" من زينو الواجم بجدية وحرد .
وسط ذلك الصمت الجليدي كان زينو يلمح جرذان الليل تجوس كضباع صغيرة بين إشارات المرور ومتاهات الغابة الخرسانية. عبرا منطقة النهر، و برج حمود، و مستديرة مار يوسف، انعطف السائق يميناً في طريق فرعية بينما وجه الصبي المنشغل بهواجس شتى مُركّز على وجه  الجهة الأخرى حيث أضواء أعمدة الإنارة تدرز جانبي الطريق كغرزات ماكينة الخياط . 
جفل زينو وأفاق من شروده جراء انعطافة حادة ودخول السائق بالسيارة في مرآب واسع تحت عمارة كبيرة، حمل خليل صرة ملابس الصبي من المقعد الخلفي ودار بها إلى الجهة الأخرى كي يفتح الباب لسيده المستقبلي فوجد زينو أمامه، صعدا إلى الدور الأرضي وبعدها بالمصعد إلى الدور الخامس. 
فور خروجهما من المصعد بوغت زينو بالموكيت الأزرق في الممر فخلع فردتي حذائه وتأبطهما، سارع السائق يرجوه إعادة انتعالهما، جثا ليساعده فأزاحته جانباً سيدة أربعينية كانت تنتظر عند باب المصعد وأكملت ربط شريط فردتي حذاء زينو ثم احتضنته بشوق منتظر لغائبه، غمرت ضيفها الصغير بحنانها وذراعيها، رجته أن ينظر إليها فبدت لها الصورة طبق الأصل، وبدروها بدت له جميلة مجللة بالسواد الجميل، سمراء مكتنزة باعتدال كأنها خالته سعدى، تحادثه بابتسامة تومض زغردة وتغريدا. بين الفينة والفينة تبتعد عنه وتتأمله ثم تفرد ذراعيها كسنونوة منسابة لالتقاط زغاليلها تحتضنه مجدداً وترجوه أن يعتبر نفسه في بيته وأن يبتسم، قبلته وبكت وضحكت،أحبت أن تسمع من فمه ما قاله لها عنه زوجها فسألت الصبي عن عمره، رد باستحياء وتلبك :
- "عشرة يا "ست !" (أجل ، هكذا أوصته أمه أن يخاطب أهل بيروت باحترام: "الزلمه خواجه والمرا ست") .
"عشرة يا ست ؟؟" همت السيدة بالتصويب ولكنها أجلته خشية زعل زينو الذي استنتجت بأنه رهيف حساس وأبي، أغمضت عينيها تقارن وتستذكر ملامح ابنها الراحل، نبرة صوته، مشيته ، تراءى لها مرسلاً ابتسامته من فوق سحابة بيضاء مجنحة حطت به أمام العمارة ، هرعت نحوه فركض مبتعداً وهو يضحك ، حاولت اللحاق به .... قطعت عليها رحلتها أم لطفي من بعيد تصرخ براتعاب بأن زينو قد غفا وعلى وشك أن ينقلب من مقعده ، أفاقت السيدة من حلمها واستيقظ زينو. أحاطت رأسه براحتيها بلطف و رجته بحرقة أن يناديها ماما وليس "الست".  هز الصبي برأسه، ومضت عيناها برضاها بينما ارتعاشات جمر أمومة أخرى تتفاعل وتتقد في أحشائها. وبدأت جلجلة انقسام المهجة إلى اثنتين، إحداهما لفلذة كبدها الغائب الحاضر والأخرى لابنها الجديد "زينو" .
رنت السيدة نحو صورة ولدها المعلقة على جدار القاعة، جاذب يشدها نحو الأصيل وجاذب يلصقها بالبديل، وسوس لها هاتف خفي بغيرة الصبيين المتبادلة كي يحظى كل منهما بدفء أمومة لا تتسع إلا لأحدهما، طبقاً لما تخيلت الأم . طردت الوسواس، مسحت دموعها والتصقت بزينو أكثر. أمسكـَتْ بـِصرّة ثيابه واستأذنته لرميها فتشبث الصبي بالصرة، تفهَّمت تعلّقه بأسماله وطلبت من السائق أن يحضر له ملابس تليق بابن اسكندر سنجار كما قالت، ثم طلبت من أم لطفي أن تحمِّمَ الصبي فاعترض بعبسة وزم شفتيه، أذعنت أمه الجديدة لاعتراضه وطلبت من أم لطفي أن تساعده في غسل وجهه ويديه وتسريح شعره وتعطيره.
سلحفاة المساء الموحش تمضي بتثاقل، زينو نعس وجائع ولكنه حييّ ولن يطلب الطعام ولا النوم، سوف يقاوم، يغط غصباً عنه في غفوة سريعة للحظات ثم يفيق ليختلس نظرات صوب مائدة تعمر بالتدريج بأطايب الطعام انتظاراً لعودة رب المنزل من عمله في التاسعة مساءً. خلال تلك اللحظات دقت ساعة الحائط لتعلن الثامنة والنصف مساءً ورن جرس الباب، دخل أبو جورج ببسمة حبور غابت عن فمه منذ زمن، فوجئت الخادمة بقدومه أبكر من المعتاد فصارت تسرع في تجهيز المائدة، غمر السيد زينو وسأل المدام رأيها فردت عليه مبتسمة ملء فيها بأن لا داعي للسؤال.
جلس زينو إلى المائدة بين أهله الجدد، وحين بدأ احتساء الشورباء وشوشته السيدة أديل بلطف أنه بإمكانه أن يحتسي بقدر ما يشاء دون إصدار ذلك الصوت وعلّمته كيف يمسك بالملعقة وكيف يرشف. لاحظتْ بأنه يسترق النظر نحو صحن على منتصف الطاولة لا يستطيع الوصول إليه فقرَّبَـت الصحن منه، ثم أحضرت أريكة أجلسته عليها. نسيت نفسها وتماهت في ضيفها الصغير تزيد إلى طبقه ما تراه ينظر نحوه ثم تسأله تكراراً عما يريده بعد. لاحظتِ ارتباكه في التعامل مع الملعقتين الصغيرة والكبيرة والشوكة والسكين فساعدته  ثم وشوشته : " أقفل فمك" .
امتعض زينو وأبطأ في تناول طعامه فبات مضغه أقرب إلى اجترار حمل متكاسل، عرفت "أمه الجديدة" بأنه أساء فهمها فوشوشته مجدداً " فقط حين تمضغ الطعام" .
بعيد ساعة أحضر السائق حقيبة مليئة بملابس جديدة شبيهة بأشكالها وألوانها من تلك التي رآها زينو على جورج في الصورة، تـفقـَّدَتـْها ماما أديل قطعة قطعة، انتقت منها بنطالا من المخمل البيج وسترة بنية اللون وقميصاً بلون سكري وربطة عنق بنية وحذاء وجوربين بنيين. قالت السيدة لزينو سوف تستحم قبل أن تنام فرد عليها بتثاؤب طويل عرفت بأنه يرفض الاستحمام ويرغب في النوم. استعرضت ملابسه بنظرة شاملة ثم قالت له حسناً ، كما تشاء ، ولكنك سوف تستحم غداَ حين تستيقظ . وافقها الرأي برمشة من هدبيه وغفي على مقعده فنقلته إلى سريره بمساعدة أم لطفي.

صباح اليوم التالي وبعد تناول الفطور، قالت السيدة لزينو سوف تلبس ملابسك الجديدة وقد وعدتني بأنك سوف تستحم أولاً ، أليس كذلك يا حياتي ؟ هز برأسه موافقاً فطلبت من الخادمة أن تساعده، أمسكت أم لطفي بيده فنتر يده من يدها وابتعد عنها و تشبث في مقعده يتقلص حياءً وحرجاً.
حينها استفسرته "ماما أديل" فيما إذا كان يستطيع الاستحمام بمفرده، هز برأسه بحزم. قادته إلى الحمام فتبعها، هاله حجم ومشهد الحوض الطافح بالماء الدافىء ورغوة الشامبو فصار يرجع إلى الخلف، احتارت بأمر ذلك المشاكس الصغير الذي لن ينفع معه الصراخ . مدت يدها نحوه فأمسك بيدها بعد تردد، على مهلها و برفق أمومي اقتربت به نحو المغطس ثم طمأنته بأن "البانيو"  ليس عميقاً ولا خوف عليه من الغرق فيه، ولكي تهدىء مخاوفه أكثر رمت الصابونة في المغطس والتقطتها وأعادتها إلى مكانها. دلته على الشامبو وقارورة العطر والحنفيتين : "الزرقاء للبارد والحمراء للساخن". دلته على مقصورة صغيرة تحتوي على ملابسه الداخلية والمنشفة، أحضرت له ملابسه وأوصته ألا يقفل باب الحمام من الداخل.
بعد خروج السيدة جثا زينو بجانب المغطس ليطمئن بنفسه إلى عمقه وعدم خطورته، أنزل يده فيه فمست قعر الحوض، الماء ساخن نسبياً أكثر مما يحتمله فقرر أن يضيف ماءً بارداً، ولكن كيف ؟ لقد نسي.
اضطر للمغامرة في التحزر والتخمين كما كان يفعل في الضيعة ليحدد هدفاً معيناً فاعتمد لعبة "الحـَكـَرَهْ بـَكـَرَهْ"، وضع سبابته على الحنفية الزرقاء وصار يعد منقلاً اصبعه بين الباردة والساخنة، عند الرقم عشرة استقرت سبابته على الحنفية الحمراء، وضع راحته تحتها بتردد، فتحها قليلاً بحذر فتدفق منها الماء الحار فأبعد يده بسرعة. أقفلها وفتح الزرقاء وأكمل اغتساله.
حضر السائق في العاشرة صباحاً كي يأخذ زينو ليتلتحق "بدوامه" مع أبيه الجديد. هناك جلس على مقعد صغير مخصص له بجانب "الخواجه" اسكندر الذي كلف زكي بإجراءات التعارف بين زينو الموظفين.
دخل عليهم في تلك الأثناء رجل حسن الهندام يحمل حقيبة بيده. عرف الصبي لاحقاً بأنه محامي الشركة، عـَرّفـَهُ الخواجه على زينو بوجه فرح باسم وشرع الرجلان يتحدثان بخصوص الإجراءات المطلوبة للتبني وبضرورة إقناع "والدة الصبي" أولاً ، وبعدها لتسجيله في المدرسة والمبلغ المقترح "لثمنه" وتفاصيل أخرى. لم يدر زينو يومها طبيعة عمل المحامي ولا يعرف ما تعني عبارة التبني بتفاصيلها، ولكنه عرف بأن الخواجه سوف يدفع مبلغاً لأم زينو ويتكفل بمعيشة الأسرة وبتكاليف تربية وتعليم أخوة زينو، وبأن الجزء الأكبر من الإرث سوف يكون من نصيب الصبي مقابل بقاءه معه ومع السيدة.
اختلاجات النبض أبطأت وتيرة تنفس زينو جراء سماعه للرجلين يتكلمان عن عملية "البيع". داهمه كابوس فصله عن أمه وأخوته. لم يعترض علناً، إنما بدا عليه ذلك من خلال نزعة خبيئة مكتومة جراء توحد ينهشه في غربته.
مضى الأسبوع الأول على زينو بهدية جديدة كل يوم : خاتم وبلاك ذهبيين، ألعاب، ساعة ذهبية علمته ماما أديل عليها كيف يحدد الوقت والتاريخ ثم سألته ممازحة:"كيف كنت تحدد الوقت في الضيعة ؟ " فقال لها بأنه كان يقيس طول ظله ويُقدِّر. من تلك العبارة رسمت السيدة المثقفة في ذهنها صوراً ملونة للمزولة الشمسية وأطلال ستونهينج والساعات والتقاويم القديمة العهد، ضحكت غصباً عنها فحرد الصبي. راضته فرضي بعد جهد.
ماما أديل ملأت برنامج زينو الترفيهي:  زيارة يومية للمسبح أو السينما أو رحلات. اصطحبته إلى مدينة الملاهي، انبهر بها دون تعلق بأي من ألعابها. عرضت عليه اللعب على الحصان الآلي والسيارات الكهربائية، بدا لها زاهداً ولكنه في الحقيقة كان يفكر بأي لعبة يلعب أخوته في ذلك الوقت، تركته يختار ويقرر وعادت إلى مقعدها تراقبه، لحق بها بعد قليل وجلس بهدوء وصمت بجانبها، تراءى لها كفرخ سمك خارج الماء يبحث عن طفولته، تأثرت لتأثره، غلت أصابعها بشعره، قبلته  وسألته : "هل تحب أن نروح صوب ضيعتكم ؟"
وافق بنظرة شغف وحنين لربوع بكر طازجة كحكايا المراهقات . 
ملاحظة : في الحلقة الخامسة سوف نرى بأن ظروف المجتمع المدني الذي ندعو إليه ونتمناه لم تنضج بعد، حالنا كحال من يشاهد الجبل من بعيد ويراه جميلاً، ولكنه يفاجأ بصخوره حين يقترب منه. ولكننا لن نيأس، وسوف نوصي أحفاد أحفادنا كي لا ييأسوا ولكي يثابروا في المطالبة بأدنى حقوقهم الإنسانية.

CONVERSATION

0 comments: