لماذا لم يكتمل الاحتضان (5)/ محمود شباط

"العاصفة كالحصباء....كموسيقى النصر
تأتي مرة واحدة ولا تعود"
محمد الماغوط

   كان "زينو" في ذلك المساء كصغير كنغارو يرتع في جراب أمه مع أهله الجدد، بين ماما أديل وبابا اسكندر، بلهفة ورقة وحرص يتناوبان في طرح أسئلتهما عليه، للاطمئنان عما إذا كان قد تأقلم مع جو المدرسة أم لا ؟ وفيما إذا كان يتعرض لمضايقات من زملائه في الصف الذين يصغرونه سناً.

سيلٌ من الاستفسارات كان يقتحم أذنيه، أجاب عليها الصبي العابس بهزات من رأسه نفياً أو إيجاباً أو تحريكه يميناص أو يسارا. هجست ماما أديل، قلـِقَ بابا اسكندر وأطرق متفكراً لبرهة ثم سأل الصبي برفق كان يرغب في شيء ... أي شيىء.
نظر الصبي باستعطاف صوب ماما أديل، أوصل رسالته إليها رغم غياب رابطة الدم إذ صارت تفهم عليه كما تفهمه أمه، فكت طلاسم نظراته عبر تلك اللغة الكونية التي يسمونها غريزة الأمومة، عرفت بأنه يستنجدها البرَّ بوعدها السابق لاصطحابه في زيارة إلى ضيعته. وَقعَت السيدة في حرج، تمنت لو قُطِعَ لسانها قبل أن تعده بتلك الزيارة. غطت عينيها كي تتفادى مناشدته البصرية وصارت تتصور مدى بؤسها وشقائها فيما لو تمسكت أم زينو بابنها خلال تلك الزيارة وحرمت أمه الجديدة منه.
رنَّ جرسُ الباب ففتحت الخادمة أم لطفي للسيد عيسى، شقيق السيد اسكندر، جلس الزائر بعيداً عن أخيه بعكس ما كان يفعله سابقاً، طلبت سيدة البيت من أم لطفي أن تعد القهوة ولكن الضيف قاطعها بلهجة جافة بأنه مستعجل وبأنه جاء ليسأل عن حقيقة تبنيهما لصبي غريب . نبرته مهدت الطريق لهنيهات ما قبل هبوب العاصفة ، استنفرت ماما أديل وامتعض بابا اسكندر من تسمية زينو بالصبي الغريب ومن مبادرة تحرمهما البديل عن ابنهما الراحل.
انتظرت السيدة بتجلد وغضب كي يرد زوجها عليه ولكن دماثة الأخير وحلمه وحرصه على علاقته بأخيه حال دون الرد. تولت السيدة المهمة وسألت عيسى إن كان يعترض من منطلق ديني أم أنه قلق على حصته من الإرث. ثار عيسى وذكرها بعلمانيته "المعروفة للجميع" وبزهده بالمال وبأنه يعترض فقط من باب الحرص على أخيه كي لا يطاله العزل الاجتماعي ثم أطلق عيسى " تحذيره الأول والأخير" .
ارتبك السيد اسكندر، ولكن السيدة أديل تعاملت مع تحذير عيسى كما يتعامل المدخن مع تلك الكلمات المطبوعة بحروف صغيرة منمنمة على علب التبغ لتحذير المدخن من عواقب التدخين . تلاشت خشيتها من عواقب التبني حين تراءت لها الصورة الملونة لشبه زينو بابنها جورج فخافت على الصورة التي قد لاتتكرر، ومضت على شاشة خاطرها عبارة محمد الماغوط: "العاصفة كالحصباء ... كموسيقى النصر... تأتي مرة واحدة ولا تعود" . حينها استجمعت كل غضبها وصرخت في وجه عيسى مستنفرة كلبوة تدافع عن شبلها : " من يحاول أخذ زينو مني سوف أأخذ روحه" .
نتر عيسى يده من يد أخيه الذي كان بجانبه يهدئه وخرج غاضباً . لحق به السيد اسكندر ولكن عيسى صفق الباب وغادر مسرعاً على درج  البناية. لم يستطع الأخ الأكبر اللحاق بأخيه فعاد منكسر الخاطر . جلس يتفكر بأمثاله الذين يقطفون مر ثمار مناخ اجتماعي لا يتقبل الخراف التي تقفز فوق الأسوار حتى ولو كانت تفر من سكين جزارها. نظر إلى زوجته طويلاً ثم قال لزينو : "ماما أديل لم تنس ، لقد أخبرتني بأنك تود زيارة السيدة أم زينو . جهز نفسك كي نمضي يوم الأحد القادم في ضيعتكم.
فوجئت ماما أديل بقرار زوجها ولكنها لن تعارضه طالما أنه قال للصبي "السيدة أم زينو" وليس " أمك" ، سوف تذهب مكرهة وفي البال  خشيتها من عواقب الزيارة.
في ذلك اليوم كان قد مضى شهر على وجود زينو في بيروت كمشروع صبي بالتبني بالنسبة لوالديه الجدد، وكصبي يعمل في بيروت حسب علم أمه التي لم تعرف بما حدث بخصوص أهله الجدد.
 انطلقت عائلة اسكندر سنجار في صبيحة يوم أحد صوب ضيعة زينو، كان الصبي يجلس في المقعد الخلفي بين ماما أديل و بابا اسكندر، مفعماً بفرح السنونوة المهاجرة العائدة صوب موطنها ويبتسم من حين إلى آخر، يومها فقط عرفت ماما أديل بأن الصبي يمكنه أن يبتسم.
فور ترجله من السيارة ركض زينو صوب باب بيتهم كحمل يعدو صوب أمه،
في ذلك المنزل الطيني المتواضع في الضيعة دار الحديث بين أم زينو وأمه الجديدة، كان الصبي يفهم من كل منهما تبريراتهما اللبقة المباشرة وغير المباشرة لحاجة كل منهما إليه، بعد لحظات انتظار من عيني وأذني ماما أديل كأنها دهور، وبعد إطراقة تفكر صامتة من أم زينو طمأنتها الأخيرة بعبارة تخنقها الحاجة العابرة للطوائف : "اعتبراه ابنكما ... إنما ليس بالتبني" .

بدا نصف الإرتياح على وجه ماما أديل وبابا اسكندر، تماهى زينو في حزنهما الطويل كظل القامة عند مغيب الشمس. كان كزغلول منهك آنئذ، يخفق بجناحيه المرهقين بحثاً عن بتلة ياسمين يتفيأها. شعر بحبلين سريين يتجاذبانه باتجاهين متضادين، كاد ينشطر إلى صبيين بينما هو يسترجع صور أمه و أمه الأخرى: أمومة وعطف ماما أديل التي حنت ورقت وأغدقت، و حزن وجه أمه التي حملت وربَّت وتألمت لظنها أنها فقدت ... ويتساءل بحيرة ومرارة : أيهما أمي ؟ 
** 
ملاحظة:
 بنيتُ هذه الحلقات الخمس التي تنشر تباعاً على موقع "مجلة الغربة" ، وما سيليها من حلقات، على مداميك قصة سبق نشرها في مجموعتي القصصية الأولى بعنوان "أيهما أمي" ، هدفي من ذلك هو سير شعوبنا بالخطوة الأولى في رحلة الألف ميل نحو المواطنية الحقة.
 قد تمضي عقود وقرون قبل أن تتسنم أولوية أنسنة البشر وتسود على بقية المفاهيم والقيم والأولويات، لا بأس، صبرنا مليون سنة مذ كان البشر على هذا الكوكب، وسوف نصبر أكثر. حسبنا المحاولة ، حسبنا التطلع، وحسبنا الحلم طالما أن بعض البشر يشبه بعضه الآخر، علماً بأني كنت قد لمَّحت إلى ذلك في حلقة سابقة بأن ليس فقط الصبي المسلم  زينو يشبه الصبي المسيحي جورج إلى حد التطابق، بل أيضا ماما أديل تشبه خالته سعدى.
وبما تيسر لقلمي المتواضع أعتبر بأنني  قد تبنيت الفكرة التي عالجتها في مجموعتي القصصية السابقة، ولكني توسعت في السرد مع كثير من الحقائق والقليل من الخيال، واحترام لخصوصية الأفراد والأسماء.
هدف آخر من تلك الحلقات هو بمثابة حلم آخر أتوق لأن يتحقق،  وهو أن أحث الشباب والصبايا على كتابة القصص والروايات.
سوف أحاول أن أعرفكم لاحقاً على مراهقة "زينو".
 مع جزيل شكري وتقديري لصديقي وأخي شربل بعيني على رعايته وتشجيعه للأدب بكافة أطيافه.
محمود شباط 
الخبر في : 19/05/2012

CONVERSATION

0 comments: