براغ والزاهدة/ د. عدنان الظاهر


سألتني جادّةً : ما الفرقُ بين الزُهد والتصوّف ؟ أنا زاهدة لكني لا أدري أأنا متصوّفة أم لا ؟ ماذا أولُ لها ؟ بمَ أجيبُ وأنا نفسي زاهدٌ لكني لا أعرفُ التصوّف ولم أمارسه رغم قربي الشديد من الحُسين بن منصور الحلاّج شهيد التصوّف وقتيل أحد خلفاء بني العباس ( المقتدر بالله ) . لاطفتها لأطفئ شيئاً من لهب حرارة جديّة حديث مسألتها. قلتُ لها يا زاهدة ، لا يصلُ تصوّفٌ لمثيلاتك. قالت لماذا ؟ لأنَّ طبعكِ من حرير غير مألوف وهو نسيج عازل خالٍ من المسامات لذا لا ينبتُ صوفٌ على أديمه أو على أديم جلدك . تزهّدي ولا من ضير في زهدك هذا ولكنْ حذارِ من التصوّف لأنَّ الحريرَ والصوفَ لا ينسجمان. إمّا صوفٌ وإما حرير . هذه هي نواميس الطبيعة . لا ينبتُ صوفٌ على حرير ولا ينبتُ حرير على جلد خروف .
إقتنعت الزاهدة أو تظاهرت فما زال بعض الشك يدور مع إستدارات عينيها في محجريهما . كيف السبيلُ لإقناعها بحجتي ؟ فكّرتُ ولم يطلْ بي تفكيري . سأدعوها لنقضي معاً فترة عشرة أيام في إحدى العواصم الأوربية الجميلة . هناك يطيبُ مزاجها الكافوري وتتحرر سجيتها وتمارس حرياتها كما تشتهي وعندذاك ستتيسرُ أموري وتقوى حجتي لتقهر شكوكها .
هناك ستقتنعُ أنْ لا من صوفٍ مع حرير ولا من حريرٍ مع صوف .لا يختلطان . أعجبها مشروعي فقالت أقبلُ ما عرضتَ عليَّ ما دمنا لا نختلطُ الإختلاط المألوف بين الرجل والمرأة من حيثُ أنت الصوفُ المندوف وأظل أنا ذلك الحرير الصيني الطبيعي البهي الناعم من إنتاج أفخر نوعيات دود القز في العالم. يا للذكية ! كيف أسبغت على صوف الخروف طبع الذكورة وآثرت حريرها بطبع الأنوثة ؟
الصوف مُذكّرٌ والحرير مؤنث . لكنَّ الحرير لغوياً مُذكّرٌ نقول هذا حرير ولا نقول هذه حرير . قالت في العاصمة الأوربية الجميلة التي اقترحتَ للقائنا لا من فرقٍ بين الرجل والمرأة . إنهما يتبادلان الأدوار . الذكرُ نهاراً يغدو أنثى في الليل . في غمرة فرحتها قالت سنزورُ هذه المدينة معاً إذاً وليتنا نقضي العمرَ فيها . وقعت صاحبتي في الفخ المنصوب . أين زهدها وأين تصوّفها إذاً ؟ يبدو أنها لا تعرفُ مغزى وأبعاد التزّهد. لا تعرفُ إلا الإسم . لم تمارسه يوماً في حياتها . كيف تدّعي الزهد وتودُ زيارة مدينة يتبادل فيها الرجالُ والنساءُ الأدوار حيثُ أنثى النهار هي رجل الليل كما يتبادلُ الليلُ والنهارُ الأدوارَ .
سعيرُ وسُعارُ جذوة الحياة أكبرُ من الزهد وعالم الزُهّاد . دمُ البشر الدافق المستعر يُذيبُ جمود الزهد ويأكل هياكل الزهّاد النَخِرة الخالية من إرادة الحياة .كانت شاردة عنّي مُغمَضَة العينين لكأنها تعاني إنقساماً حادّاً ما بين أمرين : هل سنمضي قُدُماً في عالم زهدها السطحي المزعوم أو ننخرطُ في عالم مدينة ( براغ ) عاصمة التبدّل والتبادل ؟ قطعتُ سلسلة سياحة شرودها ـ وقد حرّكت جفنيّ عينيها العسليتين ـ وقلتُ لها ليس أمامكِ الكثير من الوقت يا سيّدة فاعزمي واتخذي القرار الصائب بأنْ تتركي ظِهريّا فذلكة الزهد والترهّب فمثلك لا تصلح لهذه الخزعبلات بل ولم تُخلقْ لها أصلاً ، كأنك لم يُخلقْ لكِ مثيلٌ في البلاد الشرقية حيث شموس مولدك ومنابت نخيل أهلك الأقدمين منذُ ما قبل ثورة الزنوج وهيجان وعصيان الجَمَلِ الغَضوب .
لدينا دنيا واحدة إمّا أنْ نحياها أو أنْ نفرّطَ بها فنخسرها ولا من بديل او عِوَض . قالت اعطني مجالاً كافياً لأفكّرَ في هذا الأمر الخطير قبل أنْ أتخذَ قراري النهائي . لقد خيّرتني يا صديقُ بين الجنة في الآخرة ومدينة براغ في دنيانا العاثرة العاهرة وإنه لخِيارٌ صعبٌ ، خيارُ موتٍ أو حياة . قلتُ أَجَلْ، إنه خيارُ موتٍ أو حياةٍ . موتٌ في جنّة وهمية لم يَرَها أحدٌ من قبلُ أو حياة عريضة طبيعية في دنيا عريضة معروفة نتنفسُّ فيها ونحيا ونسمعُ ونرى ، نطربُ ونحزنُ . ننجحُ ونفشلُ . نأكلُ من خيرات ما تنتج أرضُها وحيوانها . ندبُّ على أديمها الشريف ونستضيءُ بنور شمسها . ننامُ ونتزاوج فنتكاثر تكاثراً لا يُلهينا ولا يُنسينا مهمات ومستلزمات مواصلة حياتنا .
بدا لي أنَّ حديثنا هذا غدا ثقيل الوطأة على السيدة فهل أُخفّفُ ؟ طلبتْ أنْ أحدثها عن سفرتي الأخيرة للقاهرة لكني كتبتُ عنها حوارية ما زالت منشورة في بعض المواقع . قالت قرأتها لكني أودُّ معرفة زوايا وخفايا أخرى غير تلك التي ذكرتها فيما نشرتَ . لم تُسهبْ مثلاً في ذِكرِ تفاصيل قصة لقاء الفنان على ظهر يخت مع حصباء الجبل فوق مياه بحر النيل كما كان يُدعى قديماً . ثم إنَّ إسم السيدة هذا غريب مُفتعل مصنوع لغرض التورية كما إخال فاكشفْ للملأ حقيقة هويتها واسمها ودواعي نعتك لها بهذا الإسم دون سواه . أسئلة كثيرة معقدة وضعتها أمامي كأنها تدخل وتدخلني معها في مزرعة ألغام في ميدان حرب .
سألتني هل قرأتْ ما كتبتُ عنها ؟ أجَلْ ، قد قرأتْ وتأثرتْ وشَكَرتْ وهاج بها الشوق لزيارتي في ألمانيا من باب ردِّ بعض الجميل . علّقت وأنفاسها في أعلى صدرها تتلاحق بلا هوادة : أكلُ هذا وتدّعي أنكَ زاهدٌ وأنك زاهدٌ من غير تصوّف ؟ نعمْ ، أنا زاهدٌ كل الزهد ولكنَّ الرِزقَ الذي يأتي من السماء أو من تحت مياه النيل الأزرق لا يجوز ردّه ، ردّه مُحرّمٌ شرعاً وعُرفاً وإلاّ تحوّلَ إلى نقمة سمائية وغضب ربّاني وأنتِ تعرفين مبلغ قدسية السماء بالنسبة لأهل الأرض أبناء الأم الهاوية . قالت أراك كُرةَ أو قطرةَ زئبق يستحيلُ الإمساك بها . ولماذا تحاولين إمساك ما لا يُمكن إمساكه ؟ ثم إنَّ الزئبقَ عنصرٌ معدنيٌّ سامٌّ . قالت بل قصتك مع الحصباء صاحبة الجَبَل سممتني . صرتُ أغارُ عليكَ منها ومن رملها وحصاها وحصباء جبلها وما يحمل جَمَلُها من أسرارٍ في أحشائه وما يحملُ فوقه على ظهره . لكنكِ ما كنتِ معي في القاهرة ولم تتعرفي على هذه السيدة إنما كان معي صديقي الفنان مُصدّق الحبيب .
 قالت إنه فنانٌ مسكين طيّب القلب يهوى الألوان والخط ويخافُ الدنو من عالم الستّات. أغريته ثم أوقعته في حبائلك الكثيرة الإلتواءات فلعب الدورَ الذي رسمتَ كأنك لا تجرؤ على القيام به لأسبابك الخاصة . أجبتُها : لكنه لعبَ الدور وقام به مسروراً خير قيام حتى أنه صار يتمنى أنْ نزورَ معاً عواصم أخرى فهل أدعوه كي يلتحقَ بنا حين ننفّذُ مشروع زيارتنا لمدينة براغ العتيدة ؟ قالت لا بأسَ من دعوته شرطَ ألاّ يلعب دورك معي ، أعني أنْ لا يتبادل معي أدوار الليل والنهار بدلاً منك . إعتدتُ عليك وتعوّدتُ سماع صوتك والإنسان عبد عاداته ثم إني سيدة محافظة وزاهدة يكفيني النهارُ في ليلي والليلُ في نهاري . إنْ قبلَ هذا الشرط فأهلاً به وبما سيحملُ معه من مستلزمات الرسم أمّا التصويرُ فسيكون من نصيبك .
هل سمعتَ هذا الحديث يا دكتور مصدّق الحبيب ؟ لم يفُتني حرفٌ واحدٌ منه ، قال . كنتُ معكما منذ ساعات الصباح الأولى . كنتُ أُصغي لما تقولان حتى أني نسيتُ كوب قهوتي وجددته مِراراً وكنتُ أغفلُ عنه المَرّة تلوَ المَرّة . حديثكما مُغرٍ شديد الإغواء عنيف الحرارة يحرّك الصخر والشجر ويقتلع الجبال مثل موسيقى قيثارة [ أورفيوس ] صاحب [ يوريديس الحوريّة ]. كيف أدعُ إحدى فُرص العمر النادرة تمر أمامي من غير أنْ أساهم فيها مساهمة فعّالة خاصةً وقد دار الحديثُ عمّا يتبادلُ الرجالُ والنساء من أدوارٍ في عاصمة تقلبات أهواء الليل والنهار دون حسيب أو رقيب . إذاً جهّزْ نفسك وستكون صاحبتك حصباء الجبل رابعتنا العَدَوية لتكملَ معها ما بدأتَ على يخت النيل في القاهرة .

CONVERSATION

0 comments: