سياحات خيالية (6)/ د.عدنان الظاهر

مايس 2007

سهام
سعاد ممرضة تزوجت وبقيت ،  بعد مشاكل كثيرة  ، في عصمة زوجها .
ليزا ممرضة تزوجت مرتين .
أما سهام ... فقد عزمت أن تدرس فنون التمريض في أحد معاهد لندن ...
لكني نصحتها أن تصرف النظر عن قرارها هذا فإمتثلت وليتها لم تمتثلْ !! تزوجتْ زواجاً فاشلاً أوشك أن يؤدي بها إلى الطلاق من زوجها . لم يحصل الطلاق ... حملت ثم فارقت الحياة في ظرف غامض . فلنتابع قصتها مفصلة ً .
كانت لا تكف ونحن في أول عهود الصِبا والشباب عن ترديد بيت أبي العلاء المعري الكثير التشاؤم :
تعبٌ كلها الحياةُ فما  أع
جبُ إلا من راغبٍ في إزديادِ
إنَّ حزناً في ساعةِ الموتِ أضعا
فُ سرور ٍ في ساعةِ الميلادِ
كنتُ ألومها في حينه وأعنفها وأثرثر كثيراً عن جمال الحياة ومباهجها وزخرفها الرائع وعن الآمال العِراض المنبسطة أمامنا . أجلْ ، كنتُ أتكلم معها عن الآمال وعن المستقبل اللامع قاصداً دخولي كلية الطب وما كان في رأسي من أهداف غير دخول هذه الكلية . أما المسكينة فقد ترجمت الأمور على هواها وحسب ما كانت تبتغي : الزواج بعد تخرجي في الكلية ! لذلك تركت قراءة أشعارَ أبي العلاء المِعرّي المتشائمة وإنصرفتْ كليةً لأشعار ( ولاّدة بنت المستكفي ) . كتبت لي مرةً رسالةً تضمنت البيت الآتي
نفسي تغارُ عليكَ مني
وتخشى مقلتي نظري إليكا
وكتبت لي  في مناسبة أخرى :
إذا ما الليلُ جُن َّ ونام صحبي
مشت نارُ التذكرِ في عظامي
سلامٌ أيها النائي سلام ُ
وهل يُغني عن اللقيا سلامي ؟
دخلتُ كلية الطب فعلاً وواصلنا تبادل الرسائل كما إعتدنا ، أنا أتكلمُ طباً وهي تتكلم حبّاً ! فاجأتني في واحدة من هذه الرسائل أنها رُشحتْ لدراسة التمريض العالي في لندن . قلتُ لها إننا لا نحترم هذه المهنة في العراق وإنها أساساً لا تلائمك ولم أزدْ . أجابت ــ وقد أساءت التفسير ــ إنها تصغي لنصائحي حرفياً ولن تستمع إلا لي . وإنها طوع يدي ، وإنها وإنها وإنها ...، ثم شاءت الظروف أن أترك الدراسة في كلية الطب وأنصرف لدراسة الكيمياء . توقفتُ عن مراسلتها قرابةَ عام كامل فتزوجتْ بعد أن أنذرتني . كان جوابي على إنذارها أنْ كتبتُ لها مهنئاً هذا الزواج . وتعهدتُ أنْ أعتبرها كما كانت أُختاً لي . وأن لا أنساها شرطَ أنْ لا تنساني. وأنْ نظلَّ نتزاور كلما كان ذلك ممكناً . ولا بأس أن أتعرفَ على زوجها وعلى عائلته .
زرتها بعد عامٍ من زواجها بناءً على إقتراحٍ منها . كانت تعيسة ً بزواجها فلا حبٌ ولا إحترام ولا إنسجام . ولقد إكتشفتْ بعد الزواج أنَّ لزوجها هذا زوجة ً أخرى تسكن وأطفالها منه الريف مع والديه وباقي إخوته وأخواته.
كانت صدمة لها لا مثيلَ لها . ولما كانت فتاة ً عالية الرأس وجيدة التربية والثقافة أراد زوجها المحامي أن يذل َّ كبرياءها بحرمانها من أحد أهم أركان الحياة الزوجية : ممارسة الجنس مع الزوجة ! قالت لي إنه يتركها لشهور دون أن يمسها فتعاني أشد درجات العذاب . تنام شبه عارية في فراش واحد مع رجل يدير لها ظهره وينام . يأتي السبتَ ــ إذا أتى ــ أُخريات الليالي مخموراً عادةً منهوك القوى بعد السكر ولعب القمار في نادي المحامين . أما هو ــ قالت لي ــ فلا يعاني من موضوع الجنس ، ذلك إنه يزور ريف زوجته الأخرى متى شاءَ ، وبالطبع يمارس الجنس مع
( الحُرمة ) الثانية . 
قالت لي بمرارة ولكن بدون دموع : أنتَ السبب !! نعم ، أنت سبب كل معاناتي مع هذا الحيوان أولاً وفي الحياة نفسها  ثانياً . تركتني فجأة ً وتوقفتَ عن مراسلتي فلم أشأ أن أبقى دون زواج وقد بلغتُ العشرين من عمري وكل صديقاتي ــ قالت ــ  تزوجن َّ في هذا العمر أو حتى أقلَ منه .
أجلْ ، قد أكون أنا السبب ، لكنْ لِمَ العَجلة ؟ عشرون عاما ً ليست بالكثير . أفما كان الأفضل أنْ تنتظري ــ قلتُ لها ــ مجيء فُرصة أخرى ربما تكون أفضل من ورطتك هذه ؟ ثم ، أفلا تطلقيه كي نتزوجَ بعد إكمالي دراستي في الكلية ؟ قالت سأفكر في الأمر ، سأفكر فيه جدياً . لا أطيق الحياة مع هذا الحمار السكير " المعيدي " . لقد حوّل حياتي إلى جحيم ٍ لا يُطاق . شاركني في داري وهي في طور البناء ، ولا أعرف مصير هذه الدار إنْ طلقته . نصحتها أن تستشيرَ محامياً فقالت : كل المحامين أصدقاؤه وأخشى أن لا أجدَ مَن أوكله من بين محامي مدينتنا . قلت لها ساقتله إنْ إغتصبَ دارك منكِ حتى وإنْ كان شريكاً . قالت وأي زواج هذا الذي تفكر فيه إذا غدوتَ قاتلاً مجرماً قد تُشنق أو تُسجن مدى الحياة ؟ سؤال وجيه .( قلتُ لنفسي ) . تطلقه فأقتله لأحرمنه من حقه في دارها ثم أتزوج منها ... أي عُرس هذا وأي حب وأي فرح ؟ حَسناً ــ قلتُ لها ــ فكّري جدياً وملياً في الأمر . طلقيه شرطَ أنْ تحتفظي بدارك ملكاً خالصاً لا شريكَ لكِ فيه . سنتزوج ونعيش معاً لنا دارنا ولك وظيفتكِ وستكون لي وظيفتي ، فما أسعدنا حينذاك ! الحب والأمل والأطفال والإستقرار . إلتمعت عيناها بنور غريب وهي تُصغي لحديثي الجدي الشديد الحرارة . قامت فقمتُ فقبلتني بحرارة من خدودي أولاً ثم ضغطت بشفتيها بقوة على فمي وهي مُغمضة العينين وقالت هامسة ً : أعبدكَ . في هذه اللحظة بالذات وبإلهام غريب لا علاقة له بالخبرة أو الذكاء (( وما كان لدي َّ شيء ٌ منهما يومذاك إذ كنتُ كما كانت في العشرين من عمري )) حدثتني نفسي أن َّ هذه الشابة المثقفة الرومانسية والشديدة الكبرياء تعرض نفسها للخطر . وإنها مرشحة لأحداث ٍ جسام ... ذاك أنها تعشق طالباً وتفضله على زوج محام ٍ يملك سيارة ً وأرضاً زراعية في الريف . وإنها مستعدة لأن تجازف بكل شئ . كارثة ، كارثة حقيقية لا أعرف حدودها ولا تفصيلاتها ولا طبيعتها . غريب ٌ شأنكَ أنتَ أيها الإنسان . فجأةً تخيلتُ الأمر وتصورته يقع الآن أمامي أو إنه سيقعُ غداً أمام أنظار الجميع .
كنتُ في سفرتي تلك أزورها يومياً في دائرتها أثناء ساعات الدوام الرسمي. وكانت تشجعني على ذلك وتطلبه مني بإلحاح . وعندما حذرتها مرةً من إحتمال أن يعرف زوجها بهذه الزيارات أجابت [ أنا الغريقُ فما خوفي من البلل ِ // المبلل لا يخاف من المطر ! ] . وأكثر من ذلك ، طلبت مني أن أحفر إسمي على خشب مكتبها في دائرتها فنفذتُ الطلب .
إنْ لم أزرها في دائرتها أثناء الدوام زرتها في بيتها في الأمسيات . ما كانت وحدها في البيت الكبير العامر ، كانت أمها معها فضلاً عن شقيقة زوجها الصغرى . أخبرتني ذات يوم أن زوجها يروم التعرف عليَّ وإنه يقترح اللقاء على الغداء ظهر يوم الخميس . وافقت بعد تردد إذ كنتُ أخشى أنْ يصيبها بسببي مكروه عاجل إثناء مكوثي في مدينتها . كما إقترحت والدتها ــ وهي قريبة والدتي ــ أنْ أمكث لديهم في بيتهم بدل إقامتي في الفندق . رفضتُ الفكرة بشكل قاطع إذْ لم أستطعْ أن أتخيل كيف سيتنافس رجلان على إمرأة واحدة تحت سقف واحد وهو سقف الزوج ، زوج قروي في الأربعين من عمره من جهة وعاشق شاب مدني في العشرين ؟ قالت الأم إنه لا يأتي البيتَ إلا مرة أو مرتين في الأسبوع . ثم إنه يعرف جيداً أنك قريبنا وإنه سبق وتعرف على شقيقك عندما زارنا قبل بضعة شهور . على أية حال ، قبلتُ دعوة الغداء وفي دخيلتي رغبة قوية
ــ أغلبها الفضول ــ أن أرى هذا الزوج وأن أتعرفَ عليه . ما شكله ؟ هندامه ؟ قبيح أم وسيم ؟ أسوأ أو أفضل مني ؟ كيف سيعامل زوجه بحضوري ؟ هل ستجرؤ هي أنْ تنظر إليَّ كعادتها بإستغراق صوفي أمام زوجها ؟ هل ستحيطني بالعناية الخاصة  التي عرفتها منها والتي دأبت هي على إتيانها كلما إختلت بي ؟ أسئلة كثيرة .
أخبرتني ( سهام  ) فيما بعد أنه كان محاميها الخاص المكلف بمتابعة قضايا الإرث في المحاكم بعد وفاة والدها . ومن هنا بدأت قصتها معه . هي تريد رجلاً يقف معها ويقف وراءها ويمثلها في المحاكم ويفض الخصومات القانونية نيابة ً عنها . أما هو فكانت عينه على قطعة الأرض التي ورثت وعلى باقي الملك الذي ترك لها أبوها الراحل . ثم كان يريد بيتاً يقيم فيه في المدينة وإمرأة شابة يسكن معها وإليها بدل التنقل بسيارته ما بين الريف ومكتبه للمحاماة في مركز المدينة .  هكذا تلابست الأمور وتشابكت المصالح فأثمرت زواجاً يقوم أساساً على المصالح المتبادلة  ولم تكن بالمصالح المتكافئة أبداً . كانت تفتقر إلى النزاهة من جانب الرجل : محام ٍ متمرس يعرف القوانين ونقاط القوة والضعف فيها ويعرف دروب الخروج منها والدخول فيها بإزاء شابة يتيمة الأب لا يقف وراءها إلا أم ساذجة ترملت حديثاً . ما كانت تعرف سوى عبادة إبنتها الوحيدة والإخلاص غير المحدود لزوجها الذي دللها إلى أبعد حدود الدلال وأغرقها بالذهب وما كان لها في الحياة سواه وسوى شقيقين إثنين .
تم َّ اللقاءُ على الغداء كما إتفقنا ظهر يوم خميس . قدمتني لزوجها وأجلستني في المكان المقابل له على مائدة للطعام كبيرة من خشب أسودَ ثمين . جلست هي إلى يساره وجلست أمها على يساري . كان الرجلُ بسيطاً في طريقة كلامه ودوداً ضاحكاً ومنكتاً . بعد الغداء إقترحت وأمها عليَّ أن أبقى كيما أقضي قيلولة الظهر لديهم . وافقتُ فوراً . أعدتْ ( سهام ) لي فراشاً وثيراً في غرفة الإستقبال الفخمة . قبلتني من الخدين ، أدارت   المروحة الكهربائية ، سدّت الباب ومضت . لم أستطع النوم كعادتي كلما تبدل فراشي أو مكان نومي أو مكان إقامتي .. شعرتُ بصداع قوي كالذي ينتابني وقت الأزمات النفسية الحادة أو الدراسية أو إثرَ وفاة عزيز . مر َّ الوقتُ ثقيلاً جداً جداً . ما كنتُ أستطيعُ قراءة الوقت في ساعتي إذ كانت الغرفة شديدة الظلمة . عتمتها قبل أن تغادرها . زاد صوتُ المروحة الدوّارة في تفاقم أمري حتى أني كنتُ أحسبه صوتَ طاحونة يخترق رأسي فأشعر بالتقزز حدَّ الإستعداد للتقيؤ . كنت ُ أتمنى أن تفتحَ سهام باب الغرفة ــ السجن المظلم وأن تأتي لتسامرني وتسليني وتنقذني من هذا العذاب المركّب وتسحرني بعيونها التي هي أوسع وأعمق من السماء وأعذب من جنات الخُلد . وبحديثها وأسلوب كلامها الذي لا مثيلَ له . أو في الأقل أن تسعفني بحبة أسبرين تُشفيني أو تخفف عني من ثقل هذا الصداع . كان عذابي وألم الرأس يزدادان مع مرور الوقت الذي كان ثقيلاً حقاً . وأزداد ألماً ويزداد الوقت ثقلاً كلما زادت رغبتي في أن أراها تفتح باب الغرفة بقامتها المديدة ووجها الضحوك ومداعباتها الأحلى من عسل ملكات النحل . كان الأفضل ــ قلت لنفسي ــ أنْ أعتذرَ عن البقاء لديهم بعد الغداء . فتحتْ سهام الباب فجأةً فرأيت الساعةَ قد بلغت الخامسة تماماً . سألتني هل نمتَ جيداً ؟ كذبتُ ، قلتُ أجلْ . أردتُ أن أقولَ لها ما كنتُ أريد أن أنام ، بل كنتُ أريدها أن تظلَّ  معي نتسامر في بيتها بدل اللقاء في دائرتها الحكومية . لم أستطعْ  بالطبع قول ذلك . أخذتني إلى الحمام وأغرقتني بالمناشف الملونة التي لم تستعمل قبلاً . جلسنا بعد الحمام ثلاثتنا ، هي وأمها وأنا ، فقط  في صالة كبيرة تتوسط الدار . كان الشاي جاهزاً وبعض الحلوى وفاكهة الصيف . أثار إنتباهي غياب الزوج . الساعة قد جاوزت الخامسة عصراً والزوج غير موجود . كان الوقت صيفاً ، أواخر شهر حزيران ،  وكان الحر شديداً . سألتها عنه فقالت إنه غادر البيت بعد الغداء مباشرةً متجهاً إلى بيته الثاني في الريف . فاليوم خميس وغداً الجمعة . يقضي عطلة نهاية الأسبوع مع الزوجة الثانية .
غادرتُ مدينتها إلى مدينتي على أمل أن نلتقي مرة ً كلَّ عام . إستأنفنا تبادل الرسائل كما كنا نفعل قبل زواجها . كتبت لي في إحداها أنَّ زوجها بعد زيارتي لهم وخاصةً بعد أن إلتقينا جميعاً على مائدة طعام غداء يوم الخميس الصيفي الحار صار يتودد إليها ملاطفاً مجاملاً وصار يقضي معظم أيام الأسبوع معها . ثم ( وهذا هو الأكثر أهمية ً ) شرع يمارس الجنس معها مرتين ــ ثلاث مرات ٍ في الليلة الواحدة . الأمر الذي لم تألفه قبلاً ولم تجد له تفسيراً معقولاً . في رسالة لاحقة أخبرتني بخطها الجميل المتقن  ولغتها العربية السليمة [ وكانت تكتب رسائلها بالحبر الأخضر ] بأنها ... حامل !! أجلْ ، حامل وأنْ لا سبيلَ إلى الطلاق من زوجها وقد أصبحت حاملاً . إقترحتْ أن تستمر علاقتنا دافئةً كما كانت ولكن على مستوىً آخر ... مستوى ً أوطأ : كأخوين ، هي أخت لي وأنا لها أخٌ كما كنا أيامَ الطفولة !!
كتبتُ لها رسالة جدَّ مختصرة لكنها عنيفة شديدة اللهجة طلبتُ منها فيها أن تتوقف عن مراسلتي . لم تكتب لي بعد رسالتي هذه حسب طلبي .
حاولتُ أن أنساها وأن أنسى كل ذكرياتي المختلطة معها . مزقتُ رسائلها وصورها الجميلة المأخودة في أرقى محلات التصوير .  تخلصتُ من ورق رسائلها الباذخ ومن حبر خطها الجميل الأخضر لكني لم أستطعْ التخلص منها . كيف أتخلصُ من إمرأةٍ تسكن صدري وفكري  ووجداني وتقيم في أحشائي ؟ كيف أتخلصُ من ذكريات ثلاثة أعوامٍ كاملة ٍ ليست مكتوبة على ورق كي أحرقه وأتخلص منه ومنها ،  كيف ؟؟
مع ذلك كنت أحاول نسيانها . أحاول فأنجح يوماً وأخفق أياماً . تذكرتُ ما قال الشاعر الماجن أبو نؤاس :
دعْ عنكَ لومي فإنَّ اللومَ إغراء ُ
وداوني بالتي كانت هيَ الداءُ
هي ــ حواء ــ هي الداءُ ...
تحت ظل وضغط هذه الظروف الشديدة الوطأة المركبة عليَّ بحثتُ فوجدتُ الدواء ميسوراً وتحت طوعي . زميلة في الكلية هي الأخرى تبحث عن دواء : زواج بالحب كشرط له . لا زواجَ بدون حب ، قالت ، فأضفتُ : ولا حبٌ بدون زواج ! قالت أحسنتَ ، يبدو أنك إبن أوادم . دامت علاقتي مع هذه الزميلة قرابة سبعة شهور لا أكثر . كنا نلتقي كما يلتقي باقي الزملاء في نادي الكلية أو نتمشى في حدائقها كبقية الطلبة ... لا حبٌ ولا وعودٌ  بزواج .
في عصرية يوم مطير من أيام شهر آذار ، وبينما كنتُ جالساً مع زميلتي في نادي الكلية وصلتني رسالة من أحد أشقائي ، فضضتها على عجل فلم أصدق عيني . كتب لي شقيقي سطراً واحداً يقول : { نعت إلينا أنباءُ ... خبر وفاة المرحومة المأسوف على شبابها سهام بعد مرض عضّال ٍ لم يمهلها طويلاً . توقيع  : أخوك فلان }.
لم أخبر الزميلة التي تجلس بجواري بمضمون الرسالة ــ الصاعقة . إعتذرتُ منها أني ولأمر طارئ وعاجل مُضطرٌ أنْ أغادرَ النادي . بهتت صاحبتي  ولم تصدق إدعائي فقد كنتُ شديد الإضطراب . قالت خبرني رجاءً ماذا حدث ، هل حصل لأهلك مكروه أو وفاة ؟ قلتُ كلا ، لا شئ ... لم يمتْ أحدٌ !!
همتُ على وجهي في الشوارع تحت المطر والرسالة في يدي لا أستطيعُ قراءتها ثانيةً ولا أجرؤ على إخفائها في واحد من جيوبي . فقدتُ صوابي . لا أدري كم شارعاً قطعتُ تحت المطر ولم أحسب للزمن حساباً . لم أشعر بعطش أو جوع  أو تعب . ماتت الأحاسيس فيَّ جميعاً . تفكيري مشلول تماماً . لم أنمْ ليلتها ولم أخبر صديقي( حسن )  بما حدث . الحدث أكبر وأجل من أن يمرر خبره لصديق .
عند الأهل وجدتُ برقيةً بتوقيع صديقتها ( ح. الشيخلي ) تقول :
(( بمزيد الأسى والأسف ننعى لكم خبرَ وفاة المأسوف على شبابها سهام على إثر مرضٍ عضّال لم يمهلها طويلاً . توقيع : ح. الشيخلي )) .
هل أطلبُ من والدتها أن ترسلَ لي رسائلي وصوري التي كانت بحوزة المرحومة ؟ كيف خبأتها عن زوجها وهي كثيرة ؟ ربما يعثر عليها خلال عمليات الغربلة والتصفية المتوقعة بعد الوفاة .
كلا ، سأطلبها منها حين أزورها في العطلة الصيفية الكبيرة . سأزور قبر سهام وأقرأ الفاتحة عليه لها وأذرف الدمع الغزير وفاءً لهذه الشابة النادرة المثال الجليلة القدر والمقام .
 ما كانت (  سهام )  إلا ملاكاً يمشي على الأرض .
إنتحرتْ سهام . تناولتْ سائلاً ثقيلاً ساماً قتّالاً فقضتْ ومات جنينها معها في أحشائها . هكذا قالت الأنباء الخاصة التي تسرّبتْ إلينا فيما بعد !!

CONVERSATION

0 comments: