كذبة بيضاء بلون الفحم/ محمود شباط


انتصبت السيدة الهرمة البدينة الدميمة إزاء المرآة كطود شحم ولحم ، شعثاء صهباء كعرافات الأحياء القديمة تستجدي آثار الصبا من المرآة ثم تسألها:
- قولي لي أيتها الزجاجية الخرقاء ! أهل لا زلتُ بدينة دميمة كما تزعمين ؟
- توهج الضوء وعكست المرآة شكل الهرمة البدينة الدميمة المتصابية بكل أخاديدها وتضاريسها وألوانها "المبهرجة" ، ظهر الشيب عند منابت شعرها المستشقر وضج أحمر الشفاه الفاقع وبدت كتل اللحم المترهل في الخدين والساعدين والصدر والبطن والوركين. لم ترق الصورة لصاحبة الصورة فاستنكرت بهستيرية وانفعال صدق المرآة:
- ما الذي أسأت به إليك كي تناكديني وتنكدين عيشي ؟ سايريني أيتها الحمقاء كي أبقيكي في غرفة نومي وإلا فسوف أحطمك وأرميك في أبعد مكب نفايات وسأطمرك بين بقايا الحيوانات النافقة.
- أنت من سيخسر وليس أنا . أنت من دفع ثمني ولست أنا من دفع ثمنك . لقد مللت شكلك ووقوفك الدائم قبالتي وتعبت منك ومن حجبك للضوء عني بجمك البعيري بل الفيلي، ولسوف يكون يوم إبعادك لي عن منزلك أسعد أيامي .
خبطت المرأة إطار المرآة الخشبي بغضب جنوني : يا لك من عاهرة زجاجية !

- شتائمك واتهاماتك لن تؤثر بتمسكي بفضيلة الصدق . لا تشتمي وتتهمي وتتهكمي كي لا تدفعين بي للبوح بأني أعرف عنك أكثر مما تتصورين ، و بأن لي ذاكرة أحتفظ فيها بصورك المشينة مع كل الرجال الذين تتوسلينهم ليطأوا مخدعك ، كلهم : هيـَّا ! هشميني وارميني كي تفضحك شظاياي وتؤكد للجميع ما يظنه الناس إشاعات.
- يا لمكرك وعنادك !

- حافظي على هدوءك وصوني لسانك ! لست ماكرة ولست عنيدة ، إنما أستجيب لنسب الأبعاد والخطوط والألوان وأجسِّدها حقيقة كما هي ، أسكبها جملاً مفيدة ، أعكس الصورة دائماً ولا أعكس الحقيقة أبداً.
باستسلام صار صوت السيدة الهرمة يرتجف : كيدك أشد إيلاماً من زعمك عكس الحقيقة ، حنانيك ! تمرسي بفن معسول الكلام والمسايرة.
- .........
صمتُ المرآة دفع بالسيدة كي تستنفركتلتها المكتنزة وصرخت كصافرة قطار تستدعي خادمتها : جوليا !! أينك أيتها الغبية ؟
هرعت الفتاة استجابة لنداء سيدتها ، وقفت بشبه انحناءة وعينين مرتعبتين تجفف يديها بأطراف مئزرها والتمست تلبية رغبة الشمطاء مستفسرة : فلتتفضل سيدتي !
- أفهمي هذه الرعناء بأني لست بدينة ولا دميمة .
مسحت جوليا الغرفة بنظرات متوجسة ، لم تر بشراً فاحتارت بأمرها ، دوزنت لسانها كالعادة على نغمة المسايرة واستفسرت : أية عمياء مجحفة هي تلك التي تجرؤ على نعت سيدتي بالبدانة والدمامة ؟
أشارت السيدة بيدها الضخمة نحو المرآة : هذه اللعينة
- آه ! هذا ما أصفها به كلما أنظفها ، يا لوقاحتها ! نزيل الأوساخ عنها فترميها علينا ! أين لدونة الخيزران من ليونة قد سيدتي ؟ وأين بهاء الريم من جمال سيدتي ؟ و ...و ...
توقفت جوليا عن الكلام و جفلت حين تردد في فضاء الغرفة همس خفي : رياء .. نفعية... دجل ... نفاق .
- حطميها يا جوليا ! ما أروع كذبك وما أبشع صدقها ! أكسريها واجمعي شظاياها وارميها بعيداً ، اسرعي يا جوليا لتعودي وتستلمي مكافأتك على كذبتك الحلوة كالعلقم.

CONVERSATION

0 comments: