ثرثرة عبّاس والقلق/ د. عدنان الظاهر


ما علاقةُ هذا بتلك ؟ العلاقة وثيقة ، قالت . كيف ؟ يُثرثرُ الإنسانُ حين ينتابه قلقٌ لأسباب شتّى مُنوّعة . مثلاً ؟ قالت : حين أتكلمُ لأول مرة مع إنسانٍ ( رجل ) غريب أُحسُّ برهبة يُصاحبها قلقٌ حتى أنَّ أصابعَ يديَّ ترتجفُ لذا أبادرُ بالكلام دونما توقف حتى تهدأ سَورةُ القلق كأنَّ الكلامَ يبتلعها أو يقتلعها رويداً رويداً . وحين أشعرُ بالراحة وتنتظمُ أنفاسي ودقاتُ قلبي تتوقف رجفة الأصابع وتنقشعُ غيمة القلق فتصحو السماءُ أمام عينيَّ . وهل تقلقين إذا تكلمتِ بالتلفون مع رجل غريب أو أحد المعارف البعيدين ؟ قالت أجلْ ، أقلقُ كأني أراهُ شاخصاً أمامي بلحمه وعظمه ودمه . قلتُ لها تتكلمين كأنكِ طبيبة نفسانية متخصصة من جماعة فرويد . قالت لستُ بحاجة إلى فرويد وعلم وطب فرويد فإني أُعاني من ظاهرة أعيشها لا تفارقني لأني بالتجربة والصبر على قرقعات الزمان اكتشفتُ أنَّ الولوغ بالكلام حدَّ الإسراف فيه يُفرّغُ أعصابَ الإنسان من توترات القلق ومزعجاته وأعراضه الظاهرة على الحواس والخفية في أعماق مجاهل الصدور . تساءلتُ في سِرّي : الهذا لا يُعاني خطباء المنابر الحسينية وغير الحسينية وخطباء السياسة في حدائق الهايد بارك في قلب لندن ... لا يعانون من ولا يعرفون القلق أصلاً ؟ قرأت السيدة أفكاري المخفية جيداً فعلّقت قائلةً : بالضبط ، لا تعرفُ القلق هذه الفئاتُ من البشر ولا تعاني منه أو من آثاره وتبعاته لا بفضل ما يتحلون به من شجاعة إنما الفضلُ كلُّ الفضل لقدراتهم الفائقة على الثرثرة ومواصلة الأحاديث وربط فقراتها بإحكام يُثيرُ عواطف السامعين ويستدعي حتى نزول الدموع الكثيرة من عيونهم بغزارةٍ وسخاء . هذه بعضُ مزايا الثرثرة فإنها قادرة على علاج الثرثار علاجاً نفسانياً وقادرة من الجانب الآخر على إستدرار دموع السامعين وتحريك أشجانهم بالضرب على أوتار تأريخية شديدة الحساسية ضاربة جذورها في أعماق تأريخ الأشجان والمآسي البشرية . قلتُ لها لكنَّ في بعض خسارة . قالتْ كيف ؟ قصصتُ عليها قصة الحلاّوي الثرثار المعروف في حلّة الزمن القديم بإسم ( عبّاس المستعجِلْ ) : راهنهُ بعضُ عارفيه من ظرفاء الحلة أنه سيحصل منهم على ليرة ذهبية مجيدية 24 قيراطاً إنْ عبر جسر الحلة القصير القديم الممتد على نهر الفرات صامتاً لا يتكلم . فرح بهذا العَرض السخي وتعهّدَ بالإلتزام بما اشترطوا عليه . وبالفعل ، خطا على الجسر خطواته الأولى دون أنْ يتلكم ولكنْ ... ما أنْ بلغَ منتصف الجسر حتى إلتفتَ إلى الوراء صائحاً بعالي صوته : يا جماعة الخير ! هل سأقبضُ الليرة الذهبية قطعةً واحدةً أم سأقبضها [ خُردة ] ؟ أي مقسمة على أجزاء أصغر من الليرة كما هو الحال مع العملات النقدية الكبيرة . ضحكوا عليه وأخبروه أنه قد خسرَ الرهان . كان ( عبّاس المستعجل ) معروفاً لدى أهل الحلة بأنه رجلٌ لا يعرفُ الصمت وليس من عادته أنْ يصمت فإذا صمتَ لبرهة قصيرة يحسب نفسه في عِداد الأموات . لذا فإنه يدفعُ الموتَ عن نفسه بالثرثرة . كان يواصلُ الكلامَ ماشياً وجالساً في مقهى حتى مع نفسه إنْ لم يجد أحداً يُصغي لكلامه . بل ويقول عنه عارفوه أنه يتكلم حتى في ساعات النوم . بقيت السيدة الزاهدة غير المتصوّفة ، سيدة [ براغ الأمل ] أو ربيع الأمل بقيتْ صامتة واجمة مشغولة الفكر بأمور أخرى لا علاقةَ لها بالسيد عبّاس المستعجل أبداً . قالت وقد استردّت أنفاسها إنها ترى في ظاهرة عبّاس المستعجل دليلاً آخرَ على صحّة نظريتها . كيف يا زاهدة ؟ لأنه يجدُ في الثرثرة علاجاً من قلق جدّي وخوف من خطر الموت . ألا ترى أنه يشعر بدنوِّ أجله إنْ لم يتكلمْ كأنَّ الكلامَ يُحرّكُ رئتيهِ ويمدّهما بالأوكسجين الضروري لإدامة الحياة . وإنْ لم يتكلم تتوقف رئتاهُ ويصمت قلبهُ فكلماتهُ فكلماتهُ إمتدادٌ لنبضات قلبه وعروقه . لكنَّ ثرثرة هذا الرجل المستعجل أبداً جعلته يخسر فُرصة ثمينة أنْ يربحَ ليرة من الذهب الإبريز . قالت لكنَّ حياته أكثرُ أهميةً من الذهب . إذا واصل السكوتَ يموتُ . أما إذا ربحَ الرهانَ فسينفق ثمن ما ربح على زجاجات العَرق المغشوش والجيد فمع السُكر تتضاعفُ قدراته على الثرثرة المتصّلة واختراع القصص الخرافية وقول الشعر الشعبي الرديء أو البذيء يرددهُ دون حياء على مسامع النسوة المتسوقات في هذا السوق أو ذاك .
هكذا خسر عبّاس الرهانَ الفريد ولم يحصل على ليرة الذهب الخالص وهو بأمسِّ الحاجة لثمنها فعيدُ الأضحى على الأبواب ويا طالما تمنّى لو يُسعفهُ الحظُ يوماً ليبتاعَ خروفاً يتنازلُ للقصّاب عن جلده وصوفه فضلاً عن القلب والكبدة والرئتين أي [ المعاليق ] ثم يوزّعُ لحم الخروف بالتساوي على جيرانه الجُنُب ثم الأبعد فالأبعد على أنْ يحتفظَ لنفسه ـ وهي أمنية عزيزة ـ بفخذي الخروف ، أُضحية العيد ، يطبخ من لحمهما كباباً ومن العظام يصنع [ تشريباً أصفرَ ] ليثردَ فيه ما شاءَ من خبز تنّور والدته الحاجة نورية ... ومع التشريب يواصل السُكر والثرثرة ولا يجرؤ بَشرٌ على اعتراضه ولا حتى والدته التي أنجبته ، كما تقولُ ، خطأً .
ما رأيُ صاحبنا بطل الأسطورة الإغريقية ( أورفيوس ) ؟ أطرق ولم يُجبْ . داعبته سيدة الزُهد الأسطوري وأضحكته وقدمت له بعض الحلوى مع قليل من النبيذ الروماني المعتّق تحت الأرض في أديرة أوائل مسيحيي روما وتوسّلت أنْ يقصَّ علينا قصة خسارته لزوجه بعد أنْ حصل على أذن السماح له بإخراجها من عالم الظلام والموت السفلي ، الحاديس . لعبت في رأسه نشوةُ الشَمول وهزه الطرب وهو سيده فتناول قيثارته وأخذ يعزف ويغني فتحركت الجدرانُ وتزحزحت الجبال وغنت معه الأشجارُ وأفرط في شرابه فتوقف عن العزف والغناء ليقص علينا مأساته في ضياع زوجه [ يوريديس ] . قال : اللعنة كل اللعنة على الثرثرة والثرثارين ومخالفي المواثيق وناكثي العهود . قتل الثعبانُ حبيبتي الحورية يوريديس فتبعتها إلى العالم السفلي ، حاديس . هناك عزفت وغنيّتُ فرقّت لي قلوب الألهة وردت لي زوجي وحبيبتي يوريديس شرطَ أنْ لا ألتفت إلى الخلف لأرى وجهها وهي تسير ورائي في طريقنا للخروج من عالم الظلام والموت السفلي . خالفتُ فالتفتُ إلى الوراء لأطمئنَّ إلى وجودها بالفعل وأن الألهةَ نفّذت ما وعدتْ غير أنَّ الألهةَ حجزتها ثانيةً في العالم الأسفل عقاباً على مخالفتي وتنفيذاً لما اشترطت عليَّ . ألستُ ، تساءلَ ، أسوأ من صاحبكم الحلاوي عبّاس المستعجل ؟ خسر عبّاس ليرة من الذهب لكني خسرت مناجم ذهب ودر وجواهر بخسارتي لحبيبتي وزوجي يوريديس . لم يدع الحزن يقهره فتناول قيثارته وشرع يغني على النادر من الحانه فخلع السيد عباس عباءته وعقاله ويشماغه وتوسطنا راقصاً هازجاً متمايلاً تحمله قدماه بصعوبة بالغة جرّاء إفراطه في تناول الخمرة وخلو بيته من الطعام سوى كسرات من الخبز الشديد الجفاف .

CONVERSATION

0 comments: