بتاريخ 25-11-2010، ووسطَ لفيفٍ مِن الأدباءِ والشّعراءِ والَأصدقاءِ والأقرباءِ، احتفتْ كلّيّةُ الكرملِ وبيت الكاتب في الكرمل بالمُربّي والشّاعر مجيد حسيسي، وبكتابِهِ الشّعريّ الجديد "وطني على ظهري"، وقد افتتحَ الأمسيةَ د. أكرم حسون بكلمة أثنى فيها على المسيرةِ التّربويّةِ والأدبيّةِ لمجيد حسيسي، وقد استلمَ زمامَ العرافةِ الشّاعر زياد شاهين، مُطَعِّمًا اللّحظاتِ الفاصلةَ بمقتطفاتٍ شعريّةٍ جميلة، وتخلّلتِ الأمسيةَ فقراتٌ ومداخلاتُ تحليلٍ مُسهبةٍ حولَ الكتاب "وطني على ظهري" ابتدأها د. منير توما:
"وطني على ظهري" مجموعةٌ شعريّةٌ أصدرتْ في نيسان 2010، بحُلّةٍ قشيبةٍ جميلةٍ تسترعي الانتباهَ، وبإخراجٍ فنّيٍّ رائعٍ امتازَ بها الكتابُ، مِن حيثُ التّجليد الرّاقي، والورقِ الصّافي، والطّباعةِ الأنيقة، إضافةً إلى رصانةِ وجماليّةِ المحتوى والمضمونِ لقصائدِ الدّيوان، الّتي يظهرُ في معظمِها "موتيف الصّمت" بشكلٍ بارز، ممّا دفعني إلى تناولِ المعاني الكامنةِ وراءَ كلمةِ "الصّمت" ومشتقّاتها اللّغويّةِ الواردةِ هناك، بحيثُ يتكشّفُ لنا الهدفُ الفنّيُّ الشّعريُّ مِن طغيانِ هذهِ الكلمةِ في معظمِ قصائدِه، لاسيّما وأنّ الشّاعرَ بانتقائِهِ لهذهِ الكلمةِ المتكرّرةِ كثيرًا في أغلبِ القصائد، قد قصدَ معنًى معيّنًا يعكسُ نفسيّةَ الشّاعر في مواقفَ معيّنةٍ، لتبريرِ أحاسيس وأفكارٍ تعتملُ في صدرِهِ وفِكرِهِ، وبالتّالي يقودُنا إلى فكرة ال" المعادل الموضوعيّ" الّتي ابتدعَها النّاقد والشّاعر العالميّ ت. س. إليوت، حيثُ قصَدَ بها ألاّ يُعبّرَ الكاتبُ عن آرائِهِ تعبيرًا مباشرًا، بل يخلقُ عملاً أدبيًّا فيه مقوّماتُهُ الفنّيّةُ الدّاخليّة، الّتي تكفلُ فنّيًّا تبريرَ الأحاسيسِ والأفكارِ للإقناع بها، بحيثُ لا يُحسُّ المرءُ أنّ الكاتبَ يُفضي إليهِ بذاتِ نفسِهِ بإثارةِ المشاعرِ المباشرةِ دونَ تبريرٍ لها.
يقول ت. س. إليوت: "الطّريقُ الوحيدُ للتّعبيرِ عنِ الإنفعالِ في صورةٍ مخفيّة، هي العثورُ على معادلٍ موضوعيّ، وبعبارةٍ أخرى، على مجموعةٍ مِنَ الأشياءِ، أو على موقف، أو على سلسلةٍ مِنَ الأحداثِ تكونُ بمثابةِ صورةٍ للانفعالِ الخاصّ، بحيثُ متى استُوْفيَتِ الحقائقُ الخارجيّةُ الّتي يجبُ أن تنتهيَ إلى تجربةٍ حِسّيّةٍ، فإنّ الانفعالَ يُثارُ إثارةً مباشرة".
ولعلّ شاعرَنا في هذهِ المجموعةِ قد اختارَ كلمةَ "الصّمت"، باعتبارِها موتيفًا يتكرّرُ في معظمِ القصائدِ كما يبدو مِنَ الأمثلةِ والنّصوصِ الّتي سنسوقُها، وذلكَ انطلاقًا مِن كوْنِ الشّاعريّة اليومَ هي حالةٌ نفسيّةٌ مَنوطةٌ بدرجةِ الانفعالِ واتّساعِ نِطاقِهِ، وأسمى درجاتُ الشّاعريّةِ وأفعلُها في النّفوس، ما كان منها واسعَ الانفتاح على أعماقِ الحياة، وصادرًا عن النّشوةِ الدّاخليّةِ واللّذّةِ الوجدانيّة. وفي هذا الدّيوان يُعبّرُ الأستاذ مجيد حسيسي عن تجربةٍ انفعاليّةٍ، في تمازجٍ تامٍّ بينَ التّجربةِ والتّعبيرِ عنها، ويستعينُ بتقنيّاتٍ جديدةٍ وتغيراتٍ شكليّةٍ في الشّعر، تنبعثُ مِن فكرةٍ وشعورٍ هادفٍ يمتازُ بطابعٍ عاطفيٍّ قويّ.
يتحدّثُ الشّاعرُ في أولى قصائدِ الدّيوان الّتي تحملُ عنوانَ "شيءٌ مِن إباءٍ" عن صمتٍ صارخ، يُفهَمُ مِن إيحاءاتِهِ، إلى أنّهُ تسيطرُ على سطورِ القصيدةِ عاطفةُ الأسى والحسرةِ للحالةِ الّتي صارَ إليها الوضعُ العربيّ، والصّمتُ الصّارخُ هنا يوحي بثورةٍ هادئةٍ في أعماقِ نفسِ الشّاعر الّذي يتألّم ويُعاني بصمتٍ ثائرٍ، حيث نسمعُهُ يقولُ ص 9 -10:
هذي عيونُ الفجر تسألُ عن.../ دموعٍ في عيونٍ مِن مساءْ../ هذا جناحُ اللّيلِ/ الصّمتُ فيها صارخٌ../ يبغي العبور/
وقصيدة "في ليلةٍ" تظهرُ آثارُ اليأسِ وصرخاتِهِ، حيث تبدو أحاسيسُ اليأسِ والاستسلامِ للضّياع في المقطع التّالي، الّذي يتعاملُ مجازيًّا مع "صمت الفؤاد" ص 12:
في ليلةٍ ../ صمَتَ الفؤادُ بنبضِهِ/ وتعالتِ الصّرخات/ مِن بركانِ فاجرةٍ/ تمخّضَ عن لهيبٍ باردٍ/ فيه احتمى.
وفي القصيدةِ نفسِها تتكرّرُ الصّورُ الفنّيّةُ والأخيلةُ الّتي يحملُها الصّمتُ في ثناياه، حيث جاءَ هناكَ أيضًا ص 13:
في ليلةٍ/ بذرت النّجومُ على جبينِ الفجرِ لوحةَ عاتبٍ/ صمتتْ.. ونارُ حنينِها لا تنطفي/ بالصّمتِ راحتْ في طريقٍ مِن أثير/ الشّمسُ في عليائِها/ تشكو برودةَ زمهرير/ والحزنُ في أحضانِها/ كانَ ارتمى.
ويبدو أنّ للصّمتِ سُلطتُهُ الفنّيّةُ والمعنويّةُ والإيحائيّةُ على الموقفِ المتمثّل هنا بالعاطفةِ المتّقدةِ والنّفسيّةِ المائجة، ويسترسلُ في هذه القصيدةِ مشيرًا إلى فعلِ الصّمتِ مرّة أخرى قائلاً ص 14:
في ليلةٍ/ صمتتْ نجومُ اللّيلِ وانتحبَ القمر/ النّاس في بلدي/ تماثيل .. صور/ وخيوطُ سرْكٍ في الملاهي كالدّمى/ وقصيدتي/ جزءٌ مِن الأحداثِ تُفهمُ بالوَما!!
وهنا يعقدُ االشّاعرُ مقارنةً بينَ صمتِ النّجومِ وحالةِ النّاس المُتردّيةِ في سكونِهم، وتسليمِهم بالأمرِ الواقعِ المحيطِ بهم، ويُشبّهُ الصّمتَ مِن حولِهِ بالضّجيجِ والدّوامة، كاستعارةٍ عن الثّورةِ الدّاخليّةِ الهادئةِ بهيجانِها، في جوانحِهِ التّوّاقةِ دائمًا لرفضِ حالةِ الخواءِ والابتئاسِ والتّراجع، الّتي تحدقُ بالأوضاعِ السّائدة فيقول ص 18:
الصّمتُ مِن حولي ضجيجٌ في احتراقي/ دوّامةٌ.. تحملُني أوزارُها. ص 18
ويتابعُ في قصيدة "أدوس على نفسي" التّعبيرَ عن ثورتهِ الصّارخةِ المتجسّدةِ بالصّمتِ الثّائر بهدوء، على ضياعِ كبرياءِ المجدِ والعزّ والسّؤدد الّذي تلاشى وافتُقِدَ في هذا الزّمان ص 20:
بقايا كبرياءِ المجدِ ذاعت/ وتلاشتْ كالأثير/ الصّمتُ يصرخُ.. يستغيثْ/ لا.. لا مِن مغيث. ويلاحَظُ هنا أنّ "صراخ الصّمت".. تُهدهدُهُ العبادة" في آخر هذا المقطع مِنَ القصيدة، وفي كلِّ مقطعٍ آخر منها نجدُ صورةً ممتدّةً أو مجموعةً مِنَ الصّور، الّتي تُمثّلُ لوحةً مصغّرةً مِن اللّوحةِ الكبرى، مثل الصّور الّتي تُعبّرُ عن ضياعِ الوعي ورثاءِ الواقع، مِن خلالِ ألوانِ النّقدِ اللاّذعِ والتّحسّرِ الشّديدِ على الماضي ص 22:
الصّمتُ يرفضُ السّكوتْ/ لكن/ لا دافعًا فينا/ ولا مِن بدلاً عنّا يموت!!
وللصّمتِ بريقُهُ في الحبِّ كما يقولُ الشّاعرُ في قصيدة "أحبّك" ص 23:
أحبّك كلّما ارتحلتْ أقماري/ وجابَ بريقُ صمتي دربَ أسراري
وكما للصّمتِ بريقٌ، فإنّ "معاييرَ الحياء" في هذه الحياةِ وهذا المجتمعِ تصمتُ وتتلوّنُ وتتبخّرُ، دلالةً على الخواءِ الأخلاقيِّ وانعدامِ الالتزام بالثّوابتِ المتعارفِ عليها، وسقوط المحبّةِ الّتي يجبُ أن لا تسقطَ أبدًا، لكن ضياعَ موازينِ الحياءِ الّتي صمتتْ قد أفسدتْ كلَّ جمالٍ في دنيانا:
صمتتْ معاييرُ الحياءِ.. تلوّنتْ/ وتبخّرتْ مثلَ الأثير. ص 29
أما قصيدة "أوترحلين"، فتَرِدُ فيها كلمةُ "الصّمت" الّتي تُشكّلُ معادلاً موضوعيًّا في القصيدة، باعتبارِهِ موقفًا يُصوّرُ انفعالاً خاصًّا لتجربةٍ حسّيّةٍ يُثارُ فيها الانفعالُ إثارةً مباشرة، وهذهِ القصيدةُ تُعبّرُ عن موقفٍ إنسانيٍّ يعتريهِ الشّجنُ والحزنُ الممتزجُ بالطّبيعة، حيثُ أنّ الصّورةَ الشّعريّةَ تتعاونُ فيها الصّورُ الجزئيّةُ، وتَحلُّ الصّورُ الجزئيّةُ محلَّ الأنغامِ في الموسيقا، بكونِ اللّغة تمتازُ بالحيويّةِ ذاتِ الكلماتِ النّابضةِ والأسلوبِ السّلس ص 46:
أوترحلينْ؟/ والصّمتُ مِن أوصالِ مَن قطعَ الحنينْ../ العشقُ يَرعى مع نجومِ اللّيلِ في فلكِ السّنينْ/ أوترحلين؟ وبقيّةٌ مِن فجرِ صبحٍ../ تتفجّرُ الأضواءُ فيهِ.. مِن أنينْ!
واللاّفتُ في قصائدِ هذا الدّيوان، أنّ الشّاعرَ يتّسمُ بالدّقّةِ في التّعبيرِ عن جوانبِ النّفس، فالألفاظُ حيّةُ، والعِبارةُ موحيةٌ بعيدةٌ عن التّكلّفِ، يأتي الخيالُ فيها لتأييدِ الجوِّ الوجدانيِّ العامّ وترسيخِ العاطفة، كما في عبارة "صمْت القدر" مِن المقطع التّالي في قصيدة "سأموت" ص 54:
سأكونُ في صمْت القدَر../ أرجوحةً../ أو لعبةً للطّفلِ.. لم../ يجِدِ الطّعامَ.. ولا الثّمرْ!!
وفي قصيدةِ "صفعةٌ مِنَ التّاريخ" يستعيضُ الشّاعرُ عنِ الأحاسيسِ ودخائلِ النّفسِ النّابضةِ بالحياةِ والذّاكرة بكلمةِ "الصّمت"، الّذي يكتبُ على سبيلِ الاستعارة، وفي ذلكَ ميلٌ لدى شاعرِنا على الابتكار كما في الصّورةِ الّتي رسَمَها للصّمت، فالخيالُ عندَهُ مُساندٌ للفِكرِ والوجدان، فيهِ قوّةٌ وعمقٌ لاسيّما حينَ يقولُ ص 56:
وباتَ الصّمتُ يكتبُ ما ورثناهُ/ وقبرُ جنودِ أفكاري/ بترحالي/ ومِن صمتِ الحروفِ كتبتُ ملحمةً/ وسيفُ اللهِ مصلوبٌ..
وفي شعر هذا الدّيوانِ كلُّ لفظةٍ تنزلُ في مَحلِّها، فلا اضطرابٌ ولا حشوٌ ولا تعقيد، وفي قصيدةِ "إلى الوليدِ.. أخي" استحضارٌ تصويريٌّ لروحِ أخيهِ العزيزِ الغالي على قلبِهِ، في شتّى مظاهرِهِ وآياتِ فتنتِهِ يَعرضُ لهُ في تأنٍّ وتأمّلٍ وعاطفةٍ جيّاشةٍ وشجنٍ دافقٍ، بإخراجٍ جماليٍّ لفظًا ومعنًى، تبرزُ فيهِ قدرتُهُ على استخدامِ كلمةِ "الصّمت" في عدّةِ مواضعَ مِن القصيدة، بإتقانٍ وفنّيّةٍ ومهارةٍ باديةٍ للعيان، حيثُ جاءَ في هذهِ القصيدة ص 71 - 72 :
أوتارُ قلبي في غيابِك تنزفُ/ والصّمتُ يحكي حرقتي.. ويُرفرفُ/ ..../ صمَتَ الفؤادُ وغبتَ عنّا باسمًا/ أزف الوداع.. فبتَّ طيفًا ..يُخطفُ/ ....... / صمَتَ الكنارُ عن الغناءِ تأسّفًا/ والموتُ أمسى مِن دموعي .. يأسفُ.
وينفجرُ الشّاعرُ في قصيدة "باقيةٌ في القلب" انفجارًا عاطفيًّا مؤثّرًا مقرونًا بالصّمت، ممّا يعكسُ رقّةَ إحساسِهِ وعاطفتِهِ متدفّقةِ المشاعرِ، تجاهَ الذّكرى لروحِ أمّهِ المرحومة حيث يقولُ ص 74:
أمّي/ أهذا الصّمتُ.. صمت ٌمودّعٌ/ أم أنّ صمتَكِ في الحنايا../ يُسمَعُ؟
ومِن خلالِ كلمة "الصّمت" يميلُ الشّاعرُ إلى استبطانِ النّفسِ الإنسانيّةِ بالحديثِ عن العزّ الّذي مضى، والإشفاقُ مِنَ المصائبِ كما يتجلّى ذلكَ في قصيدةِ "وطني على ظهري" ص 76:
وطني على ظهري ونعشي يُنصبُ/ والصّمتُ مِن حولي ضجيجٌ يصخبُ/ ......../ صمَتَ الأنينُ وراحَ يكوي مهجتي/ وكرامتي بيعتْ.. فراحتْ تنحبُ
ويلجأُ الشّاعرُ إلى العنوانِ المُعبّرِ في قصيدة "ألوكُ الصّمتَ" ص 88، حيثُ صارتِ القصيدةُ لديهِ وسيلةً للتّعبيرِ عن العواطفِ والمشاعرِ والتّحليلِ المنبثقِ مِنَ الشّعورِ بالقلقِ والحيرةِ والحزن:
ألوكُ الصّمتَ في ألمٍ... وأبكي/ على طفلٍ تُقطّعُهُ الحروبُ
ويُعبّرُ الشّاعرُ بحرارةٍ وصدقٍ عن المأساةِ الّتي يعيشُها جيلُهُ، ويلجأُ إلى الطّبيعةِ بصمتٍ يبثُّها آمالَهُ الضّائعةَ ويأسَهُ مِن الحياةِ الّتي تسودُها الأوضاعُ الرّاهنةُ فيقولُ ص 94:
نُحبُّ اللّيلَ في صمتٍ.. نُعاتبُهُ/ ونَسهرُ معَ نجومِ اللّيلِ.. نرتشفُ
ويُصوّرُ الشّاعرُ وضعًا خاصّا، أصبحَ فيهِ الصّمتُ ثقيلاً وعبئًا على نفسِ إنسانةٍ تمرُّ بأزمةٍ صحّيّةٍ خانقةٍ تعجزُ عن التّحكّمِ بها، حيثُ يتعاطفُ معها الشّاعرُ بإنسانيّتِهِ المعهودةِ وبعاطفتِهِ الفيّاضةِ ويقولُ بألم ص 106:
القلبُ منّي نائحٌ والصّمتُ أمسى يُثقلُ/ كيفَ التّعاملُ مع أنينٍ باتَ يشكو.. يَسعلُ؟
ويرى الشّاعرُ أنّ الصّمتَ قد يكونُ سلاحًا في يدِ الإنسانِ لمواجهةِ الظّلم والقهر ص 109:
صمْتُنا صارَ سلاحًا.. قيّدَ أيدينا انكسرْ/ شِعرُنا باتَ كفاحًا ليسَ يمحوهُ المطر/ ..../ صمتُنا يبقى سلاحًا يضربُ الظّلمَ الكئيبْ
وفي قصيدةِ "كلُّ المراكبِ غادرتْ" نلتقي بقولِ الشّاعر ص 114: "بالصّمتِ أحكي ما يجيش بداخلي"، حيثُ يجعلُ الصّمتَ ناطقًا مجازًا، ترافقُهُ موسيقًا ناعمةً سلسةً بشِعرٍ خافقٍ بأشجى العواطفِ الإنسانيّةِ وأسماها، وكما لاحظنا، فإنّ شاعرَنا يحترفُ استخدامَ الاستعاراتِ في قصائدِهِ الّتي تمتازُ بالحيويّةِ والأداءِ التّصويريِّ والعُمقِ والابتكارِ والارتباطِ بالطّبيعة، وهذا الأمرُ يَظهرُ في النّصّ "أحلامُ الجدود" ص 121:
صمَتَ التّرابُ بأرضِنا مُتنهّدًا/ فتنهّدتْ فينا السّواقي والعيون/ صرنا دخانًا في فضاءٍ يستحي/ وتراثُنا كجراحِنا.. فينا يهونْ
وهنا تتّضحُ لنا وحدةُ الجوِّ النّفسيِّ المُتمثّلِ في الأسى واليأسِ والألمِ والمعاناة، وفي قصيدةِ "بريق الحرف" تتكرّرُ كلمةُ "صمت" سبعَ مرّاتٍ، لتثيرَ في النّفسِ مختلفَ المعاني والمشاعر، حيثُ تسيطرُ على الأبياتِ عاطفةُ القلقِ والألم وضيق النّفسِ، خصوصًا وأنّ عبارةَ "صمت المساء" تتكرّرُ خمسَ مرّاتٍ، لتوحي مِن خلالِ التّصويرِ الاستعاريِّ بانعكاسِ العاطفة، بما فيها مِن شكوى واضطرابٍ وإحساسٍ بالتّمزّقِ والأسى ص 136:
صمَتَ المساءُ مُكفِّنًا/ نورَ المحبّةِ في الحرير/ وهوتْ به أهواؤُهُ/ مثلَ عصا تهوي بصاحبِها الضّرير/ في هوّةٍ .. نحوَ الهلاكِ.. لهوّةِ الوادي السّحيق/ صمَتَ الحبيبُ كليْلِهِ/ صمَتَ النّقيق/ ضاعَ الدّليل.. كدرْبِنا/ زالَ البريق!!
وللخيالِ عندَ شاعرِنا دورُهُ في التّصويرِ، حيثُ نجدُ في قصيدةِ "مسافات" لغةً حيّةً نابضةً مع البُعدِ عن الغرابة، لِما فيها مِن صورةٍ وعبارةٍ ناطقةٍ بالوجدان، مِن خلالِ المجازِ اللّغويِّ والاستعاراتِ الواردةِ في القصيدة ص 146:
بكتِ الكواكبُ نفسَها/ قدَرًا يُمثّلُهُ القضا../ والصّمتُ صوتٌ مِن حريرْ
وهنا نشعرُ بإنسيابيّةِ وشفافيّةِ الصّمتِ بمعناهُ الحريريِّ الهادئِ في النّفس الإنسانيّة، ليُشكّلَ صورةً فنّيّةً متكاملةً في هذا السّياق، ويتطرّقُ في قصيدةِ "أنا جئتُني" إلى "صمتِ الحزن"، ليُجسّدَ تلكَ الثّروةَ الفكريّةَ وتلكَ الغزارةَ المعنويّة، وذلكَ التّغلغلَ في طوايا النّفسِ، وتلكَ الواقعيّةَ اللّفظيّةَ اللاّفتةَ والإلحاحَ على المشهدِ الفريدِ واللّفظةِ المُعبّرةِ عن الثّورةِ الحياتيّةِ المتفجّرةِ، بمقاييسَ تتناغمُ ونبضاتِ وجدانِهِ، وتتمشّى وحركة الأفكار والعواطفِ في مُجملِ كيانِه ص 149:
ها جئتُني/ أحكي فصولاً مِن سخافاتِ البَشر/ أحكي كلامًا مِن مطر../ أروي بصمتِ الحزنِ قصّةَ مَن غدا../ يمشي على سطحِ الرّياحِ بلا جناح
ومِنَ الجديرِ بالإشارةِ هنا إلى ورودِ كلمةِ "الصّمت" في قصائدَ أخرى مِنَ الدّيوان، مثل "نسيج اللّواعج"، "منارة الثّأر"، "بدوني لن تكوني"، حيث يبدو التّيّارُ الوجدانيُّ المُصوّرُ للأحاسيسِ الذّاتيّةِ، الّتي يغلبُ عليها الأسى والحزنُ بصورةٍ تتعادلُ معَ أحاسيسِ الشّاعرِ وتتفاعلُ معها، وهكذا نكونُ قد تناولنا بالبحثِ والدّراسةِ "موتيف الصّمت" في ديوان شاعرنا، مُتّخذينَ مِنَ الصّمتِ معادلاً موضوعيًّا أدبيًّا ذا جمالٍ غير ذاتيّ، له مُبرّرُهُ الخاصُّ بهِ، ولهُ قوانينُهُ الّتي تحكُمُ جوهرَ العملِ الفنّيِّ في متعتِهِ الذّهنيّةِ أو العاطفيّة، فلشعرِ مجيد حسيسي أطيب التّمنّيات بموفور الصّحّةِ والعمر المديد ودوام التّوفيق والعطاء.
وفي عزفٍ منفردٍ داعبَ عازفُ العودِ نادرَ حسيسي أسماعَ الحضور، بلحنٍ جديدٍ وصوتٍ شجيٍّ أتحفَ الجمهورَ بقصيدةِ "قبّليني"، مِن كلماتِ الشّاعر مجيد حسيسي.
وشعَّ صوتُ القاصّةِ الأديبةِ راوية بربارة أنثويًّا رخيمًا يتلألأُ حياةً يُحيّي الحضورَ قائلا:
إنّه لشرفٌ لي أن أكونَ ضيفةً على الكرمل، وأن أكونَ ابنةً لكم في الوطن واللّغةِ والإحساس، وشرفٌ أن أكون هنا اللّيلةَ بينَ هذا الجمْع المميّز المثقَّف الشّامخ، فسلامٌ على "داليةٍ" تتدلّى عناقيدُ شموخِها، تُخمّرُ في دنان الكرملِ، وتقطِرُ نبيذ إباءٍ. سلامٌ على زفراتِ القلبِ النّابضِ سروًا وصنوبرًا وترابًا، كانوا فيئًا وفوحًا وعبقًا لنا وما زالوا. سلامٌ على اختلاجاتٍ تفضحُ حبَّنا لكَ أيّها الكرملُ المحلّق نسرًا يصطادُ العقولَ بثقافةِ أهلِهِ، وينشبُ مخالبَ كلماتِهِ في وجهِ الواقع، يفردُ جناحيْهِ لنطيرَ كالخوافي، ونلتقطَ خفايا وخبايا مكنوناتٍ حسّيّةٍ، ملحميّةٍ، غزليّةٍ، وطنيّةٍ، ونكونَ كأفراخٍ بذي مَرَخٍ نقتاتُ مِن ثمرِ محبّتكم، وطيبةِ قلوبِكم، ونبقى على جوعٍ.
سلامٌ على حركةٍ أدبيّةٍ بدأتْ تدقُّ أوتادَها في الأرضِ، لتحميَ بوْحَ حبرِنا مِن عواصفِ القدَر. وسلامٌ على "مجيدٍ" جمعَنا لنحملَ وطنّنا في قلوبِنا، وعلى ظهورِنا، صليبًا نسيرُ بهِ في دربِ الآلام، لنصلَ جلجلةَ الخلاصِ، صالبينَ آفاتِنا وانقساماتِنا، شاربينَ خَلاًّ يُطهّرُ نفوسَنا، لنُبعَثَ أحياءً بعدَ كلِّ إصدارٍ يُطلُّ مِن بابِ مغارةِ الشّعرِ.
"وطني على ظهري"، اعتدْنا أن نقولَ "وطني في قلبي"، فكيف نحملُهُ على ظهورِنا إلاّ تناصًّا معَ الصّليبِ الّذي حمَلَهُ المُخلّصُ، في إشارةٍ إلى أنّ الشّاعرَ ومَن أُهديَتْ إليه القصيدة (سميح القاسم)، وكلَّ قارئٍ يتماهى معَ الفحوى ويجدُ انعكاسَ روحِه فيها، هو مَن سيَفدي الوطنَ، ويحملُهُ على الأكفِّ والأكتافِ، حتى لو نُصبَ النعشُ. يُراوحُ مجيد في هذهِ القصيدةِ بينَ المضمونِ والأسلوب، ليوصلَ لنا تخبّطاتِهِ وأنينَهُ ومواقفَهُ، فيستعملُ الأوكسيمورون (الإرداف الهمزيّ) تاركًا الصّمتَ يضجُّ ويصخبُ، على اعتباريْن؛ أوّلِهما أنّ أبلغَ الكلامِ هو الصّمتُ في أحيانٍ كثيرة، وعلى اعتبارِ الصّمتِ المطبِقِ الّذي رأى ما رأى ولم يُحرّكْ ساكنًا، وهو يُشيرُ إلى صمتِ الضّادِ بمعناها الأوسع، وصمتِ القلبِ المقهورِ فوقَ ركامِ البيتِ/ الوطن.
ونراهُ يُعاودُ التّناصّ مرّة أخرى كآليّةِ تواصلٍ بينَ القديمِ والجديدِ، بينَ الماضي والحاضرِ، متّكئًا على التّناصِّ الدّينيّ للعهدِ القديم، للتّوراة، للأسفارِ، مبتكرًا سِفرَ الكرامةِ الّذي سُحِبَ مِن بينِ يديْهِ بسببِ الصّمتِ العارم، الصّمت الّذي يكوي المهجةَ، بانزياحٍ لُغويٍّ تتبادلُ فيهِ الكلماتُ صفاتِها، فيصبحُ الصّمتُ كاويًا.
ولا يكتفي بالتّناصِّ الدّينيِّ المسيحيِّ واليهوديّ، فيصلَ أهلَ الكهفِ بنومِهم مُشبّهًا الصّامتينَ عن الحقِّ بالنّائمينَ نومةَ أهلِ الكهف، يُقابلُهم مَن عاثَ في الأرضِ فسادًا، و"الله يعرفُ كيفَ كانَتْ عاقبةُ المُفسِدين".
وننتقلُ لقصيدةِ "وأرحلُ"، لنجدَ الشّاعرَ يتقمّصُ الشّمسَ المائلةَ إلى الغروبِ، ليرحلَ مثلَ حبّاتِ النّدى تاركًا زمنًا أثخنتْهُ الجِراحُ والنّدوبُ، تاركًا وترًا يتيمًا ينزفُ الألحانَ، تاركًا شِعرًا ورسْمًا ووشمًا، راحلاً ليبقى بقاءَ العمرِ في زمنِ الوجودِ، وهذا البقاءُ بوجهيْنِ؛ الوجهِ الدّينيّ على اعتبارِ التّناسخِ وبقاءِ الرّوح الّتي لا تفنى وانتقالِها مِن جسدٍ إلى جسدٍ، والوجهِ الإنسانيِّ الّذي يُبقي "المجيد" بعدَ رحيلِهِ بشِعرِهِ وذكراهُ الطّيّبة، ورسْمِهِ ووشمِهِ وألحانِهِ. وفي أكثرَ مِن موضعٍ يَذكرُ الشّاعرُ إيمانَهُ في البقاءِ، لأنّ النّفسَ هي الّتي تخلدُ، فيقول في قصيدة "خلود النّفس":
سأحيا بعد موتي، لا مفرٌّ/ لأنّ النّارَ مصدرُها اللّهيبُ/ سأحيا بعدَ موتي مِن جديدٍ/ لأنَّ الموتَ في عُرفي قريبُ/ أبدّلُ في حياتي بعضَ ثوبٍ/ لأنّ الثوبَ مِن نفسي قشيبُ
فالجسدُ بالنّسبةِ للشّاعر مجرّد ثوبٍ نبدّلُهُ ما بينَ مرحلةٍ ومرحلةٍ، والنّفسُ تنتقّلُ بينَ الأجسادِ خالدةً إلى الأبد. فلا مفرَّ مِنَ الحياةِ بعد الموتِ، لأنّ النّارَ مصدرُها اللّهيب، والحياةَ مصدرُها الموت!
وإذا بقينا مع موتيف "الرّحيل"، ننتقلُ لقصيدةٍ مرهَفةٍ ترشحُ عواطفَ صادقة، قصيدة "أوترحلين؟" تلكَ القصيدة الّتي يكتنفُها الاستفهامُ الإنكاريّ، غيرَ مصدّقٍ الحقيقة المرّة الّتي تقولُ كما قال جرير "لا بدّ للقرَناءِ أن يتفرّقوا ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ"، ويُكثّفُ مجيد الجملَ الحاليّةَ شارحًا حالَهُ عندَ رحيلِ المحبوبة، راحلاً ما بينَ الصّوتِ والصّمت؛ (صمت الرّحيل، وصوت أنين النّاي)، ما بينَ الصّبح والغروب (في إشارةٍ للموت والحياة)، ما بينَ الألوان (الظّلام وأضواء الفجر)، راسمًا صورةً شعريّةً للصّبح الّذي لاحَ بشالِهِ، لاحَ مودِّعًا عندَ الغروب (بداية الحياة وغروبها، فمنذ أن نولدَ يلوحُ الموتُ في النّهاياتِ، يُلوّحُ بشالِهِ، وكما قال أبو العتاهية "مَن لم يُصبّحْهُ وجهُ الموتِ مسّاهُ")، هذا الصّبحُ الّذي يأبى الإيابَ وشمسُهُ تأبى الهروب، ما بينَ العودةِ إلى الحياةِ وما بينَ البقاءِ فيها، يتلاعبُ الشّاعرُ بالحروفِ في تنغيمٍ وترديدٍ صوتيٍّ بينَ أبى وآبَ، لكسْرِ التّضادِ بينَ رفضِ الغيابِ وعدمِ الرّجوع:
أوترحلينْ؟/ والصّمتُ مِن أوصالِ مَن قطَعَ الحنينْ../ العشقُ يَرعى مع نجومِ اللّيلِ في فلك السّنينْ/ أوَترحلينْ؟/ وبقيّةٌ من فجرِ صبحٍ../ تتفجّر الأضواءُ فيه.. مِن أنين!/ أوترحلين؟!/ الصّبحُ لاحَ بشالِهِ عندَ الغروب../ يأبى الإيابَ.. وشمسُهُ / تأبى الهروب/ والنّايُ تبعثُ لحنَها/ مِن حزنِها انتحبتْ قلوبْ!!
ويرسمُ مجيد صورةً لصغارِ الفِرِّ الّتي جاءتْ فجأةً كرحيلِ المحبوبةِ المفاجئ، فتنكّرتْ للحَبِّ في أجراننا، وصامتْ عن الطّعام والشّراب السّلسبيل.
كما اللّوعةُ ظاهرةٌ كذا الحُبُّ، وكما الرّحيلُ ظاهرٌ كذا البقاءُ، وكما الحاضرُ ظاهرٌ كذا الماضي الشّعريُّ السّحيق "وشُدّتْ لطيّاتٍ مطايا وأرحُلُ"، والشّاعرُ قد امتطى السّماءَ باحثًا عن رحمةِ اللهِ، طالبًا مِن هذهِ المحبوبةِ بصرخةِ ألمٍ ورجاءٍ ألاّ ترحلَ:
"ما اسودَّ مِن حبري الورقُ/ ما عادَ في زهري رحيق/ ما عادَ في نوري ألق/ ما عادَ في دربي طريق/ هذا أنا باقٍ هنا/ فالأرضُ أرضي/ والسّماءُ مطيّتي../ واللهُ في دربي..الرفيق!!/ لا ترحلي..!!!
ونبقى مع تساؤلاتِ الشّاعر، لكن ليستِ الإنكاريّة، بل تلكَ التّساؤلاتِ الوجوديّة الّتي تُشغلُ بالَ الكثيرين، ومنهم "إيليّا أبو ماضي" في طلاسمِهِ "جئتُ لا أعلمُ مِن أينَ ولكنّي أتيتُ"، لنسمعَ مجيدًا يربطُ بينَ مجيئِهِ ووجودِهِ وحاضرِهِ الغريب، فيقول:
أمِنَ الثّرى قد جئت طينًا../ ينشوي فيه القمر؟/ أم مِن ترابٍ باردٍ..لا ينكوي فيه القدَر؟/ أم مِن رياحٍ عاصفة؟/ أم مِن قنابلَ ناسفة؟/ أم أنّ في الدّنيا مكانًا../ جئتُ منه.. وانتهى مثلي../ بلا وطنٍ..سماءٍ..أو مطر؟؟/ مَن يا ترى في هذهِ الدّنيا أكون؟؟/ لله فينا بعضُ شيءٍ مِن شؤون!!
إنّ علامةَ التّرقيمِ البارزة في الدّيوان هي علامة التّعجّب! وتُسمّى علامةَ الانفعالِ وعلامةَ التّأثُّر، ولا عجبَ مِن ذلك، لأنّ الشّاعرَ يطرحُ أوضاعًا عجيبة، هي لنا وحدنا، تُميّزنا عن باقي سكّان الأرض، ببقائِنا في وطنِنا بلا وطن، وبمجيئِنا إلى وطنِنا دونَ اعترافٍ منهُ فينا، وبرحيلِنا عنه وبقائِنا فيه، لذا يتعجّبُ الشّاعرُ، هل في الدّنيا مكانٌ جئتُ منهُ وصارَ مثلي بلا وطنٍ ولا سماءٍ ولا مطرٍ؟ بلا خيرٍ وبلا علاقةٍ بينَ الأمّ الأرضِ وماءِ السماء.
وكما يُكثّفُ مجيد علاماتِ التّرقيم بينَ التّعجّبِ والاستفهام، ليوصلَ حيرتَهُ واشمئزازَهُ واستنكارَهُ أو فلسفتَهُ في الحياة، أو مواقفَهُ وتاريخَهُ، نراهُ يلجأُ للحرفِ الواحدِ مُرْخِيًا لهُ الحبلَ على الغاربِ ليُعبّرَ عن رأيِهِ، ممزِّقًا الكلمةَ متخلّصًا مِن أحدِ حروفِها ليتغيّرَ المعنى، كما فعلَ مع كلمةِ "عرين"، في قصيدةِ "نون العرين"، فآسادُ الشّرى الّذين كانوا يُكلّلونَ رؤوسَهم بأمجادِ التّاريخ، ويَستلّونَ سيفَ عنتر صائحين "ويكَ عنتر أقْدِمِ" قد سقطتْ أكاليلُ إبائِهم، وبادتْ حضارتُهم وغدتْ كلماتٍ في المُعجمِ ليسَ إلاّ، وأصبحْنا كقولِ الشّاعر "أفتحُ عيني على كثيرٍ ولكنّي لا أرى أحدا"، لأنّ الكثيرَ على قولِ مجيد:
فكثيرُهم/ فقدوا الكرامةَ واستباحوا/ حرمةَ الثّوبِ الحزين/ وتدافعوا/ وتحاربوا/ وترافعوا .. وتجاوبوا..
فتواصلتْ كلُّ النّجومِ على الأثيرْ/ وتكلّلتْ راياتُ عنترَ بالعفيرْ/ وتعطّات/ لغةُ الطّيورْ.. فعاتبتْ.. ضادًّا تَكسّرَ سنُّها/ حينَ استبيحَتْ يومَها.. زمن الأميرْ
ويتابعُ إلى أن يصلَ إلى بيت القصيد، ليقولَ بأنّ نون العرين تمزّقتْ، فلم يبقَ مِنَ الكلمةِ إذًا إلاّ العُريّ والعار، والخزي الّذي أصبحَ إكليلَنا الدّائمَ بعدَ أن تخلّيْنا عن كرامتِنا.
وينحتُ الكلماتِ في قصيدةٍ أخرى ليبعثَ كلمةً جديدةً على غرارِ متشائل إميل حبيبي، فيقولُ "المتفائم" ما بينَ التّفاؤلِ والتّشاؤم والتّفاقم الحاليِّ في أوضاعِنا.
مجيد في هذا الدّيوانِ يقولُ لكلِّ قارئٍ: قمْ واحملْ وطنَكَ واتبعْني، يُطلِقُها أنّةَ حزنٍ، ويستحلفُ التّاريخَ ألاّ يستحي بفِعلتِهِ! يُراوحُ بينَ الألمِ الذّاتيِّ والهمِّ العامّ، فيُماثلُ بينَ ألمِهِ وألمِ شعبِهِ، ويُسقطُ مِن إبائِهِ على حروفِ العربيّةِ لتُثيرَ فينا نخوةَ العزّةِ القديمة.
مجيد يمدُّ يدَهُ نحوَ حبالِ الماضي، فيَمسكُ بالأشطانِ ليَرميَها في بئرِ الواقعِ ويغرفَ ماءَ الحياة، ويتواصلُ مع كلِّ الدّياناتِ ليقولَ: كلُّ الدّياناتِ الحقّ ديني، فالإيمانُ هو الدّين، والتّقوى هي الدّين، والمحبّةُ هي الدّين، والدّينُ يتنكّرُ لكلِّ مَن لا يزرعُ السّلامَ في دروبِ الآخرين.
مجيد في هذا الديوان يفتحُ دوائرَ الأحزان، ويُغلقُها على خيبتِها، لأنّ فرحَ الحياةِ يَطغى، وقوّةَ الطّبيعةِ ترفضُ الجسدَ الميّتَ، لكنّ قوّةَ البَشرِ تكمنُ في رفْضِهِم للنّفسِ الميّتة، لذا يعيشُ مجيد يعدّ كلَّ موتٍ افتراضيٍّ ويُبعثُ حيًّا.
مجيد في هذهِ القصائدِ عزفَ على أوتارِ التّناصِّ ألحانَ التّواصلِ، التّناصِّ الدّينيِّ (الإنجيل والتّوراة والقرآن، والتّناسخ والتّقمّص)، وأوتار التّناصّ الأدبيّ الفنّيّ (سميح القاسم، وإميل حبيبي وناجي العلي ومحمود درويش) وأوتار التّاريخ (عنترة، والشّنفرى وجرير..)
مجيد حملَ وطنَهُ على ظهرِهِ ليُصلبَ عليه، ويُدقَّ بمساميرِ الصّمود، ويموتَ ويقومَ في الجيلِ الثّالث، حاملاً حسَّهُ الوطنيَّ لكلِّ شرفاءِ الأرض.
وعودةٌ لفاصلٍ زجليٍّ ساخرٍ للزّجّالِ شحادة خوري (أبو مروان) حولّ اللّغةِ العربيّةِ المُهجّنةِ بالعبريّة، ليتابعَ الشّاعر تركي عامر بعضَ مقتطفاتٍ شعريّةٍ فكاهيّةٍ، وقفشاتٍ طريفةٍ استوحاها مِن خلالِ علاقتِهِ بالمُحتفى بهِ، ثمّ يختمُ اللّقاءَ المحتفى به الشّاعر مجيد حسيسي بقراءاتٍ شعريّةٍ مِن كتابِهِ الأخير، وبعدَ الأمسيةِ دعا الحضورَ لوجبةِ عشاءٍ في منتزهِ البستان.
0 comments:
إرسال تعليق