مصنع أبو اسكندر/ محمود شباط


في زقاق جانبي من سوق البلدة تنحشر دكان صغيرة معتمة ، فصلت شركة الكهرباء التيار عنها لعدم تمكن صاحبها من سداد الفاتورة. وعلا الصدأ الرتاج الحديدي الطويل الذي يحتجز بقفله الضخم باباً خشبياً متهالكاً ينم عن فقر الحال.
في تلك البيئة البكر المترعة بالسكينة والبؤس كان يجلس الإسكافي أبو اسكندر على الحافة الخرسانية لباب دكانه التي ورثها عن أبيه منذ أكثر من نصف قرن، يمل اجترار عز الماضي وحضيض الحاضر فيتوكأ الثمانيني الواهن على عكازه ويدخل إلى ما يسميه "الفابريكا" ، وحين يتواضع قليلاً يسميه "المصنع".
لن يهون أبو اسكندر ولن يعترف لأحد بأن "الفابريكا" تحتضر. يجلس على كرسيه الخشبي المهترىء القاعدة ، يرتفق طاولته الخشبية التي لازال عليها ما يذكره بمجد غابر أفل عزه حين غزت المنتجات الأجنبية الجيدة والرخيصة أسواق لبنان. يتشاغل بنقل علبة المسامير من الجهة اليسرى إلى الجهة اليمنى من الطاولة ، ثم علبة الصمغ ثم الشاكوش. يشغل بقدميه الضعيفتين ماكينة درز الأحذية ليسمع صوتها ، وليسمع المارة ضجيجها المحبب لديه كي يوهم الغير بأن أبا اسكندر لا زال يعمل كما أيام زمان. بعدها يقوم بمسح السدان الذي مسحه مرات و مرات قبل ظهر ذلك اليوم.
وقف يتجول في دكانه ، يدور فيها ببطء ويتحسر. تمنى لو كان باستطاعته صعود السلم الخشبي ليزيل نسيج العنكبوت عن الكراتين الفارغة التي وضعها على الأرفف العليا ليوهم الناس بأنها مليئة بالجلود والأحذية والمسامير.
رغم كساد سوقه وبوار مهنته وعجزه عن الإستمرار في العمل كون ما يجنيه بالكاد يسد الرمق، واظب أبو اسكندر على فتح دكانه صباح كل يوم. يجلس وينتظر زبوناً من الرعاة أوالمزارعين الذين يفضلون تدجيج أحذيتهم الثقيلة بنعال من قطع إطارات الكاوتشوك السميك المتين، يجول بنظره على محتوياتها، مرة أخرى يلامس بيديه المرتعشتين السندان والماكينة والشاكوش وعلبة الغراء وقطع إطارات الكاوتشوك والمسامير، يحاول الإمساك بالكماشة الصدئة فتفلت من بين الأصابع الراجفة، يحس بالأسف فيشفق على الكماشة، لم يستطع الإنحناء ، يجثو العجوز الواهن، يلتقطها ويقبلها ثم يعيدها إلى علبتها المعدنية ويربت عليها بحنان ورفق ويعتذر منها. ثم يتوكأ على عكازه ويمشي بانحناءته المقوسة ويديه المرتعشتين إلى الخارج ليجلس على العتبة الحجرية الأعلى قليلا من الرصيف ينتظر صديقه أبي نواف كي يلعب معه "الطاولة" كما يفعلان كل يوم. وليمننه بأنه يعطيه من وقت يقتطعه من أعماله الكثيرة كما يقول له كل يوم أيضاً.
جاء في تلك الأثناء مرسل، حفيد أبي اسكندر لابنه الأصغر نمر وسأل جده أن يعطيه مصروفه اليومي . مد أبو اسكندر يده الواهنة إلى جيبه واستل محفظته الهزيلة ونقد الطفل 250 ليرة . تفقد ما بقي معه من غلة العمر كله فوجد بأن ما بقي لديه لن يكفيه ثمن دواء السكري والضغط وقطرة العين وبقية الأدوية التي يحتاجها ولا تتوفر في المستوصف الخيري أو المستشفى الحكومي.
لم يتبق لديه أرض ليبيعها ويعتاش من ثمنها. باع الكثير من الجلود وبعض العدة إلى أبي توفيق الحوراني تاجر الخردوات منذ خفت وتيرة عمله إلى حدود التوقف. نظر خلفه نحو ماكينة الدرز التي قال له أبو توفيق بأنه سيشتريها منه ليبيعها لأحد الأثرياء كي يضعها كتحفة أثرية في دارته المنيفة. هز أبو اسكندر رأسه إلى الأعلى : لا . لن يبيع رفيقة دربه ، لن يخون من لم تخنه يوماً ، لم يفكر ببيعها حتى حين صار في البلدة كهرباء كما فعل زميله مرهج ، واشترى يومها ماكينة خياطة أحذية تعمل على الكهرباء فقط لأن مرهج اشترى واحدة. تذكر كم من مرة تعطلت تلك الماكينة الحديثة التي كان يضطر لنقلها إلى المدينة لإصلاحها. كانت كثيراً ما تتعطل أو تقطع الكهرباء فيلجأ إلى "رفيقة دربه" الماكينة القديمة.
باع أبو اسكندر ماكينة الكهرباء غير آسف عليها حين احتاج إلى ثمنها. ولكنه لن يتخلى عن تلك الآلة الأليفة القديمة التي ساعدته على تربية عائلته الكبيرة وتعليمهم. تنهد . راكم هماً آخر في ركن من أركان قلبه العليل. حرك شفتيه يلوم أبنائه بصمت لنسيانهم والدهم في غمرة متطلبات الحياة، يلومهم ويعذرهم في آن : اسكندر بالكاد يكفي عائلته، فرج اغترب وانقطعت أخباره ، ونمر عاطل عن العمل .
وبينما أبو اسكندر يكبو بين الفينة والفينة في جلسته على عتبة باب دكانه، يستمد بعضاً من دفء شمس قلما تجود به أيام الشتاء سمع طقة عكاز أبي نواف فأفاق ومسح عينيه وضيقهما ونظر صوب القادم ليتحقق من أن القادم هو صديق العمر. تأكد من حدسه ، فقام وأحضر "الطاولة" وكرسي لأبي نواف الذي ما إن جلس حتى بدأ يحدث أبا اسكندر بتباه عن حفيده منصور لاعب الكاراتيه . حضور أبي نواف يعيد لأبي اسكندر بعضاُ من روح النكتة والظرف اللذين كان يعرف بهما ، فيعلق بتورية وسخرية ذكية على ما يرويه أبو اسكندر كل يوم وينسى بأنه فعل. يومها أخبره أبو نواف بأن منصور " يقبر جدو"
- انشالله
- شو قلت ؟
- قلت اسم الله
أكمل أبو اسكندر : وحين وصل "منصور البطل" إلى محطة البنزين البعيدة عن العمران هاجمه كلب "شيان لو" فوقف وقفة تأهب قتالية .
- من ؟ الكلب ؟ : استفسر أبو اسكندر بخبث.
- لأ. منصور. ثم تقدم أكثر فاتحاً فمه عن آخره مكشراً عن أنيابه فتخابث أبو اسكندر مرة أخرى واستفسر : من ؟ منصور؟
- لأ ! الكلب .
لم ينتبه أبو نايف لسخرية أبي اسكندر إذ كان همه تزجية الوقت فألح على صديقه يستعجله فتح "الطاولة" والبدء باللعب كي يلعبا شوطان ينصرف بعدها أبو نواف لزيارة صديق آخر تاركاً أبا اسكندر يعوم في شروده البارد بنصف حضور، يفكر في البوح بشكواه على أولاده إلى مخلوق يثق به، وهو لا يثق بأبي نواف الخرف الثرثار. تخيل نفسه يحادث نفسه فتصل العبارة إلى الحنجرة وتعلق، كان يربأ بنفسه أن يعرف كائناً من كان بعقوق أبنائه ، غير المقصود ربما ، كان يخجل من أن يعلم الناس بأن أولئك الشباب لا يهتمون لأمر والدهم. تمنى لو يجلسوا معه ليسمعهم صرخته وليشكو لهم حاجته الماسة إلى الدواء ومصروف البيت وليقول لهم بأن والدتهم لم تعد تهتم له فلا تطبخ ولا تغسل ثيابه فيضطر هو إلى إعالة نفسه كي لا يعرف الغير بعيوب العائلة وليبقى ما في البيت للبيت وما في القلب للقلب. تذكر صورهم صغارا، حين كان في شبابه وفي أيام عزه ومجد صنعته يجول على ظهر حماره بكبرياء على بيادر المزارعين من زبائنه كي يسددونه ما عليهم من مستحقات قمحاً أو شعيراً أو عدسا. كان كريماً مع أولاده ، يحرم نفسه من بذلة العيد ليشتري لهم ولزوجته ثياباً تليق بأفراد عائلة أبي اسكندر.
جاء الطفل مرسل وأخذ من جده ما تبقى لديه من ليرات قليلة في جيبه وانصرف جذلاً.

غابت الشمس وبدأ ستار العتم يسدل ، ضجت ضلوع العجوز بوجع الفقر والشيخوخة والمرض، أحس بضيق نفس فتوكأ على عكازه ووقف خارجاً ينتظر أحد المارة ليساعده على إقفال باب الدكان .
ألفى أبو اسكندر نفسه أسير عشقه لدكانه وعدة العمل، تلك الكيانات الجامدة تذكره بمجده وهو يحب من يذكره بمجده. أضحى لا يقوى على فراق "الفابريكا" ومناخها وعتمتها. فصار يتنكر ليلاً ، يلبس كوفية بدلاً من طربوشه الأحمر وتقوده قدماه وعكازه نحو منبع مجده وبؤسه في آن.
عرفت زوجته بزياراته الليلية المتكررة للدكان فصارت تتسلل خلفه، وحين دخل الدكان وأغلق الباب خلفه أضاء شمعة وجلس خلف الطاولة وراح يشغل ماكينة الدرز ويهذر بكلام كثير لم تفهمه أم اسكندر، ظنته بداية يكلم أحداً ، وضعت عينها على فتحة في الباب فرأته يتملى بالشمعة بصمت ، ظنت بأنه يراقب الشمعة تحترق لتضىء له كما احترق هو واضاء لأبنائه ولأمهم. تركته وعادت إلى البيت تلطم خديها بينما استمر هو يشكو أبناءه لأدواته الجامدة ، ويعتذر من السندان والشاكوش والماكينة. يحادثهم كبشر أو كحيوانات أليفة. ينتهي من طقوس الإعتذار فيتملى بصور قديمة لسياسيين ومطربين وفنانين معلقة منذ زمن بعيد على جدران "المصنع" ، والتي كان يزيد عددها كي تستر عورات الجدران والسقف كلما انخفضت وتيرة إنتاج المعلم أبو اسكندر كي يوفر على نفسه ترميم الجدران وطلائها.
في ليلة باردة خرج أبو اسكندر من المنزل دون تنكر ، أحست زوجته ، لحقت به خفية، لم يتجه يومها إلى "الفابريكا" بل صوب الجرف الصخري جنوب القرية. وبينما هو جالس على صخرة فاجأته :
- عد إلى البيت ! سوف تبرد وتمرض وتموت إن بقيت هنا
- أموت ؟؟ رد ساخراً بصوت شبه هامس
- عد إلى البيت !
- عودي أنت ! سوف أنتظر فرج
دمدمت بكلمات تدعو عليه "بقصف العمر" ليريحها منه ومن ترهاته وخرفه ثم عادت أدراجها إلى الدار. أفاقت بعيد طلوع الفجر وتفقدت فراشه فلم تجده ، قلقت عليه وأخبرت أبناءها ، بحثوا عنه عند سفح الجرف ولم يعثروا على أثر له.

CONVERSATION

0 comments: