لو أحصينا ما يكتب اليوم في المواقع الالكترونية في جميع نواحي المعرفة لرأيناه كثيرا، ربما لا تتسع إمكانياتنا لحصره، حيث تنوعت الأساليب واختلفت المشارب وتعددت الرؤى والغايات، وكذلك النوايا، إذ أصبحت الساحة مملوءة بالأسماء الجديدة والقديمة ومتوسطة القدم، مفتوحة على كل شيء، بعد أن هشم المد العولمي أسطورة الرقيب وإقليمية الإبداع، إذ فتحت وسائل الاتصال ومنها الانترنيت نوافذ بحجم العالم، لتقلب ساحات الوغى التي تعودنا على نزالاتها وصراعاتها وسجالاتها، بين القديم والجديد، بين التراث والحداثة، بين القصيدة الموزونة وقصيدة النثر، لتصبح معارض كبيرة تعرض كل شيء الغث والسمين، والبين بين، والمتلقي في لجتها مخير لامسير في الوقوف أمام ما يريد، وأصبح الكل مشغول بكل شيء، فأصبح لدينا الكثير من الصفات والتوصيفات الجديدة، منها الكاتب متعدد الاهتمامات، وكاتب التعليقات أو (أدب التعليقات)، الذي يصافح الناس كل الناس بابتسامة كبيرة وربما بانحناءة لـ (......) منهم، وظهر الكثير من الكتاب منهم الحقيقي الذي وجد صوته وفرضه علينا، وأخر يكتب لنفسه، وأخر يكتب للأصدقاءه المعلقين الذين يخافون من زعله، وأخر يبحث في خضم الكلمات عن لاشيء سوى وجود قوامه كلمات مبعثرة، خجلة، ترقص على إيقاع مضطرب لا تلظمها إلا قافية رتيبة وسط بقايا الأوزان المهشمة والرؤية الغائمة، وكل يغني على ليلاه، ولكن مع ذلك فقد فتح الباب أمام الكثيرين الذين لم يطرقوا باب الكتابة من قبل، أصبحوا مشاركين فعليين وسط لجة ثقافية مضطربة، كاتبين للمقالات أو معلقين أو حتى شعراء وقصاصين.
وظهرت أيضا الكثير من الدعوات التي تنادي بوضع رقيب على ما ينشر في المواقع الالكترونية، لان الحالة – على حسب زعمهم – قد استفحلت، من النصوص الركيكة إلى الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية، ففقدت الكتابة رونقها الحقيقي، وأصبحت ساحة للتباهي والاستعراض، ولكني في الحقيقة لا أجد لهذه الدعوة مسوغا مقبولا يمكن أن يرضي الأطروحة العولمية، وأنا من أشد المعارضين لهذه الدعوات، ليس دفاعا عن الركاكة وضعف الكتابة، وإنما فتح الباب على مصراعيه لكل الوافدين فاسحين لهم مجالا ليعبروا عن أنفسهم، وان يحاولوا أن يوصلوا نتاجهم، أما الحكم على مدى قوة فلان أو ضعف فلان، فهذا متروك لقرار المتلقي الذي يطوف في هذا المعرض العولمي الفسيح، وأن لا نمارس عليه أو على كتابته أي سلطة نحن لانمتلكها.
وتجرنا هذه الدعوات إلى ظاهرة غريبة وخطيرة بنفس الوقت، ربما يمارسها مع الأسف بعض الكتاب أو النقاد أو المتلقين، وهي اتهام الآخرين بأن هناك من يكتب لهم، وأنهم قاصرون عن الكتابة، ولا اعرف كيف يصاغ مثل هكذا اتهام خطير، على افتراض ربما أوهمته به قراءته، وربما يكون افتراضا خاطئا، وربما نتساءل نحن هل تؤثر شخصية الكاتب أو حقيقته بمستوى النص وأدبيته، وأيضا كيف لي أن اثبت إن ما أعرضه باسمي هو لي وأن قلمي قد خطه على الورق إن ليس هناك كاتبا خفيا يكتب لي!!
بعد إن انشغل النقد طويلا بكاتب النص واعتبروه المرجع الرئيسي في التحليل، جاءت البنيوية لتحطم ذلك الفهم ونادت بموت المؤلف، واهتمت بالعلاقات الوظيفية الداخلية لبنى النص، دون النظر إلى خارجه أو محاولة ربطه بمؤلفه، لان القيمة الجمالية تكمن داخل النص، بغض النظر عن كاتبه أو حتى جنسه، فعلى الناقد أو أي متلقي أخر للنص أن لا يمارس سلطة أو دورا رقابيا سلطويا، وإنما يأخذ دوره في تفعيل الحوار صوب محاولة أغناء وإثراء التجارب الكتابية الجديدة، وأن يكون النص الكتابي ساحة للتعاطي والحوار، بعيدا عن التلقي السلبي المريض، وتبادل التهم التي لا تغني ولا تشبع، بل يجب أن يكون مشاركا فاعلا في خلق نص قرائي يليق بالتوجهات الحديثة، التي وصلت إليها عملية التلقي والحوار ، وتبادل الأدوار مع كاتب النص، حتى نتخلص من حالة السلبية، ومحاولة الارتقاء بثقافتنا وإصلاح توجهاتها..
إن الانترنيت واحة للتلاقي، للتعارف ، للحوار، لإكتساب المعرفة، لكل شيء، هي أداة ثقافية للتحريض سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فيجب أن نتعامل معها بصورة منفتحة خالية من العقد الاجتماعية والنفسية، والنص الذي ينشر على مواقع الانترنيت ليس ملكا صرفا لصاحبه، وإنما هو ملك الملايين من القراء الافتراضيين الذين يختفون خلف شاشاتهم، واعتقد أن شخصية كاتب النص وإن كان هو الكاتب الحقيقي أم لا، لا تعنيهم بشيء، وهذا لا بالأكيد لا يعني تحريضا على سرقة جهد الآخرين أو حقوقهم الفكرية والمعنوية، وإنما التخلص من هذه الاتهامات التي تطلق اغلبها جزافا دون مبررات أو أدلة، لا تنم سوى عن سوء نية، أو نية مبيته لدى مطلق الاتهام، وهي أمراض اجتماعية ونفسية يعاني منها الوسط الثقافي..
هي دعوة للقراء الكرام والى كل من يتبنى هكذا رأي، أن ينشغل بمستوى النص وأدبيته، دون النظر إلى إن كان الكاتب هو من كتبه، أو إن هناك شخصا غريبا خفيا يكتب له.
0 comments:
إرسال تعليق