فطيْرُ الرعب/ شوقي مسلماني

بجوارِ سياجٍ، يمتدُّ بلا نهايةٍ في أرضٍ خلاءٍ، وقعتُ على أوراقٍ لا نهايةَ للعنفِ في العالم إذا لم يوضَعْ حدّ بمختلفِ السُبلِ لأصحابها، والغريب أنّ عنواناً لها هو: "طبقُ اليومِ"!. ومن نظرةٍ سريعةٍ على الأوراق تبيّنَ لي أنَّ "طبقَ اليومِ" هو عين "فطيرُ الرعبِ" الذي تحتكره جماعةٌ تصنيعاً واستهلاكاً، وهو فطير لا يشبه أي فطير معروف في العالم إلاّ شكليّاً. قلتُ لذاتي القلقة مثلي: "وفطيرُ الرعبِ مكوِّنُه الرئيسيّ هو الدم البشريّ"!. وألتفتُّ كالملدوغ، ومسحتُ بعينَي كلَّ الناحية، ولم أر أحداً.
وهبّتْ ريحٌ، وخُيِّلَ إليّ أنّي سمعتُ صوتاً يقولُ لي: "خذْ حذرك". الشمسُ في كبد السماء، وفقط سياج شائك لا يلحق بآخره البصر، والأوراق التي في يدي. قالتْ لي روحي وقد جحظت عيناها: "أنجُ يا سعد هلك سعيد". وعدوتُ مبتعداً مستعيناً بكلِّ طاقتي على الركضِ، لكنْ إلى أين؟ الخلاءُ لا نهائي. وجلستُ القرفصاء، وتلفتّ، واطمأنّيتُ أنّ أحداً لا يتبعني. وذباب أزرق حولي. وسألتُ ذاتي وروحي أن يعيناني على النظر إذا جيفة في المكان، لأنّ الجيَف يستهدي إليها الذباب الأزرق، ولم يكن أثر لجيفة، وسألتْني ذاتي إذا كان الذباب يهرع إلى الجيفة قبل موت صاحبها؟. وفهمتُ، وركضتُ من دون توقّف، وفجأةً وجدتني أقفز، وإذْ قدمي المتقدِّمة تنفذ في غلالة، وأرى ذلك، ثمّ أنفذ كلّي، وأجدني على الرصيف المقابل لبيتي، وأعبر الشارع متلفّتاً إذا أحد ما يتبعني.
وأفتحُ البابَ بالمفتاح الذي رفعتُه من جيب بنطالي. وأنا أدخل لمحتُ الأوراق، فهي لا تزال في يدي، كيف سهوتُ عن رميها؟. ومن شدّة فزعي رميتها خارجاً في الوقت هبّتْ ريح وقذفتِ الأوراقَ إلى الداخل، أصابني الذعر، هل أجمع الأوراق أوّلاً وأعود إلى رميها خارجاً أم أغلق خلفي أوّلاً؟. وأغلقتُ خلفي أوّلاًَ، وهرعتُ أجمع الأوراق. جمعتُها. قالت لي روحي التي بدت شاحبة كأنّها تفقد روحها: "لقد عرفوا عنوان البيت". وفهمتُ أنّهم سيأتون إليّ بحسب الخطّة المرسومة. أسرعتُ إلى النوافذ وأسدلتُ الستائر، قال لي عقلي: "عجّلْ أيّها المجنون وأشعل الضوء، إنّهم يأتون في العتمة". أشعلتُ الضوء. تهاويتُ فوق الكنبة التي تطلّ من زاوية على مدخل البيت من دون أن تكفّ عيناي عن النظر إلى الأوراق. قال لي عقلي متردّداً: "إقرأ، قدرُك أن تعرف". أطعتُه.
قلتُ وأنا أحدّق بالأوراق: "سأقرأها". لكن قمتُ أوّلاً لأستكشف. رفعتُ طرف ستارة ونظرت عبر زجاج النافذة إلى الشارع. رأيتُ فقط سيّارة تتوقّف غير بعيد وينزل منها رجل وامرأة ويدخلان بيتهما ويغلقان الباب خلفهما بحركة طبيعيّة جدّاً. رجعتُ إلى مكاني، استعدّيتُ، وعقلي يقول لي أنّني أرى مناماً ولا داعي للقلق، فماذا الذي أنا فيه إلاّ أن يكون من عمل منامات؟!. وقرأتُ، وعيناي ينقدح فيهما الشرر، وقرأتُ وقرأت: "وبعد استدراج طفل، ولا أسهل من إستدراجِ طفل، يستلمه "جزْرين" فيحلق له شعر رأسه لئلاّ يلحق بنا شيء مِن الجحود قبل أن يجزره".
ولاحظتُ أنّي رفعتُ صوتي تنفيذاً لأوامر عقلي الذي شرح لي أيضاً أنّ القراءة بصوت مرتفع فيها اطمئنان يُعين على الوحشة، ثمّ سألتُ عقلي محتاراً: "أنت عن أي وحشة تتكلّم؟ ألم تقلْ لي أنّي أحلم"؟. قال: "يصيبني ما يصيبك". قلتُ: "أنتَ عند حافّة".
وأسرعتُ إلى ستارة، ورفعتُ طرفها قليلاً، لم أرى في الشارع سوى امرأة عجوز يتقدّمها كلب. داخلني اطمئنانٌ، ورجعتُ إلى الأوراق، وقرأتُ وقرأتُ، والحرف أنا وأنا الحرف، وهو لم يكن مثلما أنا لم أكن، وهو يولد كما أنا أولد. وقرأتُ بصوت مسموع: "محرّم على سدنة الوكر أن يلمسوا الطفل، وإذا لمسوه فإنّه سيفسد، ويغدو محرَّماً ... وبعد ذلك يُجمَع دمُه في قوارير يُسكَب منها على دقيق مخلوط برماد الحرير بمقدار معلوم، ويضيف قطرات خلّ وبعض محسِّنات الطعم إذا اقتضتِ الحاجة، ويتقدّم عمود الوكر ويضع قطعة ذهب في كفّه، ويضع يده القابضة على قطعة الذهب فوق صدره عند قلبه ويتنشّق بعمق ثمّ يشمِّر عن ساعديه، بعد أن يضع الذهبيّة في جيبه، ويتلو فوق المعجن من سِفرٍ على طاولةٍ أمامه: "باركْ يا إلهنا عملنا لأجل طهارتنا وادعونا إلى مائدتك". وتابعتُ بصوت مسموع أيضاً: "ويضع عمود الوكر يديه في العجين المرِن ويبدأ بتصنيع الفطائر". و"يمكن استحضار الدمّ مِنْ شابّة، تُعلَّق مِن ساقيها وتُترك ليسيل كلّ الماء منها، حتى إذا جفّتْ، وكمشاركة وجدانيّة، يخزها الحضور بمناخيس ذات رؤوس حادّة، ويُجمَع ما يقطر من دمها في أوعية عليها: "يا أولاد الجحود، يا نسل الأودية".
ووضعتُ الأوراق إلى جانبي على الكنبة وتركتُها وقمتُ إلى الحمّام لأغسل وجهي. فتحتُ الحنفيّة، لم ينزل الماء، بل فحّت الحنفيّة ورقصتْ، فاندفعتُ متراجعاً، وسال الماء. أفرخَ روعي. قال لي عقلي: " رعديد، إغسلْ وجهك". اقتربتُ مِنْ الحنفيّةِ، غسلتُ وجهي بعصبيّة، قلتُ لعقلي ما كان هو يريد أن يقولَ لي: "لا نزال بخير، أنا الذي عرفتُ، فهل أنتَ الذي أنا أعرف"؟. قال لي: "عدْ إلى الأوراق، لا تضيّع الوقت وإلاّ ضيّعكَ وضيّعني معك". ورجعتُ فوجدتُ الأوراق على الأرض بدل أن تكون في مكانها على الكنبة. تلفتُّ كأنّني أريد أن أرى أحداً، لكن سرعان ما قال لي عقلي: "الواضح أيّها الرعديد أنّها انزلقت، كانت عند الحافّة". وأردف: "اطمئنْ، وفي آن تفحّصِ البيتَ مجدّداً". أحسستُ أنّ عقلي يتصنّع التماسك، هرعتُ إلى الباب وحرّكتُ مقبضَه وتأكّدتُ أنّه محكَم، وهرعتُ إلى طرف ستارة، وعقلي يقول: "إنهضْ تنهض، أسقطْ تسقط، ولا تلومنّ إلاّ نفسك". ونظرتُ من طرف الستارة، ورأيتُ الدنيا قد أمست، لم ألحظ في الشارع ما يثير الشكّ إنّما صدري انقبض، وقرأت: "يمكن الإنقضاض على مسنّ وجعلِه في البرميل الإبري ذي الفتحات الضيّقة في أسفله والتي منها ينزّ الدمّ فإذا لم تمت الضحية في ظلماتِ العذاب فإنّ دمها المُحصَّل لا قيمة له".
وسمعتُ جلبةً، وسرعان ما اصطدم شيء بعنف مهول بالنافذة المقابلة، ثمّ وكأنّ البيت اهتزّ، افترضتُ أنّهم هجموا، أسرعتُ إلى المطبخ، حملتُ سكِّيناً ورحتُ أطعن الهواء صارخاً: "تعالوا اقتلوني، لكن ليس قبل أن أقتل فيكم". لكنّهم لم يقتحموا البيت. نظرتُ من خلف ستارة، بعدما رفعتُ طرفها، رأيتُ كيف العاصفة تعبث بالأشجار. سبقني عقلي وقال لي: " عاصفة". سألتُه بعصبيّة: وهل العاصفة شيء قليل"؟!. ارتبكَ عقلي ثمّ قال لي: "أرجوك دعنا ننتهي من قراءة هذه الأوراق اللعينة". وقرأتُ مستأنساً بالسكّين إلى جانبي، ووجهي قديد: "نأكل لحمَ الجبابرة ونشرب دمَ رؤساء الأرض. وبعد قران عروسين يتناول كبيرُنا بيضتين مسلوقتين ويغمّسهما بالدمّ والطحين ويناولهما، وحين يكون مولود، يضع كبيرُنا إصبعَه في كأسِ خلّ ممزوج بالدمّ، ثمّ في فمِ المولود، ويقول: "حياتك في دمِك" وإذا لنا ميْت يضَع كبيرُنا بيضة لا زلال فيها ومغمّسه بالدمّ على صدر الميت". وقرأت: "فطيرُ الرعب نُقبِل عليه في يومِ عيدِ عينوف وفي يومِ عيدِ الفحيح وفي يومِ عيدِ العالَم السفلي وفي يوم عيد حرب اللصوص الكونيّة الأولى وفي يوم عيد حرب اللصوص الكونيّة الثانية وفي يومِ عيدِ التنتيف". وقرأتُ: "محسّنات الطعم أكثر ما يحسُن الإكثار منها في يومِ عيدِ الخوزقة".
ومسحتُ العرقَ عن جبيني. قال لي عقلي: "لا تغمضْ عينيك". رنّ الهاتف. صرتُ أرقص وأقول كأنّما بي مسّ: "التنتيف، عينوف، دولاب التخليع". ودوّى انفجار، هويتُ لأفتح عينَي في ساعة متأخّرة من الليل، شعرتُ أنّ شيئاً لزجاً على وجهي. كان جرحٌ. شرحَ لي عقلي، وهو يصغي إلى المطر في الخارج: "انفجرتِ السماءُ بالبرق والرعد وارتطمَ رأسُك بحافّة الكرسي". وأنا أتحسّس الجرح دخلت يدي في رأسي، جحظتْ عيناي، أسرعتُ بيدَي الإثنتين أتفحّص صدري فغرقتا في الفراغ، نظرتُ، فلم أرَ قلبي، عجّلتُ على غير هدى إلى الأوراق لأفهم ما الذي يجري فيما عقلي يقول: "إقرأ".
قرأتُ حتى قرأتُ: "يُحرَّم إضافة التمر أو الزبيب في إعداد فطيرِ الرعب، ويجوز لأرباب الأوكار اقتراض الدمّ مِنْ بعضهم في أوقاتِ الشدّة، ونجاح ربّ الوكر يكون بمقدار نجاحه في توفير الدمّ لأهلِ وكْرِه، خصوصاً الطازج، وكم من ربّ فقدَ مكانتَه وهيبتَه وانحطّ شأنه وصار أضحوكة بسبب عجزه المتتابع دون تحقيق اكتفائه الذاتي مِنَ الدمّ". ولاحظتُ أنّي كلّما أقرأ ورقة وأضعها تحت أخواتها ذاتها سرعان ما تتلاشى حتى لم يبقَ بين يدي سوى ورقتين. وقرأت: "أموالُ ومعتقداتُ أعراسِ الجراد". ووضعتُ الورقة تحت أختها فتلاشتْ. ونظرتُ في الأخيرة فإذْ هي بيضاء. لم أفهم، رميتُها فتلاشت، وقلتُ موقناً: "مجنون كلّ مَنْ لا سلاح في عينيه".
Shawki1@optusnet.com.au

CONVERSATION

0 comments: