بورتريهات قاهرية/ د. عدنان الظاهر


زرتُ القاهرة للمرة الأولى بصحبة الفنان الدكتور مصدّق الحبيب الذي أصرَّ أنْ يحملَ معه أدوات وألوان ووسائل الخط والرسم والكانفاسات والزيوت والألوان المائية مع البايب الخاص به هديةً مع تبغ هافانا من الصديق كاسترو . إتصلنا قبيل السفر بالصديقين سعيد الوائلي والدكتور بهجت عباس عارضين عليهما فكرة مشاركتنا هذه السفرة الأكتوبرية فاعتذرا بسبب كثرة مشاغلهما في هذا الشهر ، شهر العبور وشهر الثورة البولشفية وشهر أعياد واحتفالات بافاريا الألمانيّة وشهر إنقلاب بكر صدقي عام 1936 وهو عام ميلاد الأخ بهجت عباس. الأعياد والمناسبات كثيرة في هذا الشهر فلي مثلاً ذكرى كتبتها عام 1961 حفراً على جدار حجرة نومي ( 29/10/1961 ) زمان عبد الكريم قاسم . ما زلتُ حتى اليوم أحبُّ وأتفاءلُ بالرقم 29 . ثمَّ هو شهر أزمة الصواريخ الكوبية الخطيرة بين روسيا وأمريكا التي قرّبت العالم من حافة حرب ذرّية تحرق اليابسَ والأخضر . إتصلت بأستاذنا وأخينا الكبير الدكتور مجيد القيسي في كندا وعرضت عليه فكرة الإلتحاق بنا فكان جوابه [ إييييييههههههْ ... يردسْ حيلْ إلما ضايكها . عربْ وينْ وطنبورةْ وينْ ]. ضحكتُ ثم هربتُ . قصصتُ على صحبي حكايتي مع القيسي وردّه على ما عرضتُ فغرقوا في ضحك طويل. المهم . وصلنا القاهرة وحملتنا سيارة التاكسي إلى مكان إقامتنا في الفندق الذي حجزنا فيه حجرة مكيّفة الهواء مع فطور في حي قريب من نهر النيل يُدعى كاردن ستي
Garden City
يقع الفندق على شارع فرعي هادئ يُحاذي شارعاً رئيساً ذا ممرين عريضين يُسمى شارع القصر العيني . يستغرق الوصول إلى قلب مركز القاهرة المسمى ميدان التحرير [ تذكّروا ساحة التحرير في بغداد ونصب الحرية لجواد سليم ] ... يستغرق عشر دقائق مشياً على الأقدام وكانت تلك ميزةً ونعمةً يتمناها كلُّ سائح . تركنا حقائبنا في الفندق وحملنا كاميراتنا متجهين إلى قلب القاهرة مختلفي الأهداف : بحث صاحبي الفنان عن وجوه نسائية جميلة لكي يصوّرها ثم يحوّلها في أمريكا إلى لوحات رائعة يُزيّنُ بها جدران أصدقائه وصديقاته وزملائه أساتذة الجامعة . أما أنا ففي رأسي مواويل أخرى على رأسها معرفة عناوين المتاحف والمراكز الآثارية والقلاع القديمة ودرابين خان الخليلي ومسجد الحُسين وضريح السيدة زينب وحدائق الأزهر ثم إهرامات مصر الشهيرة . في طريقنا نحو ميدان التحرير سمعت صاحبي يغني شعراً أعرفه لأبي نؤاس يقول فيه :
عاجَ الشقيُّ على رسمٍ يُسائلهُ
وعجتُ أسألُ عن خمّارةِ البَلَدِ
بلغتني رسالة صديقي الفنان لكني لم أشأ التعليق فقد كنت مُتعباً لم أنمِ لحوالي 14 ساعة وهذه واحدة من أسوأ عاداتي إذْ لا يأتيني نومٌ في ليلة السفر ويستحيلُ عليَّ النوم في وسائط النقل كافة لا فرقَ بين طائرة أو قطار أو حافلة مريحة (( يا عطّارين دلّوني / النوم ألاقيهْ فينْ )) من أغنية مصرية قديمة مُحرّفة قليلاً لرجاء عبدو كما أظنُّ ونحن اليوم في مصر أم الدنيا . إفترقنا في ميدان التحرير على أنْ نلتقي في الحادية عشرة ليلاً في بهو الإستقبال في الفندق . لا أدري إلى أين ذهب صاحبي الفنان فالجنون فنون كما قالوا غير أني أقول : الفنون جنون والشعر الحقيقي جنون وأفضلُ الشعر هو ما قاله مجانين الشعراء ودونكم الفرنسي بودلير . غير أني أعرف غاياتي وأهدافي في كل عاصمة أو مدينة كبيرة قصدتها شرقاً وغرباً في حياتي . أضعتُ نفسي في أكثر شوارع القاهرة إزدحاماً ليلاً حيث تمتزج الأضواء الساطعة بموجات المارّة والمارّات بمعيّة رجالهنَّ وأطفالهنَّ والشابّات ببناطيل الجينز وحجاب الرأس الكثيف بصحبة أصدقائهنَّ . القاهرة مدينة لا تنام أو تكادُ لا تنام فناسها في سباق صراع من أجل كسب ما يؤمّنُ الحد الأدنى من متطلبات وضرورات حياة كريمة معقولة مقبولة . هذا شارع طلعت حرب يبتدئ متفرعاً من ميدان التحرير وبعد مسافة قصيرة تطالعنا ساحته وتمثاله واقفاً ينظر بثبات أماماً. على الساحة مكتبة الشروق شرقاً ومقهى ومطعم كروبي غرباً حيث إبتعتُ بعض الكتب من المكتبة وأكلت شيئاً من بقلاوة كروبي . أحسب أنَّ هذا الشارع هو شريان وسط القاهرة حيث تتفرع منه شوارع شهيرة شتّى منها شارع عدلي ثم شارع شريف حيث المطاعم والمقاهي ومخازن الملابس والأحذية وغيرها من البضائع والمعروضات مما لا يمكن حصره . القاهرة عاصمة لا تنام أو تكاد لا تنامُ وأنا لم أنم لقرابة 14 ساعة ! وجدتُ في شارع طلعت حرب مطعماً يبيع الدونر كباب ( الكص بالعراقي الفصيح ) وشوربة العدس فهل تفوتني هذه الشوربة أنا العراقي إبن عراقيي الفرات الأوسط ؟ ولما كنت مُتعباً إستأجرت سيارة تاكسي من ميدان التحرير سألتُ صاحبها تتقاضى كم يا أخ حتى فندق نيو كاردن بالاس ؟ سألني هو بدوره وما كنتُ أتوقع ذلك : تدفعُ أنت كام يا بيه ؟ أجبته عشرة جنهيات قال لا ، إجعلها 15 فوافقت . وصلت الفندق فلم أجد صاحبي الفنان في إنتظاري وقد بلغت الساعة تمام الحادية عشرة . هل أنتظره أم آوي إلى فراشي قبله ؟ كنت مُتعباً أكثر مما تتحمل قدرات رجل مثلي الجسدية والنفسية . على مائدة إفطار الصباح قصَّ صاحبي لي كيف أمضى تلكم الليلة الأولى . ضاع في زحمة شوارع القاهرة وتخبّطَ لكنه بقيَ ثابت الجِنان شجاعاً كعنترة العبسي يسألُ ويُجامل ويردُّ على أسئلة الفضوليين ويتقبّلُ ما يعرض عليه بعضُهُم من كؤوس الشاي الأسود الثقيل بل وتناول ساندويج شاورمة واقفاً على ناصية شارع يجهلُ إسمه وسمح لماسح أحذية متنقل أنْ يصبغَ حذاءَه الأسودَ اللمّاع لكنه ملَّ في نهاية الأمر وأحسَّ بالتعب وضرورة الأوبة سريعاً إلى مكان إقامتنا فعاد كما عدتُ قبله مُستأجراً تاكسي بعشرين جنيهاً ! هل حالفك الحظ يا مُصدّق الحبيب في وجود الوجوه الأنثوية الجميلة التي تسعى جاهداً للوصول إليها ثم تصويرها ؟ قال بل لم أسعَ . أنتظرُ وعدك فلقد وعدتني أنْ تُعرّفني على فتاتين من حسناوت مصر من حفيدات كليوباترا راغبتين بالتعرف عليَّ لأرسم لهن بورتريهات تناسب فتنة وسحر وجمال وجوههنَ . مع كوب الشاي الأسود الثاني ماركة لبتن قلت له إني ما زلتُ عند وعدي وربما سأعرّفك على فتاة عراقية .
نِمفُ النيلِ حفيدةُ كليوباترا
في الرابعة تماماً حضرت صالة الإستقبال الآنسة ( نيفا نورالدين ) كأبهى ما تكون الآلهة الفرعونية تحملها عربة ملكية من ذهب خالص يجرّها حصانٌ أبيض واحد يقودهُ حوذيٌّ نُوبيٌّ تمشي خلفها وصيفةٌ روميّة شقراءُ سُبحانَ مَنْ سوّاها وأبدعها . كاد صاحبي الفنان أنْ يفقدَ وعيه إذْ رأى فجأةً ما قد رأى . آب لكامل وعيه وقد مدّت له الأميرة نيفا الفرعونيةُ يدها فقبّلها ثم صافحها بشوق شديد الحرارة . طلبتْ سفن آب وطلبتُ قهوة تركية مُرّة تحاكي عجب ومرارة حسرتي بدل فرحتي بما يجري أمامَ عينيَّ من أمور لا أطالُ في نهاية الأمر منها شيئاً . لم يطلبْ الفنان مشروباً فقد كان مأخوذاً بالسحر المتعدد الجوانب والأشكال والألوان . طفق يفتش عن كاميرته وهي قابعة في حضنه . فقد الفنانُ رشده كاملاً. أراد الكلام فخانته العربية فأخذ يهذي باللغة الإنكليزية التي كانت لحسن الحظ تتقنها أميرة القاهرة ونمف النيل . حين إستعاد توازنه النفسي والفني شرع يدرس تفاصيل وجهها والزوايا التي ينبغي عليه إختيارها لبلوغ أعلى مستوى فنيٍّ لإلتقاط صور وجوه الآنسات الفاتنات . كانت أميرتنا تتجاوب معه وتلاطفه كي يعود إلى سابق طبعه وطبيعته . كان دوري أنْ أشاغلها وأن أبالغ في تقديم آيات الشكر على قبولها دعوتي ومقترحي لتقديمها لصديقي الفنان الأمريكي العراقيِّ الأصل . كنتُ أُثني على ما فيها من خصال وذكاء ونبل نفسي نادر في هذه الأيام . كانت تُصغي بأدب جمٍّ لما كنتُ أقولُ لكنها تظلُّ صامتة عازفة عن التعليق . لاحظتُ أنها تحب الألوان المتفاوتة بين الهدوء والعمق الصارخ . ثم كانت تضعُ في أُذنيها قُرطين دائريين كبيرين من الذهب الخالص . لم تضع مساحيقَ وموادَ تجميل وألواناً في عينيها وعلى شفتيها ولم تصبغ شعر رأسها الكستنائي السَرِح الجميل . كانت أنموذجاً مثالياً لأيّ فنانٍ يهوى تصوير الوجوه ( فوتو جينيك ) بلغة أهل السينما . إلتقط الفنان لها ما شاء من تصاوير وكانت بدورها صبورة تتجاوب مع رغائب ومطالب ضيف عاصمتها . في السادسة ودّعتنا راكبة متن عربتها الأسطورية التي تُحاكي عربة توت عنخ آمون الشمسية .
إقترحتُ على صاحبي أنْ نقضي الليلةَ معاً نجرّبُ حظاً واحداً مشتركاً ( فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ / للمتنبي ) ... وافق غيرَ مُصدِّقٍ إقتراحي فهو يدري أني أهوى التمشيات الطويلة وحيداً لا أحبُّ الكلامَ أثناء ذلك تماماً كعادتي حين أتناول طعامي : إما طعامٌ أو كلامٌ . وجدنا ميدان التحرير والشوارع المتفرعة منه تسطع بالأنوار الصارخة والسيارات الجديدة والعتيقة المُسرعة والزاعقة تضجُّ بها هذه الشوارع بل وتضيقُ . دلفنا إلى محل صغير يؤجّر أجهزة كومبيوتر لنتابع بريدنا الألكتروني اليومي ونرد على ما وصلنا من رسائل وغير ذلك مما يحمل البريد المعتاد . قضينا في المحل قرابة الساعة وخرجنا قاصدين مطعمَ دجاج كنتكي ذا الإسم الأمريكي المعروف بحروفه الثلاثة
KFC
ومؤسسه صاحب اللحية المخروطيّة البيضاء المُشذّبة حول وتحت ذقنه . أنهينا وجبتنا بسرعة فقال الفنان ها إني قد سلّمتك مفاتيح أموري طوال هذه الليلة فقدني حيثما شئتَ ستجدني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرين الصاغرين . ضحكنا وأخذنا شارع طلعت حرب ومنه سرنا في شارع عدلي حيث محل يُديره رجلٌ سوري مختص ببيع نوع ممتاز من البقلاوة الشامية . جلسنا وأكلنا منها ما استطعنا وفوق ما كنا نستطيع ثم شربنا شاياً أسودَ ثقيلاً وغادرنا المحل وقد إستنأس بنا صاحبه إذْ عرفنا عراقيين فودّعنا أرقَّ وداع مُضيفاً : ما تنسوش يا شباب ، سوريا والعراق زي بعضو ، كلّو واحد . ما رأيُكَ في أنْ نمضي للفندق مشياً على قدمينا نكتشف في طريقنا ما نكتشف ونرى بشراً أكثر وأمكنة أخرى والعمرُ قصيرُ ؟ وافق على الفكرة صديقي مُصدّق الحبيب على الفور فهو مثلي يحبُّ التمشّي أحياناً في الشوارع المزدحمة الصاخبة المفُعمة بالحياة والحركة والأصوات العالية .
في المُتحف المصري
نهضنا مبكّرين ففي برنامج يومنا هذا زيارة المُتحف المصري . تناولنا فطورنا وهُرعنا متجهين نحو المُتحف القريب من مقر جامعة الدول العربية ووزارة الخارجية المصرية ثم ميدان التحرير إياه قلب ومركز وعُقدة القاهرة . تذكرة الدخول بأربعة جنيهات مصرية وهذا ثمن بخس فاليورو يساوي ثمانية جنيهات تقريباً . ونحن في ممر دخولنا من بين صف رجالات الأمن مرَّت قبلنا مباشرةً مجموعة من السياح الشُقر الأجانب وحين وصلتُ وصاحبي طالبنا أحدهم بإبراز جوازات سفرنا ! إحتججتُ بصوتٍ عالِ قائلاً لِمَ لمْ تطلب يا أخ من هؤلاء الخواجات إبراز جوازات سفرهم وتطلب ذلك منّا ؟ لم يُجبْ لكنَّ زميلاً له ضحك وقال يبدو أنَّ الأخَ عراقيٌّ فأجبته أجلْ ... وأعطيته جواز سفري الألماني . المفاجأة غير السارّة الأخرى كانت حين طلب المسؤولون منّا ترك أجهزة التصوير في حجرة الأمانات لقاء إيصال فحزنتُ حقّاً واكتأبتُ ولعنتُ الحظ التعيس فإني أهوى تصوير نفائس ما في متاحف الدنيا وبالفعل خسرتُ فُرصةَ تصوير ثلاثة معروضات أدهشتني بل وأفقدتني صوابي . هي العربات الملكية الذهبية يجرّها حصانٌ واحد وكراسي ملوك الفراعنة الذهبية بهندستها المُتقنة والمُدهشة بحيث تؤمّنُ أقصى درجات الإستقرار ، ثم الأسرّة الملكية الذهبية لشخص واحد أو لإثنين . ما رأيت في حياتي سابقاً مثل هذه المعروضات في كافة متاحف العواصم والمدائن التي زرتُ . وجدتها موضوعات مُذهِلة تُثيرُ العجب . فاتتني فُرصة تصويرها لشديد الأسف . شاركني الفنان أسفي رغم أنَّ مزاجه وولعه يقعان على جهات أخرى . لاحظنا معاً ، وقد صرفنا وقتاً طويلاً في أروقة وأجنحة المُتحف المتعددة ، قلّة الشروح والتفاصيل بخصوص ما عرضوا من تحف ونفائس أثرية نادرة . تلك مَثلَبة خطيرة الشأن أتمنى أنْ يتنبّه لها ذوو الشأن ولا سيّما الأستاذ زاهي حواس خبير الآثار الفرعونية المعروف من خلال برامجه التلفزيونية وعديد المقابلات والحوارات معه . فتحتُ هذا الموضوع مع سيدة من المرشدات السياحيات في المتحف فقالت إنها تعرف هذا الخلل لكنها لا حولَ لها ولا قوّة . رغم كثرة وثراء المتحف المصري بمعروضاته لكني وجدتُ المتحف البريطاني أفضل منه عرضاً وشروحاً وتنظيماً ودقّةً وأبّهةً وبهاءً .
تركنا المُتحف تعابى جائعين مُنهكين فاتجهنا صوب ميدان التحرير القريب لنأكل الدجاج المشوي في أحد مطاعمه . ثم دلفنا إلى مقهى مجاور وشربنا أكثر من كأس من الشاي الجيد وسط أدخنة النوارجيل ( الشيشات بالمصري ) الكثيفة وجمرات النار يتنقل بها عاملٌ ما بين الزبائن لإدامة التعميرات . ها أخي ؟ أراك شبه نائم ؟ إي واللهِ ، أجاب الفنان ثم أضاف : فلنعد إلى مكان إقامتنا لنأخذَ سِنةً من النوم أو تأخذنا هذه السِنةُ ـ لا فرق ـ نستريح ونستحم فالحرارة لا تُطاق ثم نبدّل ملابسنا ونهيم على وجوهنا كالغجر [ كاولية ] بلا هدف وحيثما نال التعب منّا جلسنا في مقهى أو مطعم أو حتى على قارعة الطريق [ منو يعرف فطيمة بسوك الغزل ؟ ] . ضيّعتنا القاهرة ليلاً أو نحنُ مَنْ ضيّع نفسه ( أنا مَنْ ضيّعَ في الأهرامِ نفسه ) في زحام شوارعها حتى ليحسّ السائحُ كأنه يكاد يختنق فالمرور فوُضى والأرصفة تَغَصُّ بمن فيها والليل نهار ساطع بارق . نمشي ونمشي مرةً يدندن صاحبي بأصوات لا أفهمها لعله يغني إحدى أغنيات هنود أمريكا الحُمْر. ومرة أجد نفسي أغني أغنية عراقية قديمة أو أغنية مصرية أتقافز هنا وهناك بين الأغاني والأنغام من غير ضابط أو رابط . كنا نمشي جنباً لجنب لكننا كنا معزولين بحائط من الخرسانة المسلحة . هو سائحٌ في عوالمه الخاصة وأنا غاطٌّ في عوالمي الخفيّة لا يبينُ منها إلاّ إسمي " الظاهر " . سألني وما وجهتنا التالية ؟ هدّني التعبُ . ضحكتُ طويلاً وسكّتُ حين ضحك . كنا قريبين من مقهى ومطعم أنيق نظيف يحمل إسم [ أميركانز ] . دخلنا وشربنا البارد وأكلنا كيكات جيّدة الإعداد . طاب الجلوس لصاحبي الفنان إذْ كانت الشوارع وما فيها ومَن فيها أمامنا نرى الماشي والجاري والساكن فيها حيّةً كما هي من خلال زجاج نوافذ المحل الواسعة . بعد أنْ شبع صاحبي راحةً وبَطَراً عنّت له خاطرة غريبة . تبسّم أولاً فعرفتُ أنَّ تحت إبطه عنزاً . حثثته على الإفصاح عمّا يقول له عنزه أو مِعزاته ذات القرون . تململ يمنةً ثمَّ يَسرةً وقال : لا تضحكْ ! يُعجبني أنْ أُجرّب الشيشة المصرية ! ضحكت ثم ضحكتُ . إنها فكرة طريفة يا صديق ولكن ، ألا ترى خلوّ هذا المحل من نوارجيل التدخين ؟ للشيشة مقاهيها الخاصة وعمّالها المتخصصون وهي شغلة لا يمارسها كلُّ مَنْ هبَّ ودبَّ . قال متحمساً هيّا لإحدى هذه المقاهي . اليوم شيششة وغداً نرجيلة وكلُّ مَنْ عليها فان . الفنون جنون والفنانون والشعراء والأنبياء مجانين [ مجانون ] . أخذتُ صاحبي لإحدى هذه المقاهي واتخذنا مجلسنا في الوسط أنا أشرب الشاي وصاحبي يغيب مُغمَض العينين وصوت شيشته يبربر شهيقاً وزفيراً . كنت مأخوذاً على وجه الخصوص في كيف ينفث صاحبي دخان نرجيلته من فمه طوراً ومن منخريه أطواراً أخرى . تبين لي أخيراً أنَّ صاحبي مدمن شيشة آسكي درجة أولى فص كلاص رغم البايب والتبغ الكوبي اللذين لا يفارقانه . بعد أنْ أطفأ صاحبي ظمأه لأدخنة تبغ الشيشة قال هيا . إلى أين ؟ قال إنه جائع . أجاعه التدخينُ وأثقل الدُخْانُ رأسَهُ . فكرة جيدة . أنا كذلك جائع . قريبةٌ منّا أسواق التوفيقية حيث الباجة الجيدة ومرقة البامياء في مطعم الدسّوقي فما رأيك ؟ قال الفنان إنه جائع وسيأكل كل ما يراه صالحاً للأكل بل وكل ما حلل الله وحرّم من أطعمة وإنه سبق وأنْ سلّمني أزمّةَ أمورهِ جميعاً . إتفقنا أنْ نأكل في هذه الأمسية لحمة رأس خروف مع اللسان والمخ . جاء العرضُ سخياً مُغرياً ورخيصاً جداً . غادرنا المطعم الرصيفي فقال صاحبي أريد أنْ أطمئنَّ أنَّ المصريين كالعراقيين يأكلون مرقة البامياء . أَرِني مطعم الدسّوقي . أخذته حيثُ الدسّوقي فسأل مُديرَه أحقاً يقدمون البامياء للزبائن ؟ أجاب السيد المديرُ أجلْ ولكنْ نهاراً فقط . طيّب ، سنزوركم غداً . قال مدير المطعم إنْ شاءَ الله !
خصّصنا نهار اليوم التالي لزيارة أسواق الموسكي والخليلي ومسجد الحُسين الواقع في نهاية الخليلي . أما المساءُ فسنقضيه في ضيافة عائلة عراقية مقيمة في القاهرة .
ما كنا مرتاحين من الخليلي والموسكي الذي غنّته المطربة اللبنانية صباح ذات يوم في زمان الوحدة بين مصر وسوريا [ من موسكي لسوق الحميديةْ ] وسوق الحميدية في دمشق. الطرق ضيّقة والمشي عليها غير مُريح لتكسّر هذه الطرق فضلاً عن إلحاح الباعة غير المعقول في ترويج بضائعهم والضغط الشديد على المارة من السياح الأجانب يتكلمون أو يرطنون بشتى اللغات حسب إجتهادهم أو حدسهم في معرفة جنسية ولغة السائح . تكلم معنا بعضهم بالإيطالي والبعض الآخر بالأسباني وفئة أخرى باللغة العربية وكنا نلوذ بالصمت ولا نُجيب لأننا لو أجبنا لأوقعنا نفسينا في ورطة وفخ مزعج . لم ينته الإزعاج حتى في نهاية هذه الأسواق حيث عدد من المطاعم الصغيرة تمد الأرائك والموائد والكراسي في الشارع قريباً من ساحة مسجد الحُسين . يلتقفك عمّالُ هذه المطاعم وفي أيديهم قوائم بما لديهم من مأكولات مع أسعارها ... يتلقفونك الواحد بعد الآخر بإلحاح لا تتخلص منه إلاّ بشقّ الأنفس . صورة الخليلي في ذهني شيء وما رأيت شيـئاً آخرَ مختلِفاً كل الإختلاف . أنهكتنا هذه الجولة الموسكية ـ الخليلية وهدّنا الحر والتعبُ فسألتُ صاحبي أيحبُ أنْ نتغدى في أحد هذه المطاعم الحسينية قال على الفور كلاّ ! هيا أنقذني على عجل. سنأكل [ الزقنبوط ] في أي مكان آخر في القاهرة . ما رأيك ببماياء الدسّوقي ؟ إبتسم صاحبي وأشرق وجهه وهو يلمع ويتصبب عَرَقاً ثم غمز بعينيه رافعاً حاجبيه للأعلى وتلمّظَ وجرّني بقوة من ذراعي إلى حيث موقف سيارات التاكسي . لم يشترٍ صاحبي شيئاً لكني خرجتُ بصفقة موّفقة إذْ إبتعتُ بعد مساومات وشدٍّ وجذبٍ ثوبين مصريين قطنيين ( جلابيب ) واحدة لي والأخرى لولدي أمثل . أراد الفنان أنْ يبتاعَ قلادة من الكهرب لكنّا وجدناها غالية ويبيعونها كالذهب بالوزن وسعر المثقال الواحد عالٍ بشكل غير معقول . الله يرحم زمان الكهرب الروسي والبولوني والجيكي في سبعينيات القرن الماضي حيث إبتعتُ منه الكثير في موسكو وفي وارشو ثم في براغ . هذا هو مطعم السيد الدسّوقي أو الدسّوئي حسب اللهجة المصرية . طلبنا أطباقاً من البامياء مُضاعفةً مع لحم الضأن [ الخروف ] والخبز الأسمر اللذيذ [ العيش ] ثم أتانا الشاي من مقهى مقابلٍ للمطعم . دفعنا الحساب ثم تجشأنا ومضينا نجرجر خُطانا فلقد ثقُلت البطون وصعُبت حركة البدن واختلطَ ما في الرؤوس ... من ذا يُحسن التفكير بعد البامياء ؟ هيا سريعاً لنأخذ قسطاً من الراحة في الهوتيل ثم نتأهب للقاء العائلة العراقية في مدينة نصر .
في مدينة نصر
في السادسة كنا هناك في مُدخل المجمع الضخم المُسمّى
Stars Center Mall
ننتظرقدوم العائلة حسب الإتفاق . وصلت سيارتهم التايوتا السوداء فاستقبلناهم وعرّفتهم على صديقي الفنان وكانت كاميرته معلّقةً تتدلى على صدره من رقبته الطويلة فإبنة هذه العائلة السيدة ( هُدى ) فتاة رشيقة طويلة واسعة العينين وجدها صاحبي نموذجاً ممتازاً للتصوير ثم نقل صورة الوجه الجميل إلى لوحات زيتية يضعها بعد ذلك في أُطر مُتقنة غالية الثمن . لم يصدّق عينيه فهذا هو النموذج المثال الذي طالما كان يحلم أنْ يعثر عليه.
أثناء وبعد تناول وجبة العشاء الممتازة في أحد مطاعم الدرجة الأولى الواقع في الطابق
( الدور ) الرابع صرف الفنان الكثير من وقته في دراسة هندسة وتركيب أجزاء وجه ورقبة السيدة هُدى مع إلتقاط الكثير من الصور لها في أوضاعَ شتى ناسياً باقي الحضور مذهولاً بما يرى في وجه هُدى الباسم الهادئ الودود المشرق والعراقيّ الأصيل نصفه بصريٌّ والنصف الآخر فلّوجي واللمحات واللمسات الأخيرة النهائية كربلائية بحكم الوظيفة والمهنة . إنتبه الفنان أخيراً أنه لم يأكل شيئاً بعدُ وقد بردت أطباق طعامه فشرع يأكل على عجل من هنا وهناك متنقلاً برشاقة الظبي بين صحونه . إفترقنا شاكرين كرم وحسن ضيافة هذه العائلة العريقة وتعاون السيدة هُدى مع الفنان المغرم إلى حد جنون الهوَس بتصوير الوجوه الفاتنة .
هيا يا صديق إلى ميدان التحرير حيث مقهى النت لنقرأ بريدنا ونرد على ما فيه من رسائل قبل عودتنا إلى الفندق . ما برنامجنا ليوم غد ؟ سألني صاحبي في بهو الهوتيل . سأقضيه بصحبة صديقي المصري القديم زمان التدريس في جامعة الفاتح في العاصمة الليبية طرابلس . قال هل أعرفه وما إسمه ؟ لا تعرفه ، إسمه الأستاذ الدكتور فتح الله الشيخ . أما أنت يا صديق فخد أجهزة التصوير واذهب إلى حيث تشاءُ وحيداً حرّاً لا يزعجك أحدٌ ولا يتدخلُ في شؤونك إنسانٌ خذ كامل حريتك وتمددْ وتمطّى في القاهرة كما تشاء وحيثُ شاءت مشيئتك يا فنان . قال سأقوم بنزهة طويلة على ظهر يخت في نهر النيل .
مع الشيخ
وصلتُ الهوتيل بالتاكسي متأخراً دقيقةً واحدةً فوجدت صديقي البروفسور فتح الله الشيخ ينتظرني في بهو ( لوبي ) الفندق عرفني على الفور فنهض يعانقني بحرارة تخمّرت وأنضجتها 26 سنة من الفراق بيننا . قال لم تتغير سوى أنك ( خسيّتَ ) قليلاً أي نحلتَ وفقدت الكثير من وزنك السابق . أما هو ، الشيخ ، فقد أضاف وزناً لكنه فقد الكثير من شعر رأسه الجَعِد الناصع البياض . كان يشكو من داء الملوك ( النقرس ) ومن أوجاعه في مفاصل أصابع قدميه . حافظ على ضحكته المجلجلة التي ينفتح معها قلبهُ الأبيضُ على مصراعيه . أخذني إلى حدائق الأزهر الجميلة وهناك تناولنا في مطعم راقٍ وجبة شهيّة في الهواء الطلق مقابل قلعة محمد علي وصلاح الدين الأيوبي . بعد الشاي والنسكافيه إستأجر سيارة تاكسي وتوجهنا نحو دار الأوبرا المصرية ليحضر إجتماع اللجنة العلمية الثقافية التابعة للدار وهو أحد أعضائها النشطين تأليفاً وترجمةً ومحاضراتٍ . عرّفني على مكتبة الدار وتركني ليحضر إجتماع اللجنة فابتعت عدداً من الكتب الممتازة بإسمه مع تخفيض قدره 50 % . شكراً أبا تيمور وآمال . جلست أنتظره في مقهى دار الأوبرا الأنيقة التي يسمونها كافيتريا عصفور منسوبة لإسم الكاتب والناقد المصري الدكتور جابر عصفور . إنتهى إجتماع اللجنة فاستأجر سيارة تاكسي لتأخذني إلى ميدان التحرير حيث مقهى النت إياه وقد غدوتُ زبوناً له دائم الحضور يرحب بي أصحابه بحرارة وحفاوة فأتبادل الدعابة معهم وصار أحدهم ( السيد عصام ) يخاطبني ب [ جدّو ] فنضحك طويلاً ، الحفيد والجدّو.
مع حصباء الجبل
كان صاحبي جالساً في لوبي الهوتيل ينتظر قدومي متابعاً بعض البرامج التلفزيونية . ما أنْ رآني حتى هبَّ طالباً لي فنجان نسكافيه . كان مشوقاً ليسمع أخباري مع الصديق المصري الأصيل الأستاذ فتح الله الشيخ . قصصتُ عليه تفاصيل الساعات التي أمضيتها مع الدكتور الشيخ وكان يُصغي لي بكافة وسائل الإتصال البشري من سمع وبصر وتخيّل وتذكّر وربط وتحليل إذْ يبدو أنه حنَّ لأوساطه الجامعية هناك في جامعة ماساجوسيتس الأمريكية . وماذا عنك يا صديقي الفنان ، كيف قضيّت ساعات هذا اليوم الطويلة ؟ قال [[ أسكتْ وخليها ]] . كيف أسكت وأخليها وقد قصصتُ عليك قبل قليل أحسنَ القصص يا فنان ؟ تعرّف على ظهر اليخت العصري على فتاة مصرية شاعرة وصحافية ومترجمة تُجيد اللغة الإنكليزية فوقعت على مرامه تماماً فقد كان توّاقاً للتحدث بلغته الأمريكية وباللكنة الأمريكانية التي أتقنها بعد عمر طويل أستاذاً وباحثاً في الجامعات الأمريكية . أسعدها التحدث معه بالإنكليزية فدراسة لغة أجنبية لا تكفي لضبط شواردها وكشف خفاياها إنما ينبغي التحدث بها طويلاً مع شخص يُتقنها ويُجيد تلفّظها بلهجة أهلها . قال إنه إرتاح لهذه السيدة الشابة الحصباء الجبلية إذْ وجدها ذكية ولغتها الإنكليزية سليمة رشيقة القوام طويلة القامة عيناها ساحرتان عميقتا اللون الأخضر النباتي . تبادلا عناوين بريدهما الألكتروني وأهدته أحد دواوينها الشعرية مع كلمة إهداء عاطفية مؤثّرة . وجدها فُرصة مثالية نادرة فأمطرها بإلتقاط الصور وجهاً وقامةً جاعلاً من ضفتي نهر النيل خلفية لها غير آبهٍ بفضول بقية راكبي اليخت . هل ستزورك في أمريكا ؟ تنهدَّ بعمق ثم قال يا ليت ! إنها مطلّقة ومعها طفلان صغيران . وكيف إنتهى فصلك الرومانسي هذا يا صديق ؟ تنهدَّ ثانية ثم قال إنها إعتذرت عن دعوته لها لتناول طعام العشاء في مطعم راقٍ تختاره هي . قالت طفلاها في إنتظارها مع والدتها الفنانة وعازفة الموسيقى . أراني ديوانها الشعري الصغير وقرأت بعض ما فيه . طلب رأيي فيه فقلتُ له لا رأيَ آنياً لي ، يجب أنْ أقرأه جميعاً برويّةٍ وتأنٍ قبل الحكم عليه . قال معك حق . تثاءب ففهمتُ أنه يروم الراحة وقد نخرته أحاديث الرومانس النيلية . ما برنامج الغد ؟ سأل وقد نهض متجهاً صوب المصعد . الأهرام ، أجبتُ ، الغد مخصص لزيارة إهرامات مصر فنم جيداً وتأهب للجولة الأخيرة .
الجيزة / إهرامات مصر
أخذنا من شارع القصر العيني القريب جداً من فندق إقامتنا سيارة تاكسي بيضاء بعدّاد فالتاكسيات السود غير مجهّزة بعدادت . وصلنا الإهرامات فكانت المفاجآت في أنتظارنا . مجاميع وفرادى من الناس تعترض طريق السيارة فيتوقف السائق . تُفتح الأبواب فتصعد أشكالٌ والوان شتى من البشر عارضين علينا ما لم يخطر على البال : جمال ، خيول ، عربات تجرها الحمير أو البشر للتجوال حول الإهرامات وكأدّلة . كنتُ أصرخُ فيهم يا ناس لسنا بحاجة إلى بعرانكم وحميركم وخيولكم . أتركونا وشأننا نحن أدرى بما نريد . أتركونا أتركونا أتركوا السيارة . ويظلون متشبثين بإصرار جالسين في مقاعدهم حتى أصرخ في السائق أنْ يجبرهم على النزول . تمشي السيارة بضعة أمتار فيتكرر نفس الفيلم . يبدو أنَّ سائقي التاكسيات متواطئون متعاونون متعاطفون مع هؤلاء الناس . كان الجو حاراً تحت الشمس الحارقة وقليل من الغبار يعلو سماء المنطقة . مشينا وتجولنا بين الإهرامات في طرق وعرة غير معبّدة إلّا لمسافات قصيرة والتقطنا بعض التصاوير ومازحنا بعض أفراد الشرطة من ذوي البدلات البيض وكانوا فرحين أننا عراقيو الأصل وأصرّ شاب منهم أنْ يلتقط لنا صوراً أمام أحد الأهرام فامتثلنا له شاكرين . كانت أجرة التاكسي الأبيص 35 جنيهاً مصرياً أي أقل من 5 يورو ! دفعنا مثلها في رجوعنا إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة . كان الحرُّ شديداً لذا قفلنا على عَجَلٍ راجعين . لم ندخل النفق في بطن أحد الأهرام لأننا زرنا المتحف المصري ورأينا فيه كلَّ ما يخص آثار الفراعنة . مررنا بتمثال أبي الهول في طريقنا للعودة إلى القاهرة . الغريب أنَّ المنطقة الشاسعة بأكملها منطقة صخرية محاطة بالرمال وببعض التلال الرملية المنخفضة فكيف ولماذا وقع عليها إختيار فراعنة مصر لبناء إهراماتهم هناك خاصة ونهر النيل بعيد عن هذه المنطقة فكيف أمنّوا لهم ولرعاياهم ماء الشرب والغسيل وإعداد الطعام ثم لغرض البناء ؟ هل كان في تلك المنطقة فرعٌ من النيل ثم إندثر ؟ لا من أثرٍ لعيون أو آبار ماء في تلك المنطقة الجرداء القاحلة حيث الشمسُ صيفاً تشوي الوجوه والأجساد لا من زرع أو ظلٍّ ظليلٍ أو شجر .
هذا يومنا الأخير في القاهرة فكيف نُمضّي الليلة الأخيرة ؟ آثر صديقي الرجوع والمكوث في الهوتيل للإستحمام والراحة أما أنا ... فرحتُ أسألُ عن خمّارةٍ البلدِ ! لا شأنَ لي بالخمرة لكني رحتُ أبحث عن المزيد من الكتب في المكتبات العديدة المنتشرة في قلب المدينة وعلى الأرصفة وفي الأكشاك المتواضعة والكتب باليورو هناك رخيصة ومكتبتي فقيرة بكتب اللغة العربية والأدب والنقد والتأريخ . تمشيتُ كجاري عادتي طويلاً ذائباً في الزحام غريباً لا أحد يعرفني ولا أعرفُ أحداً كلما نالني الظمأ تناولت دوزة كولا أو سفن آب وحين شعرت بالتعب فتشت عن مطعم نظيف جيد فوجدته في شارع عدلي يحمل إسم " المُضيّفة "
تملأ واجهته الزجاجية الأمامية قوائم بأسماء ما لديه من مأكولات أسعارها مكتوبة بإزائها .
تناولت عشائي فانتبهتُ إلى أنَّ القسم الثاني الداخلي للمطعم مخصص لأصحاب الشيشة أو النوارجيل بلغتنا العراقية . لاحظت من بين روّاد هذا القسم سيدات مصريات أمام كل واحدة منهنَّ شيشة بخرطوم طويل يمرر لهنَّ دخان التبغ المتّقد تحت الجمرات . أين صاحبي من هذا الجو الحالم حيث رائحة التبغ تخترق المناخير والأدخنة تتصاعد حتى السقوف . أين صاحبي غاوي الشيشة ؟ الفندق لا يقدّم الشيشة وليس فيه أصلاً مَنْ يخدمها . تركتُ المنطقة متجهاً صوب الفندق حيث صاحبي في إنتظاري وأمامنا مهمة تهيئة حقائبنا للسفر فغداً في السادسة صباحاً تأخذنا سيارة تاكسي بيضاء جديدة إلى مطار القاهرة الدولي لنفترق ، صاحبي يطير إلى أمريكا وأنا إلى ألمانيا . قُبيل فراقنا سألت صاحبي كيف كانت سفرتنا للقاهرة ؟ قال : رغم كل السلبيات والنواقص كنتُ مُرتاحاً في القاهرة بل وأحببتها وأتمنى أنْ يحالفني الحظُ لأزورها ثانيةً لكنَّ حسرتين بقيتا عالقتين بضراوة في نفسي . ما هما يا أبا أسامة ؟ الأولى أني لم أتمكن من زيارة أضرحة جمال عبد الناصر وفريد الأطرش وأخته أسمهان . والحسرة الثانية ؟ أنَّ حصباء الجبل لم تأتِ المطارَ لتوديعي ! غنيت له أغنية فريد [[ يا مصرُ كنتُ فغربةْ وحيدْ // ومن يوم ما جيت ليك كان يوم عيد // يا مصرُ يا غاليةْ علينا ]] . غرّق عينيه في عينيَّ طويلاً وأخذ يتحسر ويتنهد بعمق وحرارة وأسى . أشعل سيجاره الكوبيَّ ثم نهض وقد سمع النداء الأخير لركوب طائرته المتجهة إلى أمريكا .

CONVERSATION

0 comments: