رُبَّ أخ لـَكَ.../ محمود شباط


حين ولـَجَ بحرَ ثلاثيناته كـَوَتـْهُ جمرة الفشل الكلوي وغسْـل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع. اكفهرَّ وجه الأيام و دَجَت سحنة الدهر ، فقد عمله فانغمس في بحر البطالة والملل. يغادر المنزل لساعات لتزجية الوقت عند صديق أو قريب . يمل ويغادر بعد أن يتأجج أوار السجالات بين الحاضرين حول "الشهود الزور" ومعادلة المحكمة مقابل الإستقرار" . كـُلٌّ لديه الحق والآخر "خائن" ، كـُلٌّ يهذر مردداً ما سمعه من "كرًّازه" السياسي الذي يروقه، هذر يصيب النفس بالغثيان والرأس بالصداع من مطارق تدق باستمرار على الجزء الألين من الدماغ وتمهد الطريق للإيمان عن طريق القلب إلى أن يتقاعد المخ والمخيخ وكل ما يحض على التفكير والمنطق. وإلى أن تصبح لازمة " الفوهرر يفكر عنا " هي النهج الأثير والببغاوية توأمها.

في إحدى جلساته على شرفة دارهم المطلة على البلدة والوادي، حيث ينعم فضاؤها بالهواء العذب المنهمر بسخاء من الجرد القريب. تذكـَّر حامد صديق طفولته أو كما كان يناديه "خيِّي جان"، ابن الجندي الشمالي الذي كان يلعب معه حين كان والده ضمن عديد اللواء المتمركز في البلدة ونقل لاحقاً. ولكن وشائج التواصل استمرت حية بين الأسرتين. تذكـَّر حامد يوم أنقذ جان من الغرق في مستنقع ضحل المياه على أطراف البلدة.

بعد تجواله بالخاطر على صور جميلة من الماضي عاد به الواقع إلى حاضره، عاد ليتفكـَّر في حلٍّ لاستبدال كليته المصابة. كـَثـُرَ المتبرِّعون من شقيقات وأقارب وأصدقاء، ولكن الطبيب المعالج لم يعتمد نتائج التحاليل المختبرية.

بعد ظهر يوم أحد عرض حامد على أمه وشققتيه هويدا ورويدا ان يقوموا بزيارة إلى بيت "عمِّه أبي جان". وفي منزل المضيف بينما كان الشابان يتحادثان عرف جان بأن حامد بحاجة لكلية وبأن حياته في خطر.

بعد يومين من تلك الزيارة ، وبينما كان حامد يجلس على الشرفة ، توقفت سيارة فارهة في فسحة ترابية تحت منزل أهل حامد، استطلع هوية القادم فتعرَّف على السائق ذي البزة الأنيقة والشباب النضر الذي ترجـَّل للتو وتوجه صوب حامد ضاحكاً ومُحيِّياً. هب حامد لملاقاته وتغامرا وتعانقا ، وقبل أن يصلا إلى باب المنزل كان جان قد أخبر حامد بأنه آت ليذهب معه إلى المستشفى ليهبه كليته وأقسم له بأنه لن يراه ثانية إن رفض العرض. راغت عينا حامد بدموع الإمتنان وأخبر والدته وشقيقتيه بالنبأ. اعترضت أم حامد ورجت جان ألا يفعل لأنهم يتوقعون واهباً آخر. فقال لها بأنه هو الواهب الآخر، وبأنه جاء ليفي "شقيقه" حامد ديناً لا يمكنه وفاءه بالمال. وذكَّرها بقصة إنقاذ حامد له من الموت يوم كانا يسبحان في المستنقع.

أثناء إجراء العمليـَّتين الجراحيـَّتين للشابَّين في المستشفى؛ استئصال كلوة من جسد جان وزرعها في جسد حامد، كانت هويدا تحمل همَّ الغريب جان بقدر حملها لهمِّ أخيها، و تقلق على جان بقدر قلقها على أخيها. تـُردِّدُ في هنيهات الترقب الصعب امتنانها الضمني لتضحية ذلك الشهم الطيب، وتـُتـَمْتـِمُ بما يجول في خاطرها : " رُبَّ أخ لك لم تلده أمك يا حامد".

لم يـُفـْتـَحْ بعد باب غرفة العمليات ولم يُطمئنهما أحد بعد. الثواني تـَمُرُّ كأنها دهور، كانت رويدا وهويدا تروحان وتجيئان في ردهة المستشفى بعيون دامعة ثم تعودان إلى باب غرفة العمليات، تبتهلان وتتمنـَّيان استعجال معرفة النتيجة وسلامة الشابَّين . وحين تصلان الباب وتجدانه لازال موصوداً دليل عدم انتهاء العمليتين يخيب أملهما فتعودان إلى الأبتهال والأدعية والتوتـّر والقلق والذهاب والإياب وفرك الأيدي. تبكيان وتتساءلان بتخوّفٍ عن الوضع الذي ستؤول إليه الأمور فيما لو حدث مكروه لجان أو لأخيهما.

بعد طول انتظار أُخـْرِجَ الشابـَّان من غرفة العمليات، هرعتا لتقبيل شقيقهما وهنأتاه بالسلامة، ثم توجَّهتا نحو جان، أو ما صارتا تعتبرانه شقيقهما الجديد حقاً. وجدتاه مغمض العينين بملامح نقيـَّة صافية حياديَّة، قلقتا عليه وبكتاه، لن يسعدهما إنقاذ حياة شقيقهما وموت المـُنقـِذ. وازدادت خشيتهما على حياة الواهب الغريب الغائب عن الوعي المتأثرً بتخدير البنج رغم تدابير الإنعاش، والذي لم يستعـِدْ وعيه إلا بعد فترة طالت واستطالت كـَرَدَحٍ من الزمن، وحين صحا كان شاحب الوجه، مـُنهكاً، زائغ النظرات يعاني من التقيؤ والإرتعاش والضياع، بقيت رويدا مع شقيقها حامد الخارج للتوِّ من غرفة العمليَّات وتفرَّغت هويدا لمساعدة جان وإسعافه، تتحسَّس جبهته وتمسح آثار القيء عن فمه وخدَّيه ورقبته كما لو كانت أخته من لحمه ودمه فصار يناديها "أختي هويدا" وحين غسلت قدماه فوجئت بانحناءته لتقبيل يديها فأبعدتهما بسرعة وتأثرت وبكت وطلبت منه برفق عدم تكرار شُكـْرها لأنها هي بدورها تعتبره أخاً لها. في تلك اللحظات الساخنة لم يكن بإمكانه التكلـّم فراح يشكرها بابتسامة رضى وبترميش بطيء من هدبيه . حينها قالت له بأن فرحتها كبيرة بسلامته وبإنقاذ حياة شقيقها الذي لم يعد الآن وحيد أمه.


في غمرة الفرحة الداوية بسلامة الشابَّين، خرج جان من المستشفى قبل حامد فودَّعه وهويدا ورويدا وقال للفتاتين موضحاً: من ألزم بالأخ من أخيه ؟ قولا لي ؟

وبينما هو يبتعد ملوحاً بتحيات الوداع كانت ممرات المستشفى تشع بنجوم لامرئية تبث دفئاً بشرياً أصيلاً نقيَّاً خالصاً، يُومِضُ ليـُقـْـنـِع من لم يقتنع بعد بإعلاء راية الإنسانية فوق الأديان والمذاهب والعشائر والقبائل والديناصوراات الحجرية والوثنيات الخشبية، ويهفّ هسيسه الناعم بأن الكلية ، كما القلب والدماغ، عضو حيادي عابر للمذاهب والأديان. وبأن الدم هو الدم في كل أجساد البشر.

الخبر في 21/10/2010

CONVERSATION

0 comments: