قصة قصيرة
تلك.. أطلال الخان لا تزال صامدة أمام الرياح وعصفها، والأمطار وبرودتها، والشمس وحرارتها.. تجاور شارعًا فرشته آلاتٌ حديثةٌ ببساطٍ أسود فراحت تدوسه آلاف المركبات دونما توقف.. تحدّق طوال النهار ومنذ بزوغ الفجر في الإشارة الضوئية المنتصبة أعمدتها في زوايا مدخل القرية القديم. خان شهد كل الأحداث التي جرت ولا زالت تجري في المناطق القريبة والبعيدة؛ إذ سمع كل الحكايات التي سردها النزلاء على اختلاف ألوانهم وأديانهم وجنسياتهم وأعمارهم. فكان يسترقّ السمع ويدوّن كل كلمة.. لكن في ذاكرته.. على حجارته.. على ذرّات ترابه.. يقول الشيوخ من أهل القرية إنه الحضارة والتاريخ، ولا بد من الحفاظ عليه ليبقى رمزًا ومفخرةً للناس أجمعين.. وأعظم حدث سطّرته الذاكرة، والذاكرة لا تبلى، حين نزل فيه السلطان سليمان القانوني في طريقه إلى القدس قادمًا من الأستانة لمشاهدة أعمال بناء أسوارها عن كثب، فاكتست حينها المنطقة بحلة بديعة استعدادًا لاستقبال السلطان. واليوم ورثت أطلال الخان ما ورثته واحتفظت بسجلات الأحداث في قوارير الذاكرة.
لكن ما حدث للأطلال جعلها تتربص للتشفي بضحايا حادث هنا أو حادث هناك؛ وما دامت أصوات المركبات تقض مضجعها. حركة السير في الشارع العام لا تزال كعادتها، الآلات تتدفق في كلا الاتجاهين دون عائق يذكر.. لكن الصوت المنبعث من مكبر الصوت المنتصب على ظهر سيارة الشرطة، وهو يأمر سائقة المركبة البيضاء التي كانت تنتظر الإذن بجانب مركبات أخرى للتحرك إلى الأمام، بالتوقف جانبًا خلف الإشارة، أثار انتباه معظم سائقي المركبات ومن فيها..
كانت في طريقها إلى الكلية.. توترٌ خوفٌ حنقٌ.. إنها المرة الأولى التي يوقفنا شرطيّ المرور. أهذا الأمر ضروريٌ الآن في هذا الصباح؟ ألا يكفينا أننا متأخرات بسببك يا مريم ولم يبق على بدء المحاضرة سوى دقائق معدودة!.. ماذا يريد منّا هذا الشرطيُّ النكد؟
هتفت إحداهن في انقباضٍ: كالعادة.. نحن العرب مشبوهون في كلّ زمان وكل مكان حتى تثبت براءتنا.. ألا تعرفين أن مناديلنا التي على رؤوسنا تشير له أن من في المركبة فتيات عربيات ولا شك في ذلك؟ ثم لماذا اختارنا نحن بالذات دون مئات المركبات؟ طبعًا لأننا من أحفاد يعرب بن قحطان..
وقالت أخرى بتهكمٍ وامتعاضٍ في آنٍ واحدٍ: يبدو أن زوجته لم تحضر له الفطور.. انظرن إلى عبوسه الذي يقطع الرزق وإلى نظراته التي توحي إلى كراهيته للعرب..
واعتادت كل فتاة أن تروي حكاية جديدة من حياتها اليومية فلا يشعرن بعناء السفر أو بثقل الدراسة وهمومها. وكانت فاطمة تأخذ حيّزًا واسعًا بحضورها من الحديث بصوتها المجلجل وضحكتها المرتفعة.
توقفت المركبة وتوقفت معها سيارة شرطة.. ترجل الشرطي وطلب بلغة عبرية أشكنازيةٍ أدبيةٍ متقنة الرخص والوثائق اللازمة فتم تلبية الطلب.. ثم خاطب السائقة قائلاً: كان ينبغي عدم السير بالمركبة في المسلك الأيسر لأن هذا مخالف للقانون ومعيق لحركة السير، ولهذا أكتب لك غرامة قدرها ثلاثمائة شيكلاً بالإضافة إلى نقاطٍ أربع تسجل في سجلك الخاص في دائرة السير..
- ولكننا نحن طالبات في الكلية ولسنا من المجرمين ولا من المخالفين للقوانين ثم لماذا تعتبر السير في المسلك الأيسر مخالفًا للقانون ما دام الشارع فيه مسلكان في كل اتجاه...
أجابها مقاطعًا بصوتٍ مرتفعٍ دون أن يعطيها الفرصة لإكمال حديثها:
- ليس من شأني إن كنتن طالباتٍ أو مدرّساتٍ..
ثمّ أتم تحرير المخالفة وسلّم أوراقها لسائقة المركبة وسار كلٌّ في طريقه..
حدّقت إحداهن في الأوراق وهتفت في جنونٍ:
- ملعون هذا الشرطي يتحدث معنا بالعبرية ويتستر ببزته العسكرية حتى لا يفتضح أمره.. هو عربيٌّ وابن عربيٍّ ويعاملنا بهذه القسوة.. انظرن إلى توقيعه وختمه.. اسمه رفعت حليمة.. نعم من عائلة حليمة ومن قريتنا المجاورة.
وشهدت على تلك الواقعة أطلال الخان...
0 comments:
إرسال تعليق