في عتمةِ الكهفِ ذهَبٌ يلمع/ محمود شباط

في تلك الأمسية المُوشـَّاة سماؤها بنجوم كوشيعة الماس ، كان البدر بهيـَّاً كالبدر، يبث ضوءاً فضيّاً يتحول مع تقدم المساء إلى قمحيّ، فيرسم على أزقة الحيِّ وساحته ظلال المارَّة القلائل و المنازل والغصون الراقصة على نغم ريح الهزيع الأول.
استمرَّت شبابة الرِّيح تدندن بشجى بينما حبيب يعمل داخل مصبغته الصغيرة التي اشتراها من الشيخ بهيج منذ ثلاث سنوات "على الخريطة" كما يسمي اللبنانيون تلك الشقق التي يتورطون في شرائها قبل بنائها، وعند استلام حبيب للمحل من الشيخ بهيج قبل أربعة أشهر هاله ما رآه من شروخ في الجدران وتسرب مياه الصرف الصحي من سقف الدكان. يومها اشتكى حبيب للشيخ ووعَدَه الشيخ بأنه سيرمِّم الشروخ ويصلح السقف. ولكنه لم يفِ بوعده لغاية الآن.
توقف الشاب المتزوج حديثاً عن كيِّ الملابس. شعر بالقرف وفقدان الثقة بشخص يعتبره رجل دين ويتعامل معه على هذا الأساس ، احتقن غضباً وتعبا، وضع يديه على أسفل ظهره يفرك موضع "الديسك" الذي يعاني منه منذ أشهر نتيجة وقوفه لفترات طويلة أثناء عمله. جلس على كرسيِّه، تناول ترمس القهوة وصبَّ لنفسه فنجاناً.
ما هي إلا دقائق حتى دخل عليه الشيخ بهيج ، حيـَّاه الشيخ الثرثار كالعادة وتبرع بأدعية بالتوفيق والصحة لحبيب وسلـَّمه كيساً بلاستيكياً يحتوي على ملابس لغسيلها وكيـِّها. شكره حبيب بلباقة على أدعيته وذكـَّره بضرورة إصلاح الجدران والسقف. كرر الشيخ اعتذاره عن نسيان تلك المسألة وأقسم لحبيب بأنه سوف يُرسِل من يرمِّمهما في آخر الشهر بعد أن يستلم ثمن الزيت والزيتون الذي باعه للتجار ويستلم قيمة الأقساط الشهرية من مشترين للشقق والدكاكين. ثم تظاهر الشيخ بالضيق وراح يتذمَّر من هذا الزمن الذي أصبح فيه صاحب الحق يستعطي حقـَّه وغادر المصبغة وهو يتذمر ويبربر.
لم يصدقه حبيب .قال لنفسه بأنه لن يغسل ملابس الشيخ في المرة القادمة. كونه صار يشك في صدقية وعود الشيخ الميسور الحال، بل الثري.
بينما كان حبيب يُخـْرِج عباءة الشيخ الفخمة التي قدَّرَ بأنها من "الشاموا" الأصلي وعمامته الحريرية كان يتفكر في كيفية تدبُّر دفع إيجار الشقة وأقساط البنك وتسديد ديون لعدد من الأقارب والأصدقاء ودفع تكاليف وخز الإبر الصينية لعلاج ظهره من الإنزلاق الغضروفي.
غضبه من الشيخ دفع به للأمساك بالعباءة ورميها بعيداً بانفعال فوقع منها رزمة أوراق نقد فهرع والتقطها وعدَّها فتبيـَّن له بأنه خمسة آلاف دولار بالتمام والكمال.
وضعها في درج طاولته شبه الفارغ وجلس يتفكر ويحسب ويحلل : هل يستبقي ذلك المبلغ ويقوم بنفسه بالإصلاحات المطلوبة وبعدها يرد ما تبقـَّى للشيخ؟ وماذا لو اكتشف الشيخ افتقاده للمبلغ وادعى على حبيب بأنه خان الأمانة ولم يبلغ الشيخ بأنه وجد المبلغ في العباءة؟ ثم قال الشاب لنفسه بأنه واثق من أمانته وصدقه ولكنه لا يثق بوعود الشيخ التي ذاق مرارتها وتكاد تؤدي بالمصبغة إلى الإقفال لأن الزبائن صاروا يقلـُّون يوماً عن يوم بسبب نفورهم من تسرُّب مياه الصرف الصحي على المصبغة وما تسببه من روائح مقززة فور ان يفتح الزبون باب المصبغة .
المبلغ لا زال درج الطاولة المفتوح . حبيب يجلس على كرسيِّه مرخياً جسده إلى الخلف ليرتاح أكثر ويخفف من ألم ظهره، نظر إلى السقف فتحرَّكت نقمته على الشيخ وقرر استبقاء المبلغ. داهمه هاتف خفي يؤنـِّبه ويحذره ليرد المبلغ تلاه هاتف خفي آخر يشجعه على استبقاء المبلغ ثم هاتف خفي آخر لرده إلى صاحبه. أغمض عينيه وراح يصغي للهاتفين دون تدخـُّلٍ كما لو كان هو طرفاً ثالثاً لا علاقة له بما يدور.
استمر يستمع لحوار الذاتين متأرجحاً بين الحق والباطل . كانت حينها ذاته الدنيا الشريرة تصرخ بذاته العليا الخيِّرة :
- الخطأ ليس خطأ حبيب، ألا ترين تلك اللوحة ؟ اشرأبت عينا حبيب صوب اللوحة المقصودة :" إدارة المصبغة غير مسؤولة عن الأشياء الثمينة أو المبالغ المالية التي ينساها صاحبها في الملابس" .
- زجرتها ذاته العليا : يا لمكرك! لقد وضع حبيب تلك اللافتة ليحمي نفسه من شخص قد يفتري عليه ويزعم بأنه نسي مالاً في جيب من جيوب قطعة سلـَّمها إلى حبيب . وليس بغرض الإستيلاء على حلال الناس .
- همدرت الذات الدنيا بعبارة شبيهة بنفي النفي : السرقة من السارق حلال . ألا تعرفين بأن الشيخ قد غش حبيباً في البناء ؟
- فليلجأ حبيب إلى الإدعاء على الشيخ بتهمة الغش !
- إلى من يشتكي ؟
- السلطات المختصة .
- هيه ! وسوف يتابع الدعوة أولاد حبيب واحفاده مع احفاد أحفاد الشيخ الذي عـَمَّرَ الشقق والدكاكين من صندوق الوقف والنذور ؟
- هو وحده من يتحمل وزرها .
- متى ؟
- يوم الحساب .
- هيه !! يوم الحساب ؟؟؟
في غمرة تفكر حبيب غاب عنه صوت الهاتفين الخفيـَّين فأخذ يتفكر ويغوص في الحيرة ويتساءل ليقرر أي من ذاتيه على صواب. أخذ يترنـَّح بين حاجته للمال لدفع تكاليف إصلاح جدران وسقف المصبغة كما حاجته إلى مبالغ ليدفعها مقابل وخز الإبر الصينية التي يستلزمها علاج ظهره. وظل يعوم بين وخز الإبر الصينية ووخز إبر الضمير إلى أن استسلم لوحش الإنتقام من الشيخ و احتياجه للنقود . أخرج المبلغ من الدِّرج ودسَّه في جيبه.
صرخت به ذاته العليا : لِمَ تـُمَرِّغ هامك في وحل الخطيئة وأنت الذي ما سرقت يوماً؟
جفل وأعاد المبلغ إلى الدرج . سمع قهقهة ذاته الدنيا تبربر باستخفاف : دعك من مثالية لا تعيد لك حقك المسلوب ولن تشفيك من الانزلاق الغضروفي ؟
بصوت هادىء ردَّت ذاته العليا: لا تصغِ إليها ! ربَّما وُفـِّقـْتَ في علاج لانزلاقك الغضروفي ولكن هيهات من الفلاح في علاج للانزلاق الضميري حيث تستعصي سبل العودة إلى بر الأمان. ويضحى سراب الحل مطيتك الأثيرة في الهروب إلى الأمام فتدمن استطياب طعم الحرام. ردّ المبلغ إلى صاحبه الآن.
حار حبيب فيما هو فاعل. وغرق أكثر في بؤرة الإنتقام من الشيخ و سيطرة المال على وضعه، صغر أمام سلطان الثأر وجبروت الحرام. فوضع المبلغ في جيبه . صرخت به ذاته العليا كي يعيده إلى الشيخ وتوجَّهت بالتأنيب للذات الدنيا :
- اصمتي ودعيه نقياً طاهراً .
- ردت الذات الدنيا بلؤم : لم أرغمه بل أوصيه. ولن يسمع صوتي إلا حين يتبيَّن لي ضعفه ، عندها، لن أتوانى عن حفر أخاديد عبر ضميره وسأستمر في الحفر كما تعمق المياه مجرى النهر.
ندم حبيب لمطاوعته ذاته الشريرة. أعاد المبلغ إلى درج طاولته تمهيداً لإعادته إلى الشيخ وهو يستمع لتوبيخ الذات العليا للذات الدنيا: كفاك زئبقية ودجل ! ارحميه ولا تغويه بمنكر وحرام.
- لـِمَ لا تريدين أن تـَفهمينني ؟ صديقك حبيب من يتيح لي السيطرة على قراره، وهو من يـُمَكـِّنني من زمامه. أنا مجرَّد وعاء يضخ بما يحتويه حين يضيىء لي ضعفه الضوء الأخضر. لـِمَ تلومينني أنا وليس هو ؟ ثم أكملت حديثها مخاطبة حبيب :
- لا تدع الفرصة تفوت. صاحب المبلغ كذاب، دجَّال،عجوز وخرف لن يفتقد المبلغ لأنه ينسى كثيراً ولأنه ثري ولن يؤثر في حجم ثروته نقصان ما أنت بحاجة ماسة إليه.
أمسك حبيب برزمة النقد يتحسس أوراقها بلذة ويعدّها للمرة العاشرة ربما، تطلـَّعَ إلى الخارج عبر زجاج الباب ثم أودعها في جيبه. حينها صرخت به ذاته الطيبة :
أرجع المبلغ إلى صاحبه! تـَعـَوَّد على تجرُّعِ مرّ زجر النفس وسترى بأن صبر ذلك الزقوم المؤقت يتحوَّل إلى طعم شهد عسل مع التكرار و مرور الوقت.
عادت الذات الطيبة إلى تقريع الذات الدنيا: أما من آخر لنفق تسلـُّطك عليه؟.
- ردت الذات الدنيا الشريرة : أرشدي صاحبك ولست بحاجة لمواعظك البائسة ، قولي له أن يضبط هوانه وضعفه ليميت عناصر سطوتي، له أن يئد رسائلي ونصائحي أو أن يخـَزِّنها ويـُفَعـِّلها ويعمل بموجبها! له وحده الخيار.
- تجاهلتها الذات العليا وأوصت حبيباً : دعك منها ومن نصائحها ! اسبر غور نفسك ! آنئذ سوف ترى جمر اللغز سابت في رماد رماديتك ، لئن مِلتَ لأبيضه نعمتَ بنعيم طهره ، وإن جنحت لأسوده غرقت في وحل رجسه. تلك الشريرة تزيِّن الخطيئة وتـُزَوِّقَ السيِّئات. لا تقبل منها.

حين رأته الذات الطيبة محتاراً متردداً أكملت ترشده وتحذره وتعظه : أنا بدوري لا أرغمك على القبول بنصائحي إن لم تكن مقتنعاً بها. لم يردّ حبيب.
مع تقدم حلول العتمة واشتداد زمجرة الريح كانت الذات العليا الطيبة قد تعبت ويئست من سماع قرار حبيب. حينها أشفقت عليه ودلـَّته على أنسب الحلول المتمثل بتحكيم ذاته الثالثة و أن يترك لتلك الذات الكلمة الفصل.
ثم ساد الهدوء. وما هي إلا لحظات حتى عصفت رياح الحيرة في عقل حبيب حين استحسن باستغراب واستهجان سماع كلام جديد حول عبارة "ذاته الثالثة"، الكامنة في قرارة النفس البشرية إنما دون أن يتذكرها أو يشعر بها، ومضت العبارة في خاطر حبيب كنجمة في سماء صافية، صحا كمن تكشَّف لبصيرته البعد الجديد في كيانه وحسم الأمر باتباع ما تحكم به ذاته الثالثة.
اقتعد كرسيه يفكر لدقائق. أشرق بعدها وجهه بابتسامة ارتياح، أخرج المال من جيبه مبشراً نفسه بأنه ولج للتـَوِّ منجم ذاته الثالثة ، وتيقـَّن بأن عواقب الإنزلاق الغضروفي أخف بما لا يقاس من وطأة الإنزلاق الضميري. ثم حمل النقود وأغلق مصبغته وتوجه نحو بيت الشيخ ليردَّ له ماله قبل أن يعود وسواس ذاته الشريرة وقبل أن تضعف ذاته الثالثة.
الخبر في 13/10/2010

CONVERSATION

0 comments: