لا تنفصل كتابة شوقي مسلماني الشعرية عن مكتسبه الجغرافي، أو مكانه الأصلي، كذلك لا تنفصل عن الامكنة المبنية في مخيلته إما بالقراءة أو بالعيش فيها أو بالترحال إليها. 'لكل مسافة سكان أصليون' هو عنوان المطوّلة الشعرية والتي نشرتها مؤخرا 'دار الغاوون'.
إحدى ميزات نص مسلماني أنه مفتوح على لغات شعرية متعددة، منها ما هو رشيق ومنها ما هو تأملي أكثر بطئا. لغته تارة تطبع العمل بالتجدد وتارة أخرى بالتقلّد، وهو إما يتجرأ ويبتعد في تصويراته المجازية وإما يعكس كمّا متوارَثا عن 'أسلافه' الشعراء ممن اختبروا اللغة في ظرف ما.
هذا الانفتاح في اللغة، يتيح للقارئ الاقامة في الجزء الذي يريده في الكتاب، بمعنى ان وجبة مسلماني الشعرية، وعلى ما تحمل من تنوع، تشبه طبقا من الفاكهة التي قد يحب المرء بعضها ولا يستسيغ طعم البعض الآخر. هنا تكمن أهمية هذا النص الذي يضع القارئ امام مجموعة من الخيارات 'الشعرية' والجمالية في العمل الواحد بدل اعتماد شكل وصيغة كتابية وجمالية محددة يقبلها المتلقي أو يرفضها بالكامل.
لكن انفتاح نص 'لكل مسافة سكان اصليون' على تعددية الأسلوب، ولاأحادية النسيج الشعري، يأتي متطابقا إلى حد بعيد مع انفتاح النص على محاولات في تأمل قيم حالات سوسيولوجية واسطورية وتاريخية كالموت، السلطة، الخطأ، العبث، البشرية، الطبيعة، السياسة، الصراع، الطائفية... بعض هذه القيم كالأخيرة مثلا، يمثل إقحامها في النص مجازفة نظرا لبعدها السوسيولوجي غير القابل (كما قد نتصور) على التآخي مع المناخ الشعري والمجازي. غير أن السياق الملحمي، غير الخاضع لأي انضباط في تواتر الأزمنة، وبالتالي المنفلت من الترتيب الكرونولوجي لمفاصل أساسية من تاريخ فلسطين (مجزرة دير ياسين يوم 9 نيسان / ابريل 1948 ـ إعلان قيام اسرائيل في 15 أيار/ مايو 1948)، لبنان، اليابان (هيروشيما) وأوزبكستان (مدينة بخارى التي يأتي الشاعر على ذكرها وارتباطها بما فعله جنكيز خان إذ اقدم على تخريبها وإحراقها بمساجدها ومآذنها القديمة ومكتباتها)، يهيئ النص تمهيدا لحمله بعيدا عن الكلاسيكيات الملحمية / السياسية التي درجت في قصائد الستينيات.
فالقصيدة التي تحتويها المجموعة الشعرية، تستمد أوكسجينها بشكل أساسي من ثنائية الذكرى / الذاكرة، وتفاعل الشاعر الشخصي مع التاريخ بعد اختزاله وتكثيفه في 'عيّنات' أو نماذج هزّت البشرية، ما يؤدي بالتالي إلى رفع النبرة الشعرية نحو مستوى أعلى من الخطابي/ المثرثر / المنفعل. اعتماد مسلماني على خصوصية سرد الأفكار المجازية / الحكائية دون أن يوغل في التراجيديا والدم، والالم، والفاجعة والبكائيات والسوداوية، لا ينحصر في مضمون العمل، بل في صورته كذلك.
فعينه الشعرية 'الحرة'، تقرأ مشهديات الحياة باقتضاب، متخففة من الاستفاضات التي يمكن لها أن تثقل النص إلى حد التفتيت الكلي لما يقصده الشاعر. لذلك يُعمل على مقاطع شعرية قصيرة، متناثرة، محتوية مناخات يشي بعضها بعلامات رومنطيقية، أو أسطورية، أو نثرية، أو شعرية حداثوية، أو ناهلة من الثقافة العربية القديمة، إلا أن مظلتها العامة تكمن في موضعتها جنبا إلى جنب، مما يشكل فرصة للنفاذ من لحظة راهنة، إلى أخرى سابقة، وبالتالي العبور من تفصيل طازج من تاريخنا المعاصر إلى آخر اكتسبنا معرفته بالقراءة والتوارد.
ميزتان أساسيتان تمكن ملاحظتهما في قصيدة مسلماني. الاولى استخدامه لعناصر الطبيعة ورموزها (السمكة، الشجر، الظل في برية، الضوء، غدير، الشمس، اليباس، القمح، العصافير،..) من أجل تكوين مشهد يستعيض به عما يريد بوحه مباشرة، وبالتالي يوظفها تكوين شظايا تراجيديته بدل إسقاطها مباشرة في ذهن القارئ.
أما الميزة الثانية، فتتجلى عبر سياق عقلاني، حكيم، متأمل، بعيد عن التشكيلات اللغوية وجماليات التأليف وتأنق النص وزخرفته، ما يسمح لمقاطع مثل 'ضد يقتلك لأنك ضده / ضد يقتلك لأنك على يساره/ ضد يقتلك لأن كلبه لم يستطع ان يعضك / ضد يقتلك لأن ملته طلبت / ضد يقتلك لأنك شجرة/ ضد يقتلك لأنك تريد أن تعمل/ ضد يريد أن يقتلك لأن لباسك غير لباسه/ ضد يقتلك لأنك تسير على قدمين/ ضد يقتلك لأنه يظن أنك حين تكون تزرع / أو حين تكون تصنع/ تكون لا تزرع ولا تصنع/ وضد يقتلك لأن شكل رأسك/ ليس هو الشكل المطلوب/ أو لأنه ربما / يشعر بالملل'.
هذه القراءة الداخلية للذات وللذات الاخرى، تفضح أفقا متوترا لدى الشاعر، متذبذبا مهيأ للتفكك والتركيب والعصيان والجرأة الكتابية خارج 'حدود' القصيدة أو شرطية الشعر.
ما يجعل من الفعل الانساني 'الآني' في القصيدة، مرتبطا بأحكام مسبقة تحيلك إلى بسيكولوجيته، أي بسيكولوجية القاتل / الآخر/ الدخيل/ العدو. الحدث من هنا لا يعود منعزلا وشخصيا وفرديا وذلك لعلاقته بخلفية إيديولوجية وجودية (غير معكوسة بشكل مباشر في القصيدة)، وبالتالي ارتباطه بجماعة مبهمة، غير حاضرة، شبحية ومسؤولة عن الخراب والتشتت واختلاف اللون والدم.
هذه الفضاءات المحددة، تبقي نصه عائما في حالة إقليمية من دون أن يسمح له الشاعر بفقدانه اتزانه، مبقيا عليه في مزيج هوائي يتماهى مع أولوية حفظ النص في حيز شعري، يفضي بحمولته إلى القارئ دون إرهاقه في الاستعراض المجازي.
عن "القدس العربي"
0 comments:
إرسال تعليق