يتسم الفلكور الكردي بالاصالة والخصوبة والثراء ، وبتعدد اشكاله وانماطه ، وتنوع موضوعاته ، واساليبه التعبيرية ، واحتوائه على عدد هائل من الاساطير والحكايات والملاحم والاغاني والالوان الاخرى من الادب الشعبي ، التي ترتفع بمضامينها الانسانية ومستواها الجمالي الرفيع الى مصاف الاثار الخالدة في الفلكلور العالمي , بيد ان القسم الاعظم من هذا التراث لم يتم لحد الان تدوينه وجمعه , ناهيك عن دراسته واستلهامه في الاعمال الادبية والفنية . وما لدينا اليوم من نصوص فولكلورية كردية , يعود الفضل في تدوين القسم الأكبر منها وتحقيقها ونشرها الى تلك النخبة المثقفة الواعية من كرد ما وراء القفقاس .
لقد شرعت تلك النخبة الرائدة بجمع النصوص الفولكلورية لأفضل نماذج الادب الشعبي الكوردي منذ العشرينيات من هذا القرن وحققت انجازات باهرة في هذا المجال , وكانت ثمرة جهودها الدؤوبة على مدى عشرات السنين عدة كتب ومجاميع فولكلورية كردية صدرت في اوقات مختلفة في يريفان وبطرسبورغ وموسكو باللغات الكردية والارمنية والروسية , ولعل أهم هذه الكتب على الاطلاق كتاب " الحكايات الملحمية الكوردية المغناة " الصادرعن دار نشر الاداب الشرقية في موسكو في عام (1962 ) برعاية معهد الادب العالمي في موسكو ومعهد الادب في يريفان .
وقد رحبت الأوساط الثقافية بهذا الكتاب وأعتبر العلامة " قناتي كوردو " صدوره حدثا مشهودا , ويضم الكتاب النصوص الفولكلورية لأشهر وأهم الحكايات الملحمية الكوردية المغناة مع ترجمتها الى اللغة الروسية ومقدمة ضافية وقيمة للعلامة الراحل " حاجي جندي " وهوامش وتعليقات مفيدة , هذه الملاحم هي ( مم وايشى , زنبيل فروش , ليلى ومجنون , مم وزين ,دمدم , سيدا وئاجى ,خجى وسيابند ,كاروكللك ) وقد تم تدوين النصوص الفولكلورية الكردية لهذه الملاحم في فترات مختلفة بين الاعوام (1931- 1955 ) من قبل " حاجى جندى , قناتى كوردو , عرب شمو ,تسوكرمان " , وذلك عن لسان عدد من الرواة الكرد القاطنين في المناطق الكردية من ارمينيا وجورجيا . وكان هؤلاء الرواة من المسنين الذين حباهم الله بالموهبة والذاكرة القوية والصوت الشجي في معظم الاحيان ، حيث أن هذه الملاحم – وهي قصص شعرية قد يتخلل بعضها مقاطع نثرية متفرقة – كانت تنشد في المجالس والمناسبات والاعياد بمصاحبة الالات الموسيقية , والحان هذه الملاحم رائعة وقد قام الموسيقار الارمني البارز " كوميتاس " بتدوينها ونشرها .
والحكايات الملحمية الكردية ذات مضامين بطولية وعاطفية وتتجسد فيها الروح الرومانسية وتستند الى وقائع وحوادث تاريخية وابطال حقيقيين لعبوا أدوارا مهمة في تاريخ الشعب الكردي وفي مقدمة هذه الحكايات الملحمية , ملحمة " دمدم " التي تصور بطولة الكرد في الدفاع عن القلعة المشهورة بهذا الاسم ضد قوات الشاه عباس*.
هذه الملاحم وصلت الينا من أعماق التاريخ عبر اجيال عديدة وخضعت لبعض التحويرأحياناً وللحذف والاضافة في احيان اخرى , وتم تكييفها لتلائم الوجدان الشعبي وتخلق نوعا من التوازن النفسي بين الواقع المرير المكدود في ظل نظم الأستبداد والظلم و الأضطهاد القومي وبين ما تصبو اليه الارواح والنفوس من حياة حرة كريمة , وهي تعكس - أي الملاحم- بكل عمق وصدق حياة الشعب الكردي وخصائصه القومية ونضاله التحرري.
أن ابطال هذه الملاحم هم من الفلاحين والرعاة والصيادين الذين اكتسبوا شعبية واسعة بين الجماهير العريضة بفضل تعبيرهم عن الوجدان الشعبي وتجسيدهم للقيم والمثل العليا النبيلة للشعب الكردي وتطلعاته وآماله , وقد أسبغ عليهم الشعب الصفات الايجابية مثل البطولة والشجاعة والاخلاص والتضحية والفداء والكبرياء , وعلى النقيض من ذلك نجد الاعداء والاشرار محل أزدراء وسخرية لاذعة , وتحتل المرأة الكردية ( الأم , الأخت , الحبيبة) مكانة متميزة في الملاحم الكردية فهي ذكية وحكيمة وباسلة تقف الى جنب الرجل دائما وخاصة في الشدائد والملمات ، وحين تحس بالظلم أو الاضطهاد تتحول الى لبوة في الدفاع عن نفسها وأهلها وعشيرتها " كاروكلك " وهي عزيزة النفس وذات كبرياء وأرادة قوية .
أسماء بطلات هذه الملاحم الى جانب أسماء ابطالها أصبحت عناوين لها " مم وزين " ، " خجي وسيابند " , " مم وايشى " وغيرها .
بطلات هذه الملاحم رموز حية للنضال من أجل المساواة والعدل والمحبة وللاحتجاج الصارخ ضد التزمت الأجتماعى والعادات البالية .
الملاحم الكردية تجسد القيم النبيلة والمثل السامية للشعب الكردي , قيم الرجولة والشجاعة والاقدام والدفاع عن الارض والكرامة والحرية , كما انها تعكس تقاليده الأيجابية العريقة مثل تكريم الضيف والدفاع عن المظلوم واحترام المرأة .
وما أحوجنا اليوم الى استيعاب هذه القيم والمثل العظيمة واستلهام العبر والدروس منها وترجمتها الى الواقع العملي لتكون حياتنا الجديدة المشرقة وثقافتنا المعاصرة امتداداً طبيعيا لتاريخنا العريق , وهنا تكمن قيمة وأهمية العمل الجليل الذي أنجزته النخبة الواعية من كرد ما وراء القفقاس قبل خمسين عاماً و بأمكانيات متواضعة و لكن بهمة عالية و اخلاص لا حدود له .
لقد سبق لنا فى دراسات سابقة عديدة و منشورة ، أن ناشدنا وزارة الثقافة و الأكاديمية الكردية فى أقليم كردستان ، أن تحذو حذو النخبة المثقفة الواعية من كرد ما وراء القفقاس ، فالزمن لا يرحم ، و فى كل يوم جديد يختفى من الوجود جزء من التراث الشفاهى الذى أبدعته الأجيال الكردية المتعاقبة ، خاصة و نحن نعيش فى عصر الثورة الرقمية و لم يعد هناك فى واقع الأمر رواة كثيرون للحكايات و الملاحم الشعبية أو من يهتم بتسجيلها . و هذا أمر مؤسف ، لأن تراث أية أمة ركن مهم و أساسى من أركان هويتها القومية . و من واجب المؤسسات العلمية و الثقافية فى الأقليم أيلاء هذا الأمر الأهتمام الذى يستحقه ، لكى لا نكون سببا فى ضياع جزْ لا يستهان به
من أثمن ما نملك من رصيد أبداعى و ثقافى .
-----------------------------------
ملاحظة : سبق لنا تسجيل و تحليل هذه الملحمة الخالدة و نشرها في صحيفة " خبات " الغراء سنة 1999 ، ثم ضمن كتابنا " ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ " الصادر في أربيل سنة 2011
------------------------------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
لقد شرعت تلك النخبة الرائدة بجمع النصوص الفولكلورية لأفضل نماذج الادب الشعبي الكوردي منذ العشرينيات من هذا القرن وحققت انجازات باهرة في هذا المجال , وكانت ثمرة جهودها الدؤوبة على مدى عشرات السنين عدة كتب ومجاميع فولكلورية كردية صدرت في اوقات مختلفة في يريفان وبطرسبورغ وموسكو باللغات الكردية والارمنية والروسية , ولعل أهم هذه الكتب على الاطلاق كتاب " الحكايات الملحمية الكوردية المغناة " الصادرعن دار نشر الاداب الشرقية في موسكو في عام (1962 ) برعاية معهد الادب العالمي في موسكو ومعهد الادب في يريفان .
وقد رحبت الأوساط الثقافية بهذا الكتاب وأعتبر العلامة " قناتي كوردو " صدوره حدثا مشهودا , ويضم الكتاب النصوص الفولكلورية لأشهر وأهم الحكايات الملحمية الكوردية المغناة مع ترجمتها الى اللغة الروسية ومقدمة ضافية وقيمة للعلامة الراحل " حاجي جندي " وهوامش وتعليقات مفيدة , هذه الملاحم هي ( مم وايشى , زنبيل فروش , ليلى ومجنون , مم وزين ,دمدم , سيدا وئاجى ,خجى وسيابند ,كاروكللك ) وقد تم تدوين النصوص الفولكلورية الكردية لهذه الملاحم في فترات مختلفة بين الاعوام (1931- 1955 ) من قبل " حاجى جندى , قناتى كوردو , عرب شمو ,تسوكرمان " , وذلك عن لسان عدد من الرواة الكرد القاطنين في المناطق الكردية من ارمينيا وجورجيا . وكان هؤلاء الرواة من المسنين الذين حباهم الله بالموهبة والذاكرة القوية والصوت الشجي في معظم الاحيان ، حيث أن هذه الملاحم – وهي قصص شعرية قد يتخلل بعضها مقاطع نثرية متفرقة – كانت تنشد في المجالس والمناسبات والاعياد بمصاحبة الالات الموسيقية , والحان هذه الملاحم رائعة وقد قام الموسيقار الارمني البارز " كوميتاس " بتدوينها ونشرها .
والحكايات الملحمية الكردية ذات مضامين بطولية وعاطفية وتتجسد فيها الروح الرومانسية وتستند الى وقائع وحوادث تاريخية وابطال حقيقيين لعبوا أدوارا مهمة في تاريخ الشعب الكردي وفي مقدمة هذه الحكايات الملحمية , ملحمة " دمدم " التي تصور بطولة الكرد في الدفاع عن القلعة المشهورة بهذا الاسم ضد قوات الشاه عباس*.
هذه الملاحم وصلت الينا من أعماق التاريخ عبر اجيال عديدة وخضعت لبعض التحويرأحياناً وللحذف والاضافة في احيان اخرى , وتم تكييفها لتلائم الوجدان الشعبي وتخلق نوعا من التوازن النفسي بين الواقع المرير المكدود في ظل نظم الأستبداد والظلم و الأضطهاد القومي وبين ما تصبو اليه الارواح والنفوس من حياة حرة كريمة , وهي تعكس - أي الملاحم- بكل عمق وصدق حياة الشعب الكردي وخصائصه القومية ونضاله التحرري.
أن ابطال هذه الملاحم هم من الفلاحين والرعاة والصيادين الذين اكتسبوا شعبية واسعة بين الجماهير العريضة بفضل تعبيرهم عن الوجدان الشعبي وتجسيدهم للقيم والمثل العليا النبيلة للشعب الكردي وتطلعاته وآماله , وقد أسبغ عليهم الشعب الصفات الايجابية مثل البطولة والشجاعة والاخلاص والتضحية والفداء والكبرياء , وعلى النقيض من ذلك نجد الاعداء والاشرار محل أزدراء وسخرية لاذعة , وتحتل المرأة الكردية ( الأم , الأخت , الحبيبة) مكانة متميزة في الملاحم الكردية فهي ذكية وحكيمة وباسلة تقف الى جنب الرجل دائما وخاصة في الشدائد والملمات ، وحين تحس بالظلم أو الاضطهاد تتحول الى لبوة في الدفاع عن نفسها وأهلها وعشيرتها " كاروكلك " وهي عزيزة النفس وذات كبرياء وأرادة قوية .
أسماء بطلات هذه الملاحم الى جانب أسماء ابطالها أصبحت عناوين لها " مم وزين " ، " خجي وسيابند " , " مم وايشى " وغيرها .
بطلات هذه الملاحم رموز حية للنضال من أجل المساواة والعدل والمحبة وللاحتجاج الصارخ ضد التزمت الأجتماعى والعادات البالية .
الملاحم الكردية تجسد القيم النبيلة والمثل السامية للشعب الكردي , قيم الرجولة والشجاعة والاقدام والدفاع عن الارض والكرامة والحرية , كما انها تعكس تقاليده الأيجابية العريقة مثل تكريم الضيف والدفاع عن المظلوم واحترام المرأة .
وما أحوجنا اليوم الى استيعاب هذه القيم والمثل العظيمة واستلهام العبر والدروس منها وترجمتها الى الواقع العملي لتكون حياتنا الجديدة المشرقة وثقافتنا المعاصرة امتداداً طبيعيا لتاريخنا العريق , وهنا تكمن قيمة وأهمية العمل الجليل الذي أنجزته النخبة الواعية من كرد ما وراء القفقاس قبل خمسين عاماً و بأمكانيات متواضعة و لكن بهمة عالية و اخلاص لا حدود له .
لقد سبق لنا فى دراسات سابقة عديدة و منشورة ، أن ناشدنا وزارة الثقافة و الأكاديمية الكردية فى أقليم كردستان ، أن تحذو حذو النخبة المثقفة الواعية من كرد ما وراء القفقاس ، فالزمن لا يرحم ، و فى كل يوم جديد يختفى من الوجود جزء من التراث الشفاهى الذى أبدعته الأجيال الكردية المتعاقبة ، خاصة و نحن نعيش فى عصر الثورة الرقمية و لم يعد هناك فى واقع الأمر رواة كثيرون للحكايات و الملاحم الشعبية أو من يهتم بتسجيلها . و هذا أمر مؤسف ، لأن تراث أية أمة ركن مهم و أساسى من أركان هويتها القومية . و من واجب المؤسسات العلمية و الثقافية فى الأقليم أيلاء هذا الأمر الأهتمام الذى يستحقه ، لكى لا نكون سببا فى ضياع جزْ لا يستهان به
من أثمن ما نملك من رصيد أبداعى و ثقافى .
-----------------------------------
ملاحظة : سبق لنا تسجيل و تحليل هذه الملحمة الخالدة و نشرها في صحيفة " خبات " الغراء سنة 1999 ، ثم ضمن كتابنا " ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ " الصادر في أربيل سنة 2011
------------------------------------
جودت هوشيار
jawhoshyar@yahoo.com
0 comments:
إرسال تعليق