أعيدوا النظر في مفهومكم للثورة/ عبد العالي غالي

عاتبني صديقي وهو يماشيني بعد أن تذكر أنني كاتب "إخوان ربيع الناتو العربي" و"ثورة ترعى في وطن الربيع" ثم "إفرازات وصناديق اقتراع" و"سعار اردوغاني" وهلم خربشات لخصها في كوني ممن يهوون السباحة ضد التيار هوسا. بل وتجرأ ووصفني بالعدمي الذي يحيا ويموت وسط نظرية المؤامرة دون أن يحقق ولو توازنا بسيطا بين فكره وعاطفته... ثم عرج يحدثني عن صحوة إسلامية وعن أن النهضة وليدة مجهودات رجال صدقوا الله ما وعدوا... ليختم سمفونيته المشروخة ناصحا إياي بالإيمان بالقوى الخارقة للشعوب التي أرادت الحياة فاستجاب القدر... وان التغيير قد يأتيكم بغتة وأنتم تنظرون... وحتى يحشرني في الزاوية تبلد وسألني إن كنت لا أومن بأن الله على كل شيء قدير؟!!...
هنا أدركت أني أمام فكر يعتبر الصمت علامة الرضا. فقررت أن أبدد بعضا من طاقة الاختلاف التي كثيرا ما كنت من أشد المنادين بالمحافظة عليها...
انك نسيت يا عزيزي هذه المرة أن الثورة مشروع علمي دقيق، له قوانينه وشروطه وأسسه ووسائله... فكيف بنا نريد أجرأة مشروع علمي بتنظيمات ما ورائية مخترقة تتوسل نعيما مستقبليا بتراث لم نجرأ بعد على تنقيحه وتصحيحه وغربلتة، وكلنا يعلم ظروف تدوينه والحيثيات السياسية التي فرضته والتي يمكن تلخيصها في رغبات النافذين منذ حروب الردة حتى الفتنة الكبرى إلى عصور السبات فالاستعمار... وضع أصبحنا معه في تطابق مع حال ذاك الذي خرج يطلب ما يسد به رمقه ورمق أصدقائه بنقود صارت مهملة نسية منسية منذ أمد طويل كما في قصة أهل الكهف(…) أو نستطيع بهكذا فكر يا عزيزي، أن نتحدث عن ثورة مهما وسمناها باليمن والبركات؟ 
حقا إن ما يؤسفني ويحز في نفسي هو النظرة السطحية للأمور، وانعدام التفكير وغياب التحليل عند كثير من المتابعين للتغيرات التي باتت تعصف بنصف بلدان الكرة الأرضية. ولعل أخطر ما يظهر في مرحلة من مراحل التاريخ، وخاصة مرحلة التحول أو الإخفاق، هو تلبيس قيم الاستعباد بأقنعة التحرر...
لقد أصبح الحديث عن الثورة في زمن "الربيع العربي" باعثا على الريبة والنفور، خصوصا عندما نرى فئات كانت تدعي العمل لأجلها، على طول السجن العربي، وقد بدت كل مواقفها لا تفهم إلا وفق مفهومي التراجع والنكوص(…) بعد أن اندمجت هذه الفئات، أو تسعى للاندماج، في الآلة الامبريالية... وهاهو مفعول الذاكرة ينكشف هنا، ثم هاهو الجاهز والمستبد والمغلق يتعرى...
ألا تعلم يا صديقي ألا تحرر خارج رؤية مغايرة للإنسان، وأن من يريد أن يجبرنا على أن نرى الأحداث على طول بساط الوطن العربي "ثورة"، إنما يمارس علينا قمعا ممنهجا ويسعى ليتجاوز كوننا مقموعين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ليقمعنا في مخيلتنا وجسدنا أيضا. ولا أسوأ على الشعوب، فيما أعتقد، من نظام اجتماعي سلطوي يدعى تحرير الإنسان، وهو لا يؤمن أن التحرر إما أن يكون فعلا شموليا في نموه أو لا يكون...
لعن الله زمنا صار فيه الواقع مجرد دعاية إعلامية، ضاع الحق بين جنبات الباطل وعميت العيون فصارت لا ترى إلا ما تجدر في لا وعي صاحبها المريض(...) إذ اختلطت الثورة بالمؤامرة وصارت المفاهيم العميقة عقيمة إذ تشرح وتفصل في برنامج طفولي لقاسم الجزيرة، كما وصارت المواقف الإستراتيجية تتخذ بناء على فتاوى عرعور الصفا وقرضاوي الدولار وعائض "لا تيأس"(...) والغريب أن كثيرين يعتقدون أنهم سيصنعون لأنفسهم بذلك قاعدة من الأفكار تخول لهم الحكم على الأمور.
لا يمكننا يا عزيزي معرفة الفرق بين الثورة والمؤامرة، دون وعي تاريخي. ففي عز الثورة العربية الكبرى مطلع القرن العشرين، حضي الشريف حسين بالدعم الغربي للثورة على العثمانيين، ونسقت المعارضات السورية واللبنانية مع السفير الفرنسي "بيكو" لتحرير بلادهم... ليكتشفوا بعد سنوات قليلة مؤامرة "سايكس بيكو" التي اقتسمت فيها فرنسا وبريطانيا المناطق العربية، تلاها بعد سنة واحدة وعد بلفور... ولكن من أين لهم الوعي التاريخي وقد حولوا التاريخ بسخرية غبية إلى أرشيف تسحب منه سيناريوهات مسلسلات لن تتجاوز الملفات الجنائية للحجاج بن يوسف الثقفي وملفات العدل والتقوى لعمر بن عبد العزيز.
لقد أسست ثورات ما يسمى الربيع العربي لثقافة "الراعي الكذاب" في السياسة، إذ أنها دمرت أي إمكانية للثقة بثورة مهما كانت وطنية... فقد كذب "إخوان الربيع" في كل شيء واستجاروا باللصوص والمرتزقة وتجار الأسلحة وبكل مخابرات الدنيا، وبالفقهاء الثعالب وأمراء البترودولار من أجل كرسي الحكم، ومن أجل ثأر شخصي في غالب الأحيان ... وحتما سيسجل لهم التاريخ أنهم من أجهز ببلادة على المفهوم المقدس للثورة. ولست استغرب فعلهم إذ أعلم أن أحزابهم ولدت كنتيجة لترتيب الامبريالية للشرق الأوسط الجديد، وبالتالي فهي مرتبطة بألف خيط من خيوط تلك الامبريالية. فلطالما كانت هذه الأحزاب وليدة الخريطة الجيوبوليتيكية التي وضعتها الامبريالية، نمت على أرضية التفتيت والتقسيم، وبقي نموها مشروطا بتعميق التجزئة. وهذا ما تفسره حكومة الإنقاذ الإسلامية في السودان والمحاكم الإسلامية في الصومال وطالبان افغانستان وباكستان، والحبل على تونس وليبيا ومصر... فما أن يتسلموا الحكم حتى نراهم وقد تقدموا بطلبات قروض من البنك الدولي، وانتهجوا بشكل غير معلن سياسة "التقويم الهيكلي" التي خبرناها وعرفنا نتائجها... وهذا اكبر دليل على أن التركيب البنيوي لهذه الأحزاب لا يعكس تماما المصالح الحقيقية للجماهير الشعبية. فقيام العلاقات الديمقراطية بين الناس، وبناء مجتمع حر عادل تتحقق فيه المساواة الحقيقية بين الناس، وتكافؤ الفرص، والقضاء على كل شروط الاستغلال والتمايز... كل ذلك لم يكن الهم الحقيقي لتلك القوى، بقدر ما كان إزاحة القوى القديمة والحلول محلها.
وهنا يحضرني بيت لشاعر النيل... كثيرا ما يستدل به من هم على شاكلة صديقي هذا، وفيه يقول:

وقف الخلق ينظرون جميعا  
كيف أبني قواعد المجد وحـــــدي

وفيه يبين حافظ ابراهيم بفكر ثاقب أن قواعد المجد تبنى بمقومات ذاتية وبقوة دفع ذاتية، وإلا فمرحبا بالمجد الكاذب الذي لا يعدو أن يكون فلكلورا يصلح لتلهية بعض الوقت أمام شاشات الفظاعيات كما هو الحال في ثورات "الربيع العربي" البلهاء. فالأمنية الوحيدة هي أن تملك كل أرض أحلامها... والأمل الوحيد هو أن تصبح الثورات صناعة محلية... فبناء قواعد المجد لا يكون بأمراء يستمدون كل شرعيتهم من زيت الغاز ورضا المؤسسات المالية العالمية، ولا بفقهاء مفتين صنع منهم إعلام البترودولار نجوما يضاهون نجوم هوليود وينافسونهم في أعداد المعجبين.
إن الانتكاسات ليست ناتجة عن خطأ مبدأ الثورة، ولكنها حصيلة مفهومها وطبيعة ممارستها عند من يدعون اليوم أنهم أهلها...

المغرب

CONVERSATION

0 comments: