باكستان وإيران وبينهما الخليج/ د. عبدالله المدني

على ضؤ ما تواتر من أنباء حول وجود تقارب إيراني – باكستاني عسكري وسياسي وإقتصادي متنام حول النفط، وأفغانستان، والأوضاع في المنطقة، وما قيل عن تدخل الرياض للجم إسلام آباد عن المضي قدما في هذا السبيل المحفوف بالمخاطر، فكان أن تأجلت زيارة مقررة للرئيس الباكستاني إلى طهران في أواخر العام الماضي للتوقيع على مشروع لمد خط انابيب الغاز بين ايران وباكستان، كاتبني أحد القراء متسائلا عما يدعو باكستان للقيام بذلك في هذه الفترة المضطربة من عمر المنطقة، رغم كل ما يربطها بدول الخليج العربية – ولاسيما المملكة العربية السعودية – من علاقات ودية ومصالح إستراتيجية، ناهيك عما قدمته لها هذه الدول على مدى عقود طويلة من مساعدات ومنح وهبات ونفوط مجانية لم تحصل عليها أي دولة أخرى. ويتساءل القاريء عما اذا كان للأمر علاقة بتنامي العلاقات الخليجية الهندية في السنوات الأخيرة من بعد عقود من الهواجس والشكوك المتبادلة خلال حقبة الحرب الباردة، أو صلة بتردي العلاقات ما بين اسلام آباد وواشنطون على خلفية إتهام الثانية لإستخبارات الأولى بالوقوف خلف أعمال الإرهاب في أفغانستان؟
إن الحقيقة الماثلة للعيان والتي يعرفها كل متابع لسياسات باكستان الخارجية وعلاقاتها مع الأقطاب الدولية والإقليمية هي أن هذه السياسات متذبذبة لا تستقر على حال، كتذبذب الأنظمة الباكستانية المتعاقبة ما بين العسكري والمدني، والشكلين الرئاسي والبرلماني. بل يمكن القول أن تذبذبها وإفتقادها لبوصلة واضحة ليس سوى إنعكاس لتخبط أنظمتها التي فشلت في تحقيق بناء إقتصاد متين، أو نهضة صناعية جبارة، أو إكتفاء ذاتي يغنيها عن الاعتماد على المعونات الخارجية.
لقد كانت الآمال عريضة يوم أن ولدت باكستان ككيان إسلامي مستقل في عام 1947 بأنها ستقدم نموذجا للآخرين في الديمقراطية والإستقرار والتنمية والنهضة العلمية. لكن سرعان ما تبخرت تلك الآمال تحت وطأة الإنقلابات العسكرية المتتالية، وفساد صناع القرار، والتمييز الجهوي والقبلي والاثني، وغياب الرؤى التنموية الواضحة. هذا ناهيك عن تجيير بعض الأنظمة التي حكمت باكستان لموارد البلاد الضعيفة أصلا في التسلح. كما لا ننسى في هذا السياق عجرفة بعض قادة باكستان العسكريين وساستها المدنيين حيال مطالب وتظلمات مواطني البلاد من البنغال، والتي أفضت في النهاية إلى إنسلاخ جناحها الشرقي في كيان مستقل تحت إسم "بنغلاديش" ليصبح الكيان الذي أسسه "القائد الأعظم" محمد علي جناح أصغر حجما وأقل موارد، بل عاجزا عن الإدعاء بأنه الممثل الوحيد لغالبية مسلمي شبه القارة الهندية، كما لا ننسى الدور السيء لجهاز المخابرات الباكستاني في التدخل في الشئون الداخلية لبعض الدول المجاورة (أفغانستان والهند تحديدا)، وإحتضان وتدريب جماعاتها المتمردة لإستخدامها وقت الحاجة.
ولأن باكستان عجزت عن صنع اقتصاد يوفر لشعبها الحد الادنى من الرفاهية ويغنيها عن التسول، وديمقراطية راسخة قوية يُحاسب فيها صانع القرار على أخطائه وسياساته، فإن سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية قامت منذ البداية على إستراتيجية الحيلولة دون سقوطها كدولة او تصنيفها كدولة فاشلة، عبر الاقتتات على المعونات الإقتصادية والعسكرية الأجنبية من أي مصدر. ولتحقيق هذا الهدف، فإنها لجأت إلى وسائل أشبه ما تكون بالمتواليات ومنها:
أولا: تضخيم فكرة التهديد الهندي لها، من اجل الظهور أمام دول العالمين العربي والإسلامي كحمل مسلم وديع لا يملك ما يواجه به الذئب الهندي الكافر المفترس.
ثانيا: إستغلال ظروف الحرب الباردة للإنخراط في الأحلاف العسكرية الغربية المضادة للمعسكر الشرقي كحلفي  بغداد والسيتو في الخمسينات والستينات.
ثالثا: تحويل أراضيها المتاخمة لأفغانستان إلى جبهة ضد السوفييت، ومأوى للمجاهدين الأفغان وأنصارهم من العرب والقوى المتشددة من كافة أصقاع العالم، دونما إكتراث بتداعيات مثل هذا العمل على نسيجها الاجتماعي وأمنها الداخلي، الأمر الذي أثمر عن إنتشار ثقافة الكلاشنكوف في باكستان، وأفرز مختلف أشكال التطرف الديني وصولا إلى ظهور حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
ثالثا: تقديم نفسها أمام الدول العربية المحافظة – ولاسيما دول الخليج العربية – كقوة يمكن الإعتماد عليها في الحماية من المدين القومي واليساري أولا، وتهديدات الخميني وصدام لاحقا. ودليلنا هو ما ابداه الجنرال ضياء الحق وخلفائه في تصريحات ومقابلات منشورة من جاهزية قواتهم للعب دور شرطي الخليج (بمقابل طبعا).
رابعا: إستغلال هوس بعض الأنظمة العربية الراديكالية – مثل نظام معمر القذافي في ليبيا – بإمتلاك القدرات النووية في جني المزيد من المساعدات المالية تحت يافطة صنع القنبلة الإسلامية القادرة على تحرير القدس وفلسطين، وذلك على نحو ما فعله "ذوالفقار علي بوتو" إبتداء. وبذلك فإن صانع القرار الباكستاني كان، في الوقت الذي يضع فيه قدما عند الأنظمة العربية المحافظة، يضع القدم الأخرى عند خصومها. وقد قام ضياء الحق بذلك ايضا حينما غازل نظام الخميني (المتناقض مع نظامه) من أجل النفط ودعم الجهاد ضد السوفييت في الوقت الذي كان يتلقى فيه المساعدات السخية من دول مجلس التعاون.
رابعا: تقدُم الصفوف في الحرب الدولية على الإرهاب بقيادة واشنطون(بمجرد إعلانها)، بما فيه إرهاب حركة طالبان التي هي من أسستها ودعمتها لأغراضها الخاصة.
خامسا: المراهنة على العداء الصيني – الهندي من اجل كسب بكين إلى جانبها سياسيا وإقتصاديا وعسكريا. وقد بدأت هذه المراهنة مبكرا، أثناء إحتدام الخلاف الإيديولوجي ما بين حلفاء باكستان في الغرب والشرق الأوسط من جهة والصين الماوية من جهة أخرى. ومن المهم هنا الإشارة إلى موقف باكستاني آخر ينم عن الإزدواجية الفاضحة ألا وهو قبول حكومة الماريشال أيوب خان في 1963، بتخطيط من وزير الخارجية آنذاك "ذوالفقار بوتو" بالتنازل عن مساحات شاسعة من أراضي كشمير الباكستانية للصين مقابل موافقة الأخيرة على عملية ترسيم الحدود البينية ومساندة باكستان عسكريا في صراعها مع الهند. وتعتبر الصين العامل الوحيد الثابت في سياسات باكستان الخارجية حتى الآن، بدليل موافقة إسلام آباد على منحها قواعد عسكرية، وفرصا إستثمارية في قطاع تكرير النفط وشحنه في إقليم بلوتشستان المطل على بحر العرب.
والحال أن دولة بهكذا سياسات متلونة، ومستعدة لدق كل الابواب من اجل مصالح آنية ضيقة، وتفعل في الليل الدامس ما تحاربه في النهار، لا يـُسـْـتبعد أن تتجاوز تحفظات حلفائها التقليديين في المنطقة فيما خص تعاونها النفطي والعسكري مع النظام الإيراني المشاغب، فتمضي قدما في عقد صفقات الغاز مع طهران وصفقات أخرى خاصة بمنح الأخيرة قواعد عسكرية على الساحل الباكستاني المطلة على بحر عــُمان ، طبقا لما أعلنه مؤخرا قائد البحرية الإيراني "حبيب الله سياري"
إن على دول الخليج العربية مجتمعة أن تحزم أمرها وتغير قواعد وأساليب التعاون مع الآخر بحسب مواقفه من الأنظمة والجماعات التي تهدد امنها ووجودها واستقرارها الداخلي، سواء أكان هذا الآخر قوة إقليمية كباكستان، أو قوة عالمية كالصين، أو قوة عظمى كالولايات المتحدة وبريطانيا، أول بلدا عربيا خاضعا للنفوذ الإيراني كالعراق ولبنان.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: فبراير 2013
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh

CONVERSATION

0 comments: