أصحاب العضلات، الديوك المذعورة: عندما يتعطّل "الهيد" يشتغل " البودي"/ ماهر الخير


زارني صديق في دارتي في كانبيرا، وجلسنا في الحديقة الغنَّاء، نشربُ كوبين من عصير العنب الأحمر عل وقع نافورة الماء المترقرق في البركة الصغيرة الزرقاء. كانت بعضُ ملامحُ الإستياء وعدمِ الرضى باديةً على وجهه، فسألته عن حالته، أجاب مستنفراً:

هذا المجتمع الذي أصبحت تسوده القصافة والبلاهة... تصوّر أنه لم يعد هناك من يجيد التكلم والتحاور ويقدّر القيمَ الأخلاقية النبيلة السَّامية من طيبةٍ وتواضعٍ وسلاسة وصدق وصداقةٍ ومساعدة المحتاج ونُصرة الضعيف...

تصوَّر أن كل هذه المزايا النبيلة الراقية والتى أوصت بها جميع الديانات وحكم الإنسانية قد أصبحت قِيَمَاً لا قيمة لها...

تصوَّر أنّ الناس لم تعد تفرّق بين التواضع والتسامح والشفاعة وبين الضعف والغباوة والسذاجة، فمن يمدُّ يدََه ليسلم ويساعد ويتودَّد ببشاشة وشفافية ورقيّ وسموّ مترفعِّاً فوق الألقاب والمظاهر الخدّاعة، يعتبرونه إنساناً ضعيفاً مغلوباً عليه...وكأنَّ الهيبة ما عادت لتكون إلا في الشخص اللئيم النمرود، فهو مثالاً أعلى للوقار أصبحوا يحتذون به.

فقاطعته قائلاً: لا يجبُ أن تعمِّم، فهناك كثيرون أيضاً يتحلون بالثقافة الفكرية والروحية ويعرفون جيداً كيف يميّزون ويقدّرون صاحبَ الروح الكريمة والخيِّرة . فلا أعتقدُ أن كريمَ الأخلاق لا يستطيع أن يرى بعينه وإحساسِه الفِطري أوالمكتسب من خلال تربيةٍ صالحة وواعية، أن هذا الشخص الهادىء الرصين المسالم الشفّاف يتصرّف بهذه الطريقة الإنسانية الحضارية المؤدَّبة نتيجة وعيٍ وتحضُّر وتربية أخلاقية رفيعة وجهد تثقيفي جادّ دؤوبٍ وعميق.

إن الكريم يقدّر ويفهم أعمال الكرم، والشريف يفهم أفعال الكرامة والشرف، وإن " الأزعر" لا يرى الآخر إلا من من خلال سلوكه السوقيّ الرخيص فيصعبُ عليه فهمُ تصرفات وأعمال" الآدمي"، لأن العالم بالنسبة إليه ليس إلا كفَّاً تبطش، وصيحةً همجيّة تصمُّ الآذان، وتكبّر متعجرف. وهذا ما يفهمونه من الرجولة ومن الحياة، ويا لها من رجولةٍ جوفاء، وحياةٍ هامشية بلا جوهرٍ ومعنى... للأسف أنهم لا يرتكزون إلى أي خلفية ثقافية تساندهم، فلا يفقهون أخلاقيات المعاملة الحسنة، وأنه لو كنت غليظاً لأزاحوا عنك، وأنه حتى في الضعف تكمن قوة، فهم حسبما يبدو ما سمعوا أبداً بتلك الأقوال الحكيمة، ولا يملكون حججاً علمية وفكرية تمكّنهم من التواصل بإنسيابية أدبية مهذبة مع الآخرين، إن كلَّ ما يملكونه هو العنف والتعنيف ويستثمرون ذلك لتغطيةِ مركّبات النقص والعقد النفسية من جهل وجهالة وظلام وانحطاط وانحلال وهشاشة، ممَّا جعل شخصيتهم مهتزة .

فأردف قائلاً: أنت على حق، فالذين عنيتهم، يبدون ضائعين بين مجتمعين ولغتين وثقافتين، ولم يكملوا تعيليمهم ليصبحوا قادرين على إستيعاب العالم بأدبياته العميقة وتركيباته المختلفة

وتفرّعاته المنوّعة، فعجزوا عن التمازج والتأقلم مع هذا الجوالفسيح، وبالتالي التصالح مع أنفسهم ثم مع الناس، فأصبحوا يتصرّفون بعداوة محاولين فرض أنفسهم بالقوة والغطرسة. مساكين، لربما هذا كل ما لديهم، ولجهلهم فقد فشخوا فوق القيم الحضارية الجوهرية الأساسية، وتلهّوا بالقشور مختارين أسوأ العادات والسلوكيات من كلا الثقافتين، فنفشوا عضلاتهم ونفشوا رؤوسَهم كالديوك المذعورة ...

ويبدو فعلاً أنه عندما يتعطّل "الهيد" يشتغل" البودي".

CONVERSATION

0 comments: