لقد كتب في أدبنا القديم سلسلة من المؤلفات- منها الرسائل والأشعار والقطع والكتب- تدور حول أصحاب المهن في الإسلام. ومعظم ما كتب هو عبارة عن روايات تدور على لسان أصحاب المهن, , وأحيانا روايات من آخرين عليهم (1). وهذه الروايات كانت تُقصّ بحضور الكاتب أو بحضور جمهور القراء, وأحيانا جمهور السامعين, لأن معظمها يُروى شفاها على مسمع من كثيرين في بلاط الملوك والأمراء, أو في أماكن أخرى.
لقد تطورت هذه الكتب أكثر فيما بعد لدرجة أنّها ضمت السامعين وأدخلتهم داخل إطار القصة نفسها. كان الضم يقع صدفة وذلك بتغيير خلفية هذه القصص وإدخال شخصية الخليفة هارون الرشيد لهذه الخلفية. هذا الإدخال كان سلبيا في البداية ثم تحوّل إلى المشاركة الفعالة فيما بعد (2).
لقد كان الهدف من كل هذا اللون من ألوان القصص الساذج (غير الفنّيّ), إضحاك السامعين, وهذا الضحك كان يتم نتيجة اختلافات واضحة بين مستويات معينة.
1. بواسطة عدم الملاءمة بين عناصر معينة, أي بواسطة مزج عنصرين دون ملاءمة منطقية بينهما, بحيث أننا نتوقع في القصة أحيانا سلسلة جمل منطقية, وإذا بالكاتب وفجأة يدخل سلسلة جمل أخرى بعيدة عن المنطق كليّا, ولا يمكن ملاءمتها مع سابقيها.
2. بواسطة القيام بانسجام بين مستويين, لأسباب تتعلق بالمقبول عند القراء في العصر العباسي وما بعده, كانسجام جيد ولأسباب متعلقة بعلاج مثل هذه الأمور, فترتبط هذه العناصر مختلفة الخلفية وذات المستويات المختلفة في قطع أدبية هي عبارة عن أسلوب أدبي جميل, وأحيانا رفيع إما شعرا أو نثرا.
ولا عجب, إذا ما رأينا أن ما يخلق روح الفكاهة في أدب كهذا هو اختلاف الطبقات الاجتماعية في تلك العصور, فبواسطة إيراد شخصية من مستوى عال من المستويات الاجتماعية المتعارف عليها آنذاك مع شخصية اقل منها درجة وربما شخصية من فئات محتقرة إسلاميا واجتماعيا ينتج عندنا ما يضحك جمهور القراء أو السامعين.
وأحيانا نجد أن اختيار الكاتب لمستوى أدبي معين ومزجه بمستوى أدبي محتقر يستخدمه رجال الأدب واللغة يخلق أيضا طرفا مضحكة, كمزج الشعر العربي والكلاسيكي الارستقراطي مع لغة المحدثين في العصر العباسي, أو كمزج اللغة العربية الفصيحة مع لغة أعجمية, سواء أكان هذا المزج شعرا أم نثرا.
إن ما نود القيام به في هذا المقال المتواضع هو فحص هذه النماذج حسب ما أوردنا, وتحليل العناصر التي من الممكن أن تؤدي بالتالي إلى إضحاك جمهور القراء, وهذه العناصر التي تولد الضحك- كما أوردنا سابقا- تقوم على عنصر التضاد, تضاد اجتماعي, أو لغوي, أو أدبي...
أن أول من برع في هذا اللون كان الجاحظ- شيخ النثر الفنيّ عند العرب إطلاقا- في رسالته عن أصحاب المهن (3), ولكن أتى بعده الكثير من الأدباء الذين ساروا على نفس الطريق مقتفين أثره كالحصري, والنمري, والثعالبي (4).
لقد أتحفنا الجاحظ في رسالته المذكورة, بمجموعة من القطع الأدبية رغم أنه جمعها عبر مطالبته كل صاحب مهنة بقطعة شعرية غزلية يصف فيها حبه وألمه ومعاناته من هجر الحبيبة.
وماذا نقرأ بالتالي على لسان أصحاب المهن؟ (تجدر الإشارة هنا إلى أن الجاحظ نفسه هو الناظم), نحن نقرأ قطعة شعرية غزلية جميلة ولكن عماد وصفها يقوم على قاموس أصحاب المهن اللغوي, بحيث أن كلا منهم استعمل كلمات تصف محبوبته وفراقها له مأخوذة من مصطلحات مهنته أو من أدواته المستعملة.
وماذا يضحكنا هنا؟
يضحكنا هذا المزج الرائع بين موضوع شعري كلاسيكي تجله العرب وتحترمه كموضوع الحب الذي وقف عليه معظم شعراء العربية- وبين أنواع من الأدوات والمواد الحياتية اليومية.
أشياء يومية, وأدوات حرفية معينة ينفر منها الذوق الأدبي تستعمل لوصف أرفع المواضيع المتعلقة بأرفع العواطف- الحب والفراق- هذا المزج الذي يبعث فينا الضحك.
أمثلة على ذلك (5):
سئل بختيشوع عن أشعر الشعراء فقال, الذي يقول:
أحمد قال لي ولم يدرِ ما بي
أتحبّ الغداة عتبةَ حقا
فتنفستُ ثمّ قُلْتُ نعم حبا
جرى في العروق عرقا فعرقا
لو تجسّين يا حبيبة روحي
لوجدت الفؤاد قرحا تفقّا
يعلّق الثعالبي على هذا بقوله:
وانما صار عند أشعر الناس لذكر العروق والجس والقرح.
ويورد الثعالبي مثلا آخر, فيقول (6):
وأنشدني البستي لنفسه:
إن الجهول تضرني أخلاقه
ضرر االسعال بمن به استسقاءُ
ويذكر الثعالبي أبياتا أخرى فيقول (7):
كما يكتسي المرء خزّ الثياب
ومن تحتها حالة مضنية
ويحدثنا الجاحظ في رسالته "صناعات القواد" فيقول في هذا الخصوص(8): وذلك أني لقيت جزّاما- وهو صاحب خيل- حين قدم أمير المؤمنين من بلاد الروم, فسألته عن الحرب كيف كانت هناك؟ فقال: لقيناهم في مقدار صحن الإصطبل, فما كان بقدر يحس الرجل دابته حتى تركناهم في أضيق ممرغة, وقتلناهم فجعلناهم كأنهم أنابير سرجين .
فلو طرحت روثة ما سقطت إلا على ذنب دابة وعمل أبياتا من الغزل فكانت:
إن يهدم الصدّ من جسمي معالفه
فأن قلبي بقتّ الوجد معمور
إني امرؤ في وثاق الحب يكبحه
لجام هجر على الأرقام معذور
علل بجلّ نبيل من وصالك أو
حسّ الرقاد فأن النوم مأسور
أصاب حبل شِكال الوصل حين بدا
ومبضع الصّدّ في كفّيه مشهور
لبست برقع هجر بعد ذلك في
اصطبل ودّ فروثُ الحبّ منثور
ويورد الجاحظ في رسالته المذكورة أبياتا على نفس المنوال السابق لمعظم المهن, وهي على الترتيب ل: 1. بختيشوع الطبيب 2. جعفر الخيّاط 3. اسحق بن إبراهيم الزرّاع 4. فرج الرخجي الخباز 5. عبد الله بن أبي داود المؤدب 6. علي بن الجهم بن يزيد- صاحب حمّام 7. الحسن بن أبي قماشة أو قماش الكناس 8. أحمد الشرابي 9. عبد الله بن طاهر الطباخ 10. محمد بن داود الطوسي الفرّاش.
ونكتفي هنا, لضيق المجال, بإيراد ما قاله الجاحظ على لسان عبد الله بن طاهر الطباخ (9), لما فيه الكثير من الروعة الأدبية والفائدة التي تعود على الموضوع الذي نحن بصدده.
قال: وسألت عبد الله بن طاهر عن مثل ذلك- وكان طباخا- فقال لقيناهم في مقدار صحن المطبخ, فما كان بقدر ما يشوي الرجل حملا حتى تركناهم في أضيق من موقد النار, فقتلناهم, فلو سقطت مغرفة ما وقعت إلا في قدر, وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
يا شبيه الفالوذ في حمرة الخد
د ولوزينج النّفوس الظّماء
أنت جوزينج القلوب وفي اللي
لِ كَلِينِ الخبيصة البيضاء
عدتَ مستهترا بسكباج ودِّ
بعد جواذبه بجنب شواء
يا نسيم القدور في يوم عرس
وشبيها بشهدة صفراء
أنت أشهى الى القلوب من الزبد
مع النرسيان بعد الغذاء
أطعم الحاسدون ألوان غمّ
في قصاع الأحزان والأدواء
قد غلا القلب ما نأت عنك داري
غليان القدور عند الصّلاء
هام قلبي لما كسرن غضارا
ت سروري مغارف السحناء
فتفضّل على الكئيب ببزما
ورد وصل يشفي من الأدواء.
ما يضحكنا هنا هو المزج بين موضوع شعري تقليدي كالغزل, وبين التشابيه التي يستقيها الناظم من واقعه المعيش.
فهنا مثلا الأطباء يصفون حالتهم وحالة فؤادهم بسبب آلام الحب كالقرح المفقوء. أو يصفون أشياء أخرى بمصطلحات مهنتهم كما نجد في القطعة الثانية والثالثة كالورم في الرية والسعال لمن يوجد عنده مرض الاستسقاء. كما ونجد عند الجاحظ روعة في الوصف خاصة ما جاء في المثل المتقدم على لسان جزام- صاحب الخيل- أو على لسان عبد الله بن طاهر الطباخ بحيث يستقي كل منهما تشبيهاته من مهنته وخلفيتها العملية. ومن الجدير ذكره أن أبا منصور الثعالبي في كتابه "خاص الخاص" يسرق كثيرا عن الجاحظ وللتأكد من ذلك ما علينا إلا أن نقوم بمقارنة بسيطة بين الكتابين خاصة مقارنة فصل أصحاب المهن عند الثعالبي ص 65 وما بعدها مع رسائله المشار اليها سابقا.
الفوارق الاجتماعية:
القارئ المتمعن في أدب العصور الوسطى يصل أثناء قراءته الى درجة يتأكد فيها أن منزلة أصحاب المهن في المجتمع الأسلامي انذاك لم تكن تلك المنزلة المحترمة. فنحن نجد أن كثيرا من المهن كانت محتقرة وغير مرغوب فيها في ذلك المجتمع. وذلك يعود اما للجاهلية واما للحياة الحضرية الجديدة ومفاهيمها عن أصحاب المهن
ففي الجاهلية عاش العربي حرّا طليقا لا يُخضع نفسه لحكم, لا بل يكره أن يكون مقيدا لأي شيء, لذا فقد كره المهنة التي تقيّده وتشلّ حركته, وكذلك في المجتمع العربي العباسي كان لأصحاب المهن منزلة منخفضة في سلم الطبقات الاجتماعي وربما كان هذا بتأثير الفرس, ولكن مهناً أخرى كانت محترمة جدًّا, كالتجارة مثلا, ومردّ ذلك الى كون العرب كانوا يحترمونها أيام الجاهليّة وخاصّة قبيلة قريش التي كانت تسكن مكة وتعتاش على التجارة, وكذلك لأن الأسلام كان يجلّها, كيف لا والنبي محمد نفسه كان قد عمل في التجارة مدة طويلة .
وسواء أكان أصحاب المهن محتقرين أو من منزلة اجتماعية منخفضة, نظر اليهم في العصر العباسي نظرة مهانة وأحيانا كثيرة نظرة احتقار بتأثير النظرة السابقة. هذه النظرة جعلت أصحاب المهن يتقوقعون على أنفسهم ويتخذون لهم مثلا خاصة تختلف تماما عن المثل العليا للطبقات الاجتماعية الراقية, وأدخال اصحاب المهن لهذا اللون من الأدب- كالحجّام والحائك- المهن المحتقرة, لم يخلق دائما تضادا محقرا أو فكاهيا صرفا, لكنه خلق أحيانا طرفة جميلة أو ابتسامة عريضة خفيفة.
أن الأدب العربي هو أدب الطبقات العليا لها كتب ومن أجلها قُدّم, لذلك سواء شاء الكاتب أم لم يشأ, كان عليه بالنسبة للكتابة عن أصحاب المهن أن يزوّد تلك الطبقات- العليا- بمادة مضحكة مسلّية.
وخير كتاب نستقي منه أمثلتنا عن الفوارق الاجتماعية التي ذكرناها, هو كتاب "نثر الدر" أو "الدرر" للأبي أو الأبي, حيث نجد هذا الكتاب النادر يعج بطرف حول أصحاب المهن ومكانتهم الأجتماعية, التي تؤدي بالتالي وبعد ألباسها ثوبا أدبيا جميلا الى اضحاك الطبقات الأرستقراطية, العليا .
وها نحن نسوق منه بعض الأمثلة التي ارتأيناها مناسبة لما نحن بصدده:
1. تنبّأ حايك بالكوفة فقالوا: ما رأينا نبيا حايكا, فقال: وهل رأيتم نبيا صيرفيا (10).
2. ارتفع رجل كان في الأصل حايكا حتى ولي ولاية فقال له يوما مغنِّ له وقد كان قَرُبَ العيد: هب يا أيها الأمير عمامة أنعم بها يوم العيد, فقال له: هات الغزل حتى أردّ عليك العمامة قبل العيد بثلاثة أيام (11).
3. روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: واتّبعك الأرذلون, قال: الحاكة (12).
4. وروي عنه- مجاهد- أنه قال: عقل سبعين حايكا عقل أمرأة واحدة (13).
5. قيل للمجدد القراد كيف أصبحت اليوم, قال: كيف يصبح من يرجو خير هذا؟!- مشيرا الى قرده (14).
6. استدعى بعضهم قلاعا ليقلع له ضرسا له. وكان الرجل أبخر. فلما فتح فاه قام القلاع وقال: ليس هذا من عملي, هذا من عمل الكنافين (15).
7. وقف رجل على صاحب بطيخ وهو ينادي هذا عسل, هذا سكر هذا قند, فتقدم اليه الرجل وقال: عندي عليل يشتهي بطيخة حامضة, فقال خذ ولا تلتفت الى قولي فأنه خل (16).
في الأمثلة التي تقدّمت نجد نظرة الاحتقار الموجهة الى الحائكة والحجامين, ظاهرة جلية, فالحايك لا يمكن له أن يتنبأ, وهو بخيل في المثال الثاني, لا يمكن أن ينسى مهنته, وهو من الأرذلين وعقله لا يساوي شيئا, أما بالنسبة للقراد فالنكتة هنا واضحة جلية جميلة. وبالنسبة للحجام والأبخرفهي نكتة تحمل أبعادا اجتماعية فكذلك بالنسبة لبائع البطيخ, فلو كان هذا الأبخر من الطبقات العليا لم تجرأ الحجّام على اهانته بمثل تلك الاهانة المذكورة سالفا.
فوارق أسلوبية:
من المعروف أن الاحتكاك الذي تم في العصر الأموي بين العرب والأمم المغلوبة أثمر في العصر العباسي بحيث اكتسب العرب الكثير من تلك الأمم في شتى المجالات الحضارية, منها المجال الاجتماعي والأدبي واللغوي فاتسعت اللغة وشرعت أبوابها لدخول الكثير من المصطلحات والمفردات الأعجمية وليس هنا مكان تفصيل ذلك. ولكن ما يهمنا هنا هو أن اللغويين في العصر العباسي صرفوا جل همهم في أبحاثهم إلى الفترة الجاهلية للتفتيش عن مادة اللغة لاستخدامها في علومهم النقلية والعقلية ولم ينتبهوا بالمرة إلى الكلمات البسيطة التابعة للحياة اليومية في ذلك العصر نفسه. ولذلك نجد أن كل كلمة بسيطة تابعة للحياة اليومية تثير الضحك وتكون مثارا للعبث فيما إذا استعملت في موضوع أدبي خالص. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا سنقتطف بعضها أثباتا لما قدمناه:
قال بعض الشطرنجيين:
يجول في الأرض وأقطارها كما يجول الرخّ في الرقعة
و:
مشوا إلى الراح مشيَ الرخّ وانصرفوا
والراح تمشي بهم مشيَ الفرازينِ(17)
إن عماد التشبيه بين البيتين هو الرخ والفرازين, وكلا اللفظين دخيل على العربية, وهذا المزج بين الفصاحة والكلمات الدخيلة لا شك يثير الضحك.
فوارق تربوية زمنية:
من المعروف أن أفراد الطبقة "الراقية" يتمسكون بمنزلتهم ويحاولون رفض كل عنصر آخر يريد الالتحاق بهم وبطبقتهم, وكذلك يضعون حدودا وشروطا لمن يريد أن يرتقي الى تلك المنزلة.
وكان الارتقاء يشترط إجادة اللغة العربية الجاهلية وخلفيتها, والمقصود بالخلفية- شبه الجزيرة العربية بكل تقاليدها - ومن هنا كان على الفرد أن يعيش في الحاضرة العباسية حياته اليومية العادية ولكنه من جهة أخرى يحتم عليه أن يحيا حياة أدبية جاهلية بدوية, وهذه الحياة يختلف فيها زمنها كما وتختلف فيها خلفيتها عن حياة الحاضرة. وخير مثال على ذلك الحب العذري الذي نما وتطور في العصر الأموي.
ما يضحكنا هنا هو: أن نجد, مثلا, إنسانا عاشقا في العصر العباسي وما بعده يحلم حلما جاهليا بخلفيته وبزمنه المختلفين كليا عن الواقع المعيش في الحاضرة حيث تختلف في هذا الواقع المفاهيم وتختلف الثقافة والعادات, لأن معظم أفراده العاديين من الأعاجم الذين أسلموا حديثا, وهذا كله يشكّل عندنا مادة تبعث فينا الضحك.
وخير مثال نسوقه على هذه القضية وعلى ما سبقها من استعمال كلمات بسيطة معيشة في واقع حضري بأسلوب جاهلي قديم أو في موضوع جاهلي قديم هو المثال التالي:
حدثنا أبو محمد المعلى بن أحمد الكردي... قال: اجتمع في محلة ناكل وهي محلة الأكراد... صايغ وكردي ومعلم ومفقه يدعي العشق وديلمي صاحب تشبيب, فأصحروا عشية يتماشون ويتحادثون, وطلع البدر لتمِّه فاستحسنوه وقالوا لا بد لنا من تشبيهه فليشبهه كل واحد منا بما يحضره فبدأ الصايغ وقال: كأنه سبيكة خرجت من البوتقة. وقال الكردي: كأنه جبن خرج من القالب, وقال المتفقه العاشق: كأنه وجه المعشوق طلع على العاشق, وقال المعلّم: كأنه رغيف حواري خبز في دار غني واسع الرحل, وقال الديلمي: كأنه ترس ذهب يحمل بين يدي الملك.
الكنايات:
تعريفها: لفظ أطلق وأريدَ به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك المعنى.
بلاغتها: الكناية مظهر من مظاهر البلاغة وغاية لا يصل إليها إلا من لطف طبعه وصفت قريحته, والسر في بلاغتها أنها في صور كثيرة تعطيك الحقيقة مصحوبة بدليلها, والقضية في طيها برهانها, ومن أسباب بلاغة الكناية أنها تضع المعاني في صور المحسنات. ولا شك أن هذه خاصّة الفنون, فأن المصور اذا رسم صورة للأمل أو اليأس بهرك وجعلك ترى ما كنت تعجز عنه واضحا ملموسا.
ومن خواص الكناية أنها تمكنك من أن تشفي غلتك من خصمك من غير أن تجعل له إليك سبيلا, ودون أن تخدش وجه الأدب وهذا النوع يسمى بالتعريف.
ومن أوضح مميزات الكناية التعبير عن القبيح بما تستسيغ الآذان سماعه وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الكريم وفي كلام العرب (19).
ونعود الآن إلى موضوعنا الأساسي الذي نحن بصدده, فنظرا لما بيّناه سابقا في خصائص الكناية فقد استعملت هذه الظاهرة في الكناية عن الصنعة الخسيسة, ومثال ذلك ما يقوله الجرجاني (20):
قرأت في بعض كتب الأدب أن الحجاج خرج ذات ليلة فظفر برجلين فقال لهما: من أنتما, فقال أحدهما: أنا الشريف ابن الشريف, وقال الآخر: أنا الكريم ابن الكريم. فقال لكل منهما أبن لي عن حسبك كيما أعرف نسبك, فقال الأول:
أنا ابن الذي لا تنزل الدهر قدره
وان نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره
فمنهم قيام حولها وقعود
وقال آخر:
إن أبي مات غير مفتقد
برحمة الله أيما رجلِ
له رقاب الأنام خاضعة
ما بين حاف ومنتعلِ
يأخذ من مالها ومن دمها
لم يُمسِ من ثائر على وجل
فقال: خلوا سبيليهما لأدبهما لا لحسبهما, وكان الأول ابن باقلاني والثاني ابن حجام (21).
وأمثلة أخرى:
دخلت دلالة الى قوم تخطب إليهم فقالوا ما صناعته قالت يكتب بقلم حديد ويختم بالزجاج فعلموا أنه حجام (22).
قيل لحائك ما صناعتك, قال زينة الأحياء وكسوة الموتى (23).
من الجدير ذكره أن معظم هذه الأمثلة التي أوردناها هنا على لسان الجرجاني يوردها الثعالبي في كتابه المعروف بالكفاية والتعريف (ص45-46).
ما الذي يبعث فينا الضحك هنا؟
الشيء الأول هو استعمال كلمات من مستوى معين لمستوى آخر أقل منه درجة كالمثالين الثاني والثالث. والشيء الثاني هو التستر وراء تشبيهات جميلة للقول أو للتعريف بأشياء كانت العرب تحتقرها كالمثال الأول.
طرائف:
في هذا الباب سأنقل لك عزيزي القارئ بعض الطرائف الأدبية الجميلة التي تدور حول موضوعنا والتي لم يفسح العمل مجالا لإدخالها في صلبه, وما هدفنا من نقلها لك في هذا الباب إلا اغتصاب بسمتك- ترويحا لنفسك عن همومها- وتعريفك بتراثك الجميل القيم وبأجدادك ومزاجهم وجمال تفكيرهم وبسرعة خاطرهم وكثرة إلمامهم. ونستميحك عذرا إذا وجدت بعض الكلمات النابية في هذا المجال, فبدونها يفقد المقال لذته. فعن الأدباء والنحويين يروى الكثير الجميل, وهاك بعضه:
سمع (أبو عثمان المازني) من بطن رجل قرقرة, فقال: هي ضرطة مضمرة (25).
وقال أبو الحسن اللحام في الشكوى:
أنا من وجوه النحو فيكم أفعلُ
ومن اللغات إذا تعدُّ المهملُ
حال تنشّفت الليالي ماءها
وتجملٌ لم يبق فيه تحمّلُ(26).
وقال أبو سعيد الرستمي يعاتب الصاحب:
أفي الحق أن يُعطى ثلاثون شاعرا
ويحرم ما دون الرضى شاعر مثلي
كما ألحقت واو بعمرو زيادة
وضويقَ بسم الله في ألفِ الوصلِ(27).
وقال يزيد بن حرب الضبي في حفص بن وبرة يهجوه وقد لحن مرقّش في شعر له:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغلُ
وأنفٌ كمثل العود عمّا تتبّعُ
تتبّع لحنا في كلام مرقّشِ
وخلفك مبنيٌّ على اللحن أجمعُ
فعينك اقواءٌ وأنفك مكفأٌ
ووجهك ايطاءٌ وأنت المرقّعُ (28)
ويروى عن الجند وأصحاب السلاح في الغيرة ما يلي:
تكلّم الهجر فقال الهوى
ما هذه الضوضاء في عسكري
وقال للآمر في جيشه
ما لك لا تنهى عن المنكر
فجيءَ بالهجر يجرّونه
فلم يزل يصفع حتى خِرِي(29)
ويروي الأطباء ما يلي:
من دعاء الطبيب أبي أيوب: اللهم اسقنا شربة من حبك تسهل ذنوبنا (30). وعن الشعراء يروى أن مروان بن أبي حفصة نظر إلى ابنه أبي الجنوب وهو يصلي صلاة خفيفة فقال له: يا بني صلاتك رجز (31).
الخلاصة:
وبعد عزيزي القارئ لا بد لنا من أن نختتم بحثنا المتواضع هذا بما يلي:
مما تقدم نجد أن أصحاب المهن في كتب الأدب كانوا مثارا للسخرية ومبعثا للضحك للطبقات العليا. وهذا الضحك ناتج كما بينا من: البعد الاجتماعي الأدبي والهوة بين الطبقات في المجتمع الإسلامي خاصّة في العصر العباسي وما بعده, ومن الاختلافات بين المستويات طبقية اجتماعية أو أدبية لغوية أو زمنية تعود إلى تراث العرب القديم.
وجل ما قدّمناه يقوم على التضاد الاجتماعي واللغوي والأدبي.
وفي النهاية نأمل أن نكون بهذا العمل قد ألقينا الضوء على جانب من جوانب تراثنا الأدبي الذي يحتاج بعد لأبحاث جادة لتكشفه وتجلوه أكثر فأكثر.
المصادر والإشارات:
1. لمعرفة الكتب التي عالجت هذا الموضوع, عليك مراجعة مقال ب. ي. سادان, المنشور في مجلة (هسفروت) عدد 26 (1978) شهر ابريل, ص141- ص168. فما رأينا مقالا أشمل منه في هذا الخصوص.
2. راجع مخطوط "نثر الدر" أو "نثر الدرر" للأبي أو للابي, ص162.
3. راجع الجاحظ, خاصة رسالة "في صناعات القواد" ص380 وما بعدها. تحقيق عبد السلام محمد هارون, مكتبة الخانجي , القاهرة, 1964.
4. الحصري, أبو اسحق, توفي 1022م. : "زهر الآداب وثمار الألباب" تحقيق زكي مبارك, المكتبة التجارية الكبرى, القاهرة 1925. و"جمع الجواهرفي الملح والنوادر", تحقيق الهجاوي, علي محمد, دار إحياء الكتب العربية- عيسى البابي الحلبي, القاهرة 1953.
5-النمري, ابن عبد البر: "بهجة المجالس", الدار المصرية للتأليف والترجمة, القاهرة, 1962.
6-الثعالبي, أبو منصور, توفي 1038م. : "فقه اللغة" تحقيق الدحداح, رشيد شالاميل, باريس 1861. و "الفرائد والقلائد" طبع الفوائد والقلائد وهو خطأ, على هامش كتاب نثر النظم, للمؤلف, المطبعة الأدبية, القاهرة, 1961. و "خاصّ الخاصّ": مكتبة الحياة, بيروت, 1966. و"أحسن ما سمعت", المكتبة المحمودية, القاهرة, بدون تأريخ.
5 و6 و7- الثعالبي "خاص الخاص", ص77 وما بعدها فصل الأطباء.
8. الجاحظ "في صناعات القواد", ص381- ص382.
9. المصدر ذاته, ص390-392.
10. "نثر الدر" للأبي, ص158.
11. المصدر ذاته.
12. المصدر ذاته.
13. المصدر ذاته.
14. المصدر ذاته.
15. المصدر ذاته.
16. المصدر ذاته.
17. "خاص الخاص", ص82.
18. المصدر ذاته ص66.
19. اعتمدنا في هذه المقدمة عن الكناية على كتاب "البلاغة الواضحة" لعلي الجارم ومصطفى أمين, دار المعارف بمصر, الطبعة الثانية عشرة, 1957, ص131.
20. القاضي, أحمد بن محمد الجرجاني: "المنتخب من كنايات الأدباء وإشارات البلغاء", مكتبة دار البيان, بغداد, ودار صعب, بيروت, بدون تاريخ.
21. المصدر ذاته, ص56.
22 و23 و 24- المصدر ذاته ص57.
25 و26 و27 و28- "خاص الخاص" ص 67و ص68.
29. المصدر ذاته, ص 80.
30. المصدر ذاته ص77.
31. المصدر ذاته ص76.
د. حبيب بولس - drhbolus@yahoo.com
الناصرة
0 comments:
إرسال تعليق