كانت محبوبة بنت الحسب والنسب الأجمل بين أخواتها، امرأة متفردة في جمالها، تزوجت وأنجبت أشراف قريتها الضاربة في أعماق الزمن البعيد، أستشهد لها في حروب الاستنزاف أعز وأكبر أبنائها، وتلاه في حرب أكتوبر الابن الثاني بعد أن أبلى في الحرب بلاء حسنا، فاحتضنت أولادها جميعا بعد ذلك عسى الله أن يحفظهم ويفتح لهم أبواب الخير- ولكن - تأتي الرياح دائما بما لا تشتهي السفن، فقد آل أمر البيت إلى الابن الثالث الأكبر بعد أخويه اللذين استشهدا في الحروب، وبحق لقد كان في البداية مثليهما تماما في حبه لأمه ورعايته لإخوته وأخواته، وظل كذلك مع أهل بيته ساعيا معهم نحو حياة أفضل.
هكذا- استقر أمر البيت إلى أن فتح له الزمان ذراعيه تماما، فلما أصبحت جميع مقدرات البيت بين يديه، واجتمع حوله رفاق السوء، ولم تبرح عنه شياطين الإنس، وأغرته مباهج الدنيا - هنا - بدأ يعمل من أجل نفسه وزوجته وأولاده، متناسيا تارة ومهملا ومتجنيا تارة أخرى على حقوق أمه وبيته الكبير.
ولقد كان أسوأ ما كان يفعله هذا الابن الضال هو استغلاله للتوكيل العام الذي دفعته أمه إليه لتيسير أمر حياتهم جميعا، فباع ما باع، ورهن ما رهن حتى أنه أفسد في النهاية على الأم بعض إخوته، وأصبح البيت على حافة جبل شاهق، وأوشك أن ينهار بهم جميعا من عليائه.
مرضت الأم خلال هذه المحن مرضا خطيرا، ومن عجب أنه في ذات يوم من أيام مرضها الثقيل قد ذهبوا بها إلى العناية المركزة، فلما أفاقت من رقادها، وفتحت عينيها، وأشرقت عليها شمس العافية، وتهيأت للخروج من المستشفى على قدميها بفضل ما وهبها الله تعالى من قلب محتسب وروح عالية، إذا بها تسمع هرج ومرج بذات الجناح الذي تعالج فيه، فسألت عن ذلك - أجابوها: لقد أنزل الله بمن غدر بك أشد العقوبة، وابتلاه بما لا ينفع معه مال ولا بنون.. وها هو قد سيق إلى ما أخرجك الله منه سالمة متعافية، فأسرعت نحو الموكب لتسأل كبير الأطباء: استحلفك الله ماذا أصاب ابني..!! فأجابها: ادع الله أن يرحمه، فاستسمحته أن تنظر إليه، فلما سمح وأذن لها والتقى الوجهان أبصره الله تعالى للحظات من جديد ليرى أمه أمامه ثابتة على قدميها، فقال لها وقد التف حولها إخوته وأخواته: سامحيني أماه، ولكن الوقت كان قد تأخر كثيرا في طلب رضاها، ويسرع الزمن الأخير من حياته بخطاه إليه، غير أن محبوبة بقلب الأم الكبير كانت قد أجابته قائله: ليصفح الله ويعفو عنك يا بني - وهنا - تثاقلت الكلمات على لسانه، ولم تطاوعه الدموع لترحمه، وشهق شهقة الموت التي لفظ معها أنفاسه الأخيرة بين يديها الرحيمتين، فأغمضت عيناه، واستغفرت الله له، وضمت إليها أولادها تالية قول الله تعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون.
0 comments:
إرسال تعليق