مستر بالدوين والوهابية 5/ محمود شباط

الحلقة الخامسة
دبيبُ الليل يمضي بطيئاً كناعورةٍ ناعسةٍ على نهرٍ ضحلِ المياه ناعس الانسياب. المؤرخ والأستاذ الجامعي الدكتور شايع الطويعمي وابناه مشعل وثْـنَـيَّـان والمهندس عبد الرحمن يؤدون صلاة العشاء في خيمة مزرعة الدكتور في واحة يبرين على الطرف الشمالي من الربع الخالي، المستر جون بالدوين يتمشى في محيط الخيمة في عتمةٍ أليفةٍ دافئةٍ تخترقها حزم ضوئية جميلة منبعثة من مصابيح تستمد طاقتها من مولد كهرباء وُضِعَ في مكانٍ بعيد نسبياً لتجنب ضوضائه وضجيجه. 
نفث مستر بالدوين نفساً طويلاً لائماً نفسه نادماً على طرحه سؤالاً اعتبره حساساً، وربما محرجاً لمضيفه حسب اعتقاده، اقشعرَّ بدنُه قلقاً لتطفله باستفسار عن علاقة المملكة بالحركات الاسلامية المتشددة، وموقف المملكة من الإرهاب. تمنى أن يكون الدكتور نسي ذينك السؤالين اللذين طرحما بالدوين قبل صلاة العشاء، وبالدوين نفسه ، لن يذكرهما أو يتطرق إليهما ثانيةً إلا إذا استأنس صفاء مزاج الدكتور حيال ذلك.
هديرُ المولد الكهربائي الضخم يشرخ ملاءة سكون الليل، فرك جون بالدوين يديه ونظر إلى أعلى كمن يستمد العون من شحوب القمر وماسية نجمة المساء. جفل لسماع صوت ثْـنَـيَّـان يناديه للدخول، وما إن جلس الكهل البريطاني مرتبكاً ممتقع المحيَّا جراء مأزقه حتى كان الدكتور قد بدأ الترحيب مجدَّداً بضيفيه وطلب لهما المزيد من القهوة العربية والتمر الحساوي ثم التفت نحو مستر بالدوين واستانف رده حول التشابه في التوجه والعقيدة بين حركة الأخوان الوهابية وحركة الأخوان المسلمين وما تلاها:  
- الفكر الوهابي الأصولي يا عزيزي جون هو النهر والباقي جداول. منه انطلقت حركة الأخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مصر عام 1928، أي قبل هزيمة الإخوان بعام واحد في معركة السبلة، أسامة بن لادن والخليفة البغدادي عضوان سابقان في حركة الأخوان المسلمين، وكذلك عبدالله عزام والعولقي والزرقاوي وغيرهم ممن تركوا حركة الأخوان المسلمين إلى أخواتها وبناتها، أفتوا باجتهادات قيل الكثير عن كونها خارج إطار مفاهيم الإسلام المعتدل ووسطيته وعدالته ورسالة الرحمة والتسامح وعدم الإكراه التي بشر بها، حاولوا وما زالوا فرض معتقداتهم بالقوة والترهيب وإقامة أنفسهم أوصياء على خلق الله ومرشدين لهم غصباً عنهم. 
وللتدليل على بعد نهج المتشددين عن الشريعة السمحاء تلا الدكتور الآية 15 من سورة الإسراء: "مَـنِ اهْـتَـدى فَـإنَّـمَـا يَـهْـتَـدِي لِـنَـفْـسِـهِ وَمَـنْ ضَـلَّ فَـإِنَّـمَـا يَـضِـلُّ عَـلَـيْـهَـا وَلا تَـزِرُ وَازِرَةً وِزْرَ أُخْـرَى وَمَـا كُـنَّـا مُـعَـذَّبِـيْـنَ حَـتَّـى نَـبْـعَـثَ رَسُـولا". ثم ترجمها وأكمل شارحاً رأي أهل العلم:" مَن اهتدى فاتبع طريق الحق فإنما يعود ثواب ذلك عليه وحده، ومن حاد واتبع طريق الباطل فإنما يعود عقاب ذلك عليه وحده، ولا تحمل نفسٌ مذنبةٌ إثمَ نفسٍ مذنبةٍ أخرى ، ولا يعاقب الله أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه بإرسال الرسل وإنزال الكتب." 
استطرد الدكتور شارحاً رأيه الشخصي من تلك الآية: "طالما أن الخالق القدير وهبنا نعمة العقل الذي به نميز طريق الخير من طريق الشر، ونعلم بأن الخير يوصلنا إلى الجنة والشر يوصلنا إلى النار. فمن يصر على أخذ نفسه إلى النار، إذا كان هذا خياره ؟ دعه يلقَ مصيره وإلى بئس المصير ! وليتحمل هو عواقب قراره . وما بعث الرسول الكريم إلا للهداية. هذا ما فهمته ونقلته لك. ثم أبدى رأيه حيال مكافأة المجتهد: "نُـقِـلَ عن عمرو بن العاص حديثاً أنه سمع الرسول (ص) يقول : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".
عربة قطار السمر التاريخي تعبر دغلاً موغلاً في القدم إلى دغل أقدم في ذلك الليل الصحراوي المدلهم. الدكتور شايع يروي وسط صمت وإصغاء بالدوين والحضور الآخرين، ولم ينكسر صمت بالدوين إلا حين وصل الدكتور في سرده إلى عبارة "التحية-القنبلة" فتدخَّل بالدوين معقباً مبتسماً في آنٍ لغرابة التسمية :
- "التحية القنبلة ؟!!"
- ردَّ الدكتور : لم أجد لها تسمية أنسب، وقد يضمحل استغرابك بعد ما سوف تسمعه عن تشدد الأخوان الذين يحجمون عن إلقاء التحية على من هو ليس على طريقتهم، كونهم يعتقدون بأنه لا يستحق تحية "السلام عليكم"،ولا يردون عليه كما ينبغي "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
- أنا مصغٍ سيدي وأتوق لسماع تفاصيل أكثر حولها. إن لم يكن لديك مانع.
- رشف الدكتور قهوته وبدأ يروي: بينما كانت قوات حركة الإخوان مستنفرة مقابل قوات الملك عبد العزيز في روضة السبلة، شمال شرق مدينة الزلفي في السعودية، أرسل الأخوان بالشيخ ماجد بن خثيلة كي يتفاوض مع الملك عبد العزيز في محاولة لإيجاد حل يجنب الطرفين سفك الدماء،  وبما أنهم صاروا يعتبرون الملك عبد العزيز ليس منهم، دخل الشيخ ماجد ابن خثيلة خيمة الملك ولم يلق التحية عليه فاشتعل الملك غضباً وقال له : " عد إلى ابن بجاد وقل له بأن لديه خيار من اثنين : إما أن يسلم نفسه ومن معه كي يحاكم حسب الشرع أو فليستعد للقتال صباح غد".    
- "لم أسمع برسول سلام يبخل بالتحية" ، قال بالدوين.
- رد الدكتور: ولا الإسلام يقرُّ ذلك. ثم تلا الآية 86 من سورة النساء بالعربية: "وإِذا حُـيِّـيْـتُـم بِـتَـحِـيِّـةٍ فَـحَـيُّـوا بِـأَحْـسَنَ مِـنْـهَـا أَوْ رُدُّوهَـا إِنَّ اللهَ كَـانَ عَـلَـى كُـلِّ شَـيءٍ حَـسِـيْـبا". ترجمها للمستر بالدوين ثم أخبره بشرح أهل العلم لها: " وإذا سلَّم عليكم المسلم فردوا عليه بأفضل مما سلم لفظاً وبشاشة، أو ردوا عليه بمثل ما سلَّم، ولكل ثوابه وجزاؤه، إن الله تعالى كان على كل شيء مجازيا".
في محاولة لإبعاد انتباه الدكتور عن السؤال المتعلق بموقف المملكة من الإرهاب علَّه يكون قد نسيه قال بالدوين: "سمعت بأن تشدد الأخوان طاول الموسيقى والغناء" . 
- رد الدكتور بإخبار بالدوين عن حادثة "الموسيقى" التي كادت تشعل حرباً بين مصر والسعودية في عشرينات القرن الماضي بسبب استنكار وتحريم الأخوان للموسيقى قائلاً : "حصل ذلك في ما سمي بحادثة المحمل التي أدت إلى توتر بين البلدين وقطع العلاقات الديبلوماسية بينهما لمدة عشر سنين، يوم اعترض الأخوان على استخدام الأبواق الموسيقية من قبل الفرقة المصرية التي ترافق المحمل السنوي. هَوَسُهُم بتطبيق مذهبهم المتشدد بحرفيته دفعهم لاقتحام خيمة الجنود المصريين فوقع على أثرها إطلاق نار وسقوط قتلى وحدوث إصابات. تولى الأمير فيصل في حينه أمر ملف القضية ولكن جمرها بقي كامناً تحت الرماد".
 أكمل الدكتور: "بما يختص بعلاقة المملكة بحركات الإسلام السياسي ينبغي استنطاق تاريخ الروابط والأحداث بين الأطراف المعنية، بداية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، علينا العودة تاريخياً عدة عقود إلى الخلف كي نرى بداية الشقاق بين الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وحركة الأخوان الوهابية قبل وخلال وبعد معركة السبلة في عام 1929 التي بشرت بنهايتهم كقوة عسكرية فاعلة، ومعرفة أسباب الخلاف والإختلاف بدءاً من اعتراض المتشددين على إستخدام اللاسلكي والهاتف والسيارة ومناهضة التعاون مع "المسيحيين البريطانيين الكفار" واعتراض الأخوان على ترسيم الحدود مع "كـفَّـار" مسلمي العراق والكويت والأردن ما حال دون السماح لهم بالإستمرار بغزو أولئك "الكفَّار".
- سأل بالدوين : وماذا حل بالإخوان بعد معركة السبلة ؟ هل خرجوا من المشهد السياسي والعسكري كلياً؟.
- رد الدكتور: انتهوا كقوة واحدة موحدة منظمة تشكل خطراً على حكم عبد العزيز، ويمكننا القول بأنهم كأفراد وكفكر لم يخرجوا كلياً من كيان الدولة، جرى محاكمة وسجن زعماء الحركة فيصل الدويش وسلطان بن بجاد ونايف بن حثلين (قريب ضيدان بن حثلين الذي قُـتِـلَ قبيل انتهاء الحركة وحلَّ قريبه نايف مكانه في زعامة قبيلة العجمان، ولذلك قصة سوف نرويها لك لاحقاً)، وكذلك كانت حال بضع عشرات كان لهم دور بارز في التمرد. عدد من مسؤولي الصف الثاني أتيح لهم تولي مناصب حكومية كماجد بن خثيلة نفسه، أما البقية من رتباء وأفراد في الحركة فظلوا ينعمون بالأمن والأمان وباستلام رواتبهم في هجراتهم.
-سأل بالدوين : فهمت من شرحك نقيض ما تُردِّده بعض وسائل الإعلام، استنتجت بأنكم حاربتم وتحاربون التطرف وتنتهجون الوسطية والإعتدال وتعانون من التطرف والإرهاب؟ صحيح ؟ وكيف ترون أنجع السبل لمعالجته؟
- رد الدكتور: بموازاة خط المعالجات الأمنية انتهجنا سبيل المناصحة الذي فشل مع أقلية وأتى ثماره مع أكثرية التائبين عن درب الإرهاب. سارت الجهات المختصة بذلك المنحى نتيجة لاقتناعها بأن الإرهاب أشبه بمخلوق أسطوري كلما قطعت رأسه نبتت له رؤوس جديدة. وكنتيجة للخلط بين الشريعة والتشريع وفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، تنبهت الجهات المختصة لتطوير مناهج التربية المتقادمة العهد التي كان لولبها مدرسون عرب من الأخوان المسلمين المتطرفين بمعظمهم. جَـنَـيْـنَـا منها ثماراً مرة في تنشئة الأجيال وما نزال. ولكننا نأمل بأن يخف تيار التطرف لدى الأجيال القادمة.
- ثم قال الدكتور لبالدوين: "سألتني قبل الصلاة عن علاقة  المملكة بالإرهاب فقاطعه بالدوين منتفضاً بوجل: "لم أقصد الإساءة أو الاتهام".
- ابتسم الدكتور ولم يستهجن لهجة الهلع في تعليق بالدوين ثم بدأ بردِّهِ:
بما يتعلق بموقف المملكة من الإرهاب، أقول لك رأيي كمؤرخ ومتابع للأحداث، وليس كمواطن سعودي، بأن أول من دعا لتأسيس مركزٍ مناهض للإرهاب هو الملك عبدالله بن عبد العزيز عام 1995، وأول من ساهم مالياً بدعم ذلك المركز هو المملكة العربية السعودية. وبأننا عانينا وما نزال نعاني من الإرهاب. أترك لك الاستنتاج والحكم. لدينا حكمة تقول: "إذا خُـيِّرتَ بين المنقول والمعقول فاتبع المعقول".
هز جون بالدوين رأسه عدة مرات باطمئنان وثقة ثم قال : حسبما أعلم بأن الأصوليين يعتقدون بأن التجديد بدعة وشرك وبأنهم في تشددهم يخدمون دينهم، ولكن ...    
- رد الدكتور: لبُّ المشكلة يكمن في تلك الـ "ولكن" . واقع الحال يشي بأن محاربة التجديد تعتبر بمثابة محاربة للإسلام والمسلمين. خير برهانٍ على ما ذكرته لك هو ما ورد في الحديث الشريف:"إنِّ اللهَ يَـبْـعَـثُ عَـلَى رَأسِ كُـلِّ مَـائـةِ عامٍ مَـنْ يُـصْـلِـحُ لِـهَـذِهِ الأُمَّـةِ أَمْـرَ دِيْـنِـهَـا" والمقصود بالتجديد، حسبما أعلم، هو وقف الانحرافات والبدع. البعض خالف التجديد خشية تأثيره على جوهر الدين الحنيف، آخرون جزموا بأن لا خوف من التجديد اعتماداً على قوله تعالى:" إنَّـا نَـحْـنُ نَـزَّلْـنَـا الـذِّكْـرَ وَإنَّـا لَـهُ لَـحَـافِـظُـونْ" .
- سأل بالدوين: أليس بين أولئك المتشددين من يدرك بأنَّ ممارساتهم المشينة الغريبة تسيء إلى الإسلام وتُنفِّر الرأي العام الغربي والأقليات الدينية والعرقية منهم ومن العرب والإسلام ؟
- صحيح يا عزيزي جون. ينبغي على صاحب القضية والمدافع عنها أن يُقدِّمَ أفضل ما لديه، لا أن يشوهها ويبعد الناس منها ويساعد عدوَّه بحسن أو بسوء نية. لا ندري كم رصدت الجهات المعادية للعرب والإسلام من ميزانيات لنشر كتب ومقالات وأفلام سينمائية لتشويه صورة الإسلام بعامة والعرب بشكل خاص، وإظهارهم بصورة مصاصي الدماء و الرجل الشرير المتخلف المولع بالقتل للقتل. ذلك ما يخطر في بالي عند كل ظهور لشخص متشدد يقيم في الغرب ويسمي نفسه "داعية" على شاشات التلفزة، يده المنتهية بخطاف حديدي تبعث الرعب في النفوس، وأجزم بأن تلك الصورة، وما شابهها من ممارسات، تسيء إلى العرب والإسلام أكثر من مائة فيلم مغرض. 
أكمل الدكتور شايع: محور المشكلة هو معاداة المتشددين للعلم، الله تعالى وهبنا جسداً وروحاً، الجسد يحمل الروح ويتغذى منها، ولكن الروح، حسبما أرى، سوف تكون عبئا على ذاتها وعلى الجسد إن لم تكن هي بدورها تتغذى بنسغ العلم تيمنا ومباركة بالحديث الشريف: "أطلبوا العلم ولو في الصين". أليس من المؤسف أن يضعنا جهل وعنت أحد "الدعاة" المعادين للعلم وتطور سنن الحياة رغماً عَـنـّا في صف عدونا المؤمن بالعلم. الداعية العتيد موضوع حديثنا أنكر في محاضرة له في الشارقة دوران الأرض ووصول الإنسان إلى القمر، في الجهة المقابلة لذلك، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، مناحيم بيغن رد بشكل مغاير حين سئل عن معادلة الإيمان والعلم فقال بأنه "يؤمن بالتوراة ويثق بالفانتوم".
أنهى الدكتور كلامه قائلاً:"فلنأمل باستعجال بزوغ فجر ثقة شعوبنا بالعلم، وبالإيمان بحاجتنا العميقة الماسة لإنجازاته واللحاق بعربات قطاره السائرة دائماً إلى الأمام، ودون توقف". 
في صباح اليوم التالي أكمل بالدوين وعبد الرحمن طريقهما إلى حقل شيبة النفطي في الربع الخالي بعد أن وعدهما الدكتور الذي عاد إلى الدمام بلقائهما في مزرعته في يبرين يوم الخميس القادم. 
 الخبر في :05/03/2015
الحلقة القادمة يوم الخميس في 12/03/2015. 

CONVERSATION

0 comments: