لماذا لم يكتمل الاحتضان 9/ محمود شباط

ما عاتبَ الحرَّ الكريمَ كنفسهِ
والمرءُ يصلحهُ الجليسُ الصالحُ
لُبَيدُ بن ربيعة
بعد سنين ضياع ومراهقة في رياض بيروت. أفاق زينو المقطوف من شجرة طفولته على ضرورة إعادة دوزنة مسيرته، تَمُورُ في دخيلته هواجس التوق إلى الفوق. تمنى لو يتجاوز مستنقع الهوان والجهل ونتن الجسد، لكن على شراعه أن ينتظر هبوب الريح.
بين النية والإمكانية، بين التطلع ومحدودية قدرات من لم يتجاوز الخامس ابتدائي كان قبس الفجر يومض ويغيب. تمنى زينو لو كان من معدن أصلب، ولو كان يجيد من الانكليزية أكثر من مفرداته المعدودات. أو بقدر ما يعرف صديقه مصطفى على الأقل.
بخط بياني شديد التعرج يُحَمِّلُ وزرَ أميته لضعف إرادته ، وأحياناً يُحَمِّلُ وزرَ ضعفِ إرادته لأميته. وظل ينتظر هبوب الريح.
في إحدى إجازاته جاءت جارتهم "أم أسعد" كي تُسلمَ على الفتى المغترب إلى بيروت، أخبرتها أم زينو بنشوة بأن ابنها يعمل "نيتواييه" ، لفظتها بالفرنسية كما سمعتها من ولدها ومصت شفتيها كمن لعق ملعقة عسل، شهقت الجارة تعجباً، وحسداً ربما لحصول زينو على تلك الوظيفة التي لم تعرف بأنها ليست سوى عامل تنظيفات وعقبت بأن ابنها بدوره سوف يدخل الجامعة وسوف يحصل على وظيفة مثل من وظيفة زينو.
أطرق زينو إشفاقاً على سذاجة السيدتين وخجلاً من نفسه ويتساءل: كيف سيعوض الغاطس حتى أذنيه في رغوة الرغبات ما فاته : أينك أيها الريح ؟.
ضاقت الدنيا به في غرفته في وادي أبو جميل، خرج إلى السطح، عبارة "سوف يدخل الجامعة" ترن في أذنيه كطنين سرب نحل. فرد شراعه واستدعى الريح . قرر النهوض من كبوة طالت واستطالت، لن يستطيع البناء على مداميك هشة تزعزعها الفساتين القصيرة، كز على أسنانه، صمم أن ينتصر على ذاته، عاد إلى الغرفة، شَخْصَنَ الخيرَ والشرَّ بشكلين رسمهما على الحائط: شكل ملاك وشكل شيطان.
في خضم تلك التجربة كان زينو كمن يعوم في بحر هائج، يتراوح طعم موجه بين حلاوة حليب الأم وملح مياه البحر، تراوده ذاته السفلى بنزوة فيستغيث بذاته العليا ويقاوم ، فإن تمكنت ذاته العليا من هزيمة السفلى رسم تحت صورة الملاك ملاكاً، وإن هزمت السفلى العليا يرسم شيطاناً تحت صورة الشيطان ويخبط الطبشورة أرضاً. وفي آخر كل مساء يعمد إلى إجراء جردة حساب لأصعب وأعقد عمليات المحاسبة المتمثلة بمحاسبة الذات.
في ذلك اليوم هب الريح من تلقائه وفاجأ البحار الغر أثناء عمله في مطعم في رأس بيروت، كان على زينو التواصل بالإنكليزية مع الزبائن الأجانب. طلبت منه إحدى السيدات وجبة غير مذكورة في قائمة الطعام فاتجه نحو رئيسه، نقل له بتعثر ما طلبته السيدة، حدجه الرئيس شبه الأمي باستعلاء : "تأتون من خلف البقر والماعز وتتطاولون على الإنكليزية ! " ثم شد زينو من يده وسحبه خلفه نحو الزبونة، استفهم المعلم عما ترغبه السيدة ثم كتب الطلب بخط يده الركيك، سلمه إلى زينو ودفعه على كتفه كي يحضر الطلب بسرعة.
في طريقه إلى المطبخ كاد يبكي ، ندم ابن الثامنة عشر على ما هدره من ساعات وشهور وسنين في السينمات والمسارح والمسابح والنوادي الرياضية، رصاصات "المعلم" فجرت القرار الكامن المتذبذب في دخيلة زينو فقرر أن يتعلم الإنكليزية في مدرسة ليلية.
كالظامىء في الصحراء كان زينو يعب المفردات والقواعد، حل في المركز الأول في دورة الثلاثة أشهر الأولى فمنحته إدارة المدرسة شهر دراسة مجاني. تكرر الأمر في الدورتين الثانية والثالثة، ومع انصرام العام الدراسي الأول طلب مدير المعهد من زينو أن يُدَرِّسَ المبتدئين أثناء غياب المدرس الأصيل في إجازة مقابل ثلاث ليرات في الساعة الواحدة. أجاد زينو في عمله المؤقت الجديد فتعاقدت معه المدرسة لمدة ستة أشهر بعد عودة المدرس الأصيل. ولكن دون أن يترك عمله في المطعم.
تم ترقية زينو إلى "كونترولر" لجودة لغته الإنكليزية، ولكنه سيبقى كطير بجناح واحد دون لغة عربية فعكف على قراءة القصص والروايات وقواعد اللغة. نهوض الفتى دفع برئيسه للتقرب منه ورجاه أن يعلم أولاده الثلاثة اللغة الإنكليزية. قال له زينو بأن الذين يأتون من خلف البقر والماعز لا يجيدون تكلم الإنكليزية ولا تعليمها. ابتسم المعلم بخجل اعتذاري ولم يجد الكلام المناسب ، أكمل زينو بألم المنتصر بأن جروح الجسد تندمل بأسرع من اندمال جروح الروح، تؤلم وتوجع أكثر حتى بعد أن تندمل، و تترك ندوباً لا تستطيع أنامل الزمن أن تمحوها.
في تلك المطاعم والفنادق والحانات التي كان يرتادها الغربيون كانت الخمرة تطلق زمام الألسنة في أواخر السهرة، هذا ينتقد الفلسطيني واليسار اللبناني وذاك يؤيد الجيش واليمين اللبناني. كان على زينو أن يساير الزبائن كل على هواه، ويرى بخوف غيوم النار تتجمع في أفق الوطن. سيما بعد حدوث المناوشات الأمنية في العامين 1968 و1969 بين الجيش والمقاومة الفلسطينية.
في العاشر من نيسان/أبريل 1973 أفاقت بيروت على خبر اغتيال قوة كوماندوس إسرائيلية لثلاثة قادة فلسطينيين في منطقة فردان في بيروت، لم يكن حدث بحجم قتل كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار ليمر دون أن يترك شرخاً جديداً في جسد الوطن، انفجر الوضع على شكل مناوشات عنيفة ودخل لبنان في أزمة أمنية وحكومية لا سابق لها حتى ذلك التاريخ، ثم هدأت الأوضاع كسكون الجمر تحت الرماد.
في أواخر ليل من ليالي منع التجول كان في المطعم زبونان فقط وثالثهما زينو، الزيونان من سكان العمارة التي يقبع المطعم في ملجئها ، كان "مستر بوب" قد تعتعه الخمر ، حمل كأسه ومشى مترنحاً صوب "الدكتور عماد" وسأله دون سابق معرفة :
- هل تصدق ما يقال أنكم كنتم جزءاً من سوريا ؟
تجاهل الدكتور سؤال المخمور ونظر إلى الجهة الأخرى .
كرر مستر بوب سؤاله فرد عليه الدكتور : نعم ! لأنه حقيقة ! ماذا تريد بعد؟.
التفت مستر بوب نحو زينو وكرت ضحكته.
توالت الحرائق الصغيرة،من يشعلها يشعلها حين يريد، ويطفئها حين يريد، في 4 تموز/يوليو من عام 1974 خطفت جهة مجهولة معلومة الصحافي اللبناني في صحيفة النهار ميشال أبو جودة. الجهة الخاطفة أشاعت بأن الفلسطينيين هم من خطفوه بهدف إثارة حزب الكتائب اللبناني ضد "حركة فتح" الفلسطينية، تداركها الحكماء ولم تنشب المعارك بين الطرفين كما كان يخطط له الخاطفون وليتدخلوا كحَكَمٍ للتحكم والسيطرة كما فعلوا لاحقاً.
في تلك الأجواء الملبدة بغيوم عدم الاستقرار تزوج "زينو"، كان في وضع حرج مالياً لدفع إيجار الشقة وما تبقى من أقساط الفرش، رزق بطفل فزادت المصاريف، أطلت الفتنة برأسها مرة أخرى حين تم اغتيال النائب الناصري معروف سعد في شهر شباط/فبراير 1975، حمي وطيس المناوشات والمظاهرات وبدأت في 13 نيسان من ذلك العام أسوأ حرب شهدها لبنان في تاريخه الحديث. دفع ثمنها شهداء وجرحى ومخطوفون من جميع فئات المجتمع، واضطر مئات الآلاف للنزوح من منطقة لبنانية إلى أخرى، ومع كل جولة قتال كان موج التهجير يرتفع و يرتفع معه عدد المهاجرين من لبنان، "زينو" كان في عداد أولئك الضحايا حيث هُجِّرَ وهاجر.
استمر عبث العابثين بخصوصيات الوطن الصغير الجميل كي يهيمنوا عليه ويمسكوا بمفاصله يوماً ما لتعيين الرئيس والوزير والنائب والمختار والناطور وبواب المدرسة، تلاعبوا بالفكر والثقافة والسياسة والقيم والتاريخ والجغرافيا، عبثوا بأرض خصبة مبللة بزيت الطائفية و ملتاثة بلعنة ملحقين بقومجية تسلمُ العدو المزعوم رقبة وطنها ومواطنها باليمنى وتستلم صك الحكم الأبدي باليسرى.
ملاحظة : على موعد معكم في الحلقة القادمة "زينو 10).

CONVERSATION

0 comments: