لماذا لم يكتمل الاحتضان 8/ محمود شباط

يا من نسيتماني في ذاكرتكما، وتركتماني على قارعة الحلم الخديج، أتقصى نفحة دفء من ثنايا غيابكما... ، أبثكما حبي ، وأدعو لروحيكما. "زينو"
في ظهيرة ذلك اليوم الصيفي البيروتي الحار، بعد زيارته لقبر أهله الجدد عاد زينو إلى سكنه في منطقة وادي أبو جميل ، في غرفته الأقرب إلى زنزانة انفرادية سقفها من صفيح وحمامها مشترك. الفتى ذاو كقرص عباد الشمس عند الغروب، هو بحاجة لمساعدة، لمن ينتزع مرارة الغم من صدره، مسح دبق الرطوبة بقطعة قماش مبللة بالماء، فكَّرَ، ثم اتجه نحو غرفة مصطفى، زميله في العمل المقيم في "الزنزانة" المجاورة على سطح العمارة، على جدران الغرفة صور لينين وماركس وغيفارا، الباب مفتوح، مصطفى ملفوف بمنشفة حمام تكشف عما قصد ستره، يغظ في نوم عميق مطلقاً العنان لمحرك شخيره.
جلس زينو على حافة سرير مصطفى، لكزه بتردد وبرفق كي يوقظه فقلب مصطفى إلى الجانب الآخر وهمهم بكلام غير مفهوم. كرر زينو محاولة إيقاظ زميله ففتح الأخير عيناً واحدة، مسح لعاباً يسيل من فمه وهمهم كمن يتكلم في نومه دون أن يفتح شفتيه تقريباً :" حل عن .. .."
زينو يداري زعل عصبية زميله الأكبر منه بسنوات قليلة ، إلا أنه أصر في حينه على البوح كي لا ينفجر، وكمن يشكو لشبح، شكى زينو إلى مصطفى، استمر يهذر لدقائق ثم سأل : " ماذا علي أن أفعل يا مصطفى؟" رد مصطفى بشخرة طويلة.
تركه زينو وراح إلى غرفته، تمدد على فراشه يبرد وجهه بمجلة "يمروح" بها أمام وجهه. صفيح سقف غرفته شاشة تعرض مسلسل اليتم الثاني. أغمض عينيه مستحضراً طيف ماما أديل وبابا اسكندر، خالهما يبتسمان له، ابتسم لما ظنه سماعه لصوتيهما ، تماهت صورتهما بصورة أمه، على طيفهما رأى طيف أبيه المطل من خلف غيمة بشاربين كجناحي صقر، وعينين مغمضتين كما رآه مسجى يوم رحيله. تحسس الصبي زغب شاربيه.
في الحادية عشر مساء يبدأ عمل زينو . ظلُّ الليل ثقيل طويل مديد كرقبة بعير خرافي يحاول قطف نجمة. يغفو الصبي و يصحو وقوفاً بينما هو يمسح الأرض وينظف الحمامات في فندق الفينيسيا برفقة زميله مصطفى، يندم في الليل على طيشه في نهارات يقضيها على البحر وفي السينما. كان مصطفى حينها يحكي له عن مزارع التبغ ورائحة الحقول، تلتقط أذنا زينو النعس المرهق نتفاً من الحكايا، ينشدُّ إلى السرد أكثر حين يبدأ مصطفى تبجحه عن مغامراته النسائية. يستطيب زينو تلك الحكايا رغم علمه بكذب مصطفى الذي يروي نفس القصة بشكل يختلف عن سرده لها سابقاً.
هيمنة مصطفى أسهمت في إعادة قولبة زينو الحرد العنيد. وبالتدريج دخل الصبي بيئة جديدة تمرس خلالها على حسنة الإنحناء وخرج من قوقعة الانكفاء على الذات، صار يجالس زملائه في العمل. سمعهم يذكرون أسماء زعماء وسياسيين: جنبلاط، المير مجيد، سعادة، شمعون، الجميل، إده، العويني، اليافي، سلام، كرامي، حماده ، الأسعد، عبد الناصر، كوسيغين، هو شي منه، غيفارا، كاسترو وسياسيين آخرين من عرب وعالميين. أقحم الصبي مرة نفسه في نقاش الكبار وسأل : " شو خصنا بمصر؟"
سأل وندم حين رأى سقوط الاستفسار كالقنبلة على مسامع الزملاء، حتى مصطفى عبس بزينو وهمس في أذنه بتأنيبه وغضبه.
اكتشافهم لهواه اليميني المناهض لعبد الناصر والعروبة أذهلهم وفاجأهم لافتراضهم أنه من طينة صديقه مصطفى. مرة أخرى نصحه مصطفى همساً بمسايرة الجو، تراجع الصبي في نفس الجلسة مرتجلاً انتقاداً مريراً لأميركا وبريطانيا، اعتذاره الفوري السريع أثمر تفهماً لجهله، وبالتزامن فتح أمامه سبيلاً لولوج محيط اليسار. ليس بسبب حبه أو فهمه له بل كرهاً "باليمين الرأسمالي والإقطاع السياسي" اللذين تسببا بفقره حسبما تراكم في ذاكرته من تلك "الندوات".
كان زينو يعمل في الفندق "خدمتها بلقمتها" وبالكاد، يرسل لأمه بمبلغ مئة ليرة شهرياً من أصل المئة وستين ليرة هي راتبه الشهري، يتبقى لديه ستون ليرة يدفع منها ثلاثين أجر غرفته، وثلاثون ليرة مصروفه،بل طعامه. ولطالما وجد نفسه وقد نفدت نقوده بعد العشرين من كل شهر فيبقى دون طعام من الثامنة صباحاً حيث يتناول فطوره في الفينسيا ولغاية الثانية بعد منتصف الليل، كبرياؤه منعه أن يُعلمَ أحداً بحاجته. لجأ إلى معالجة جوعه النهاري بعمل إضافي لغسل الأطباق في مطعم هنا أو مقهى هناك خلال النهار بأجر لا يساوم رب عمله المؤقت عليه، يتغاضى عن ضآلة الأجر مقابل غداء أو عشاء.
جميع زملاء زينو فوق سن الأربعين، باستثناء مصطفى الذي يكبره بثلاث سنوات، والذي شعر بأنه الأقرب إليه، معظمهم يزاول عملاً آخر في النهار، ومعظمهم ابتلي بالإدمان على الرهان في سباق الخيل، أبو سليم لديه "طنبر" وحصان يبيع الكاز في حي "الوطى"، يخسر ما يكسبه من شقائه في سباق الخيل، أبو أمين يعمل حارس عمارة يهدر ما يكسبه في السباق أو الميسر ، أنطوان عامل محطة بنزين ، ويطول الحديث عن مآسي الآخرين، الكل يبدأ دوامه في الحادية عشر ليلاً بعينين حمراوين وملامح وجه مرهق.
في السنة الخامسة من عمله في الفندق كان زينو قد أصبح في الخامسة عشر، ومع بروز زغب الشارب واللحية برزت متطلبات المراهقة حيث دوزنه مصطفى على كيفية تبريد خلايا الدم الساخن، بدآ عبثهما الشبابي في مكان عام معروف في ساحة البرج يعرفه زينو، ثم ارتقيا إلى الحانات، ثم عبر فيلق نسائي متعدد الجنسيات.
زينو يندم بعد كل سقطة حمراء، ضميره يصحو بعد فوات الأوان ولكن سرعان ما يعود الضمير ليتمارض حين تطل أفاعي الرغبة برأسها من جديد و تهزم زينو بسطوة الأنثى القوية على الذكر الضعيف. فينقم على نفسه ويشعر بأنه برغشة حقيرة ضئيلة بل أصغر من اللاشيء. ويتمتم : " أليس أمي وأخوتي أحق بما أبذره ؟" .
خلال جلوسه في غرفته الفرنية الحارة مرت أمام نافذته المجاورة لمدخل درج سطح العمارة السيدة الثلاثينية الحسناء التي تضيء السطح بجمالها بين الحين والحين، تمتلك ملحقاً فخماً مكيفاً على السطح، الإمراة شقراء ممشوقة كالممثلات المثيرات اللواتي يشاهدهن الصبي في السينما والمجلات الخلاعية، شهية كتفاح الجبل، هامت على السطح بلباس قصير مثير، بل أقصر من الأقصر. تجولت في ذلك اليوم وقتاً أكثر من المعتاد رغم حرارة الطقس، دخلت ملحقها، مكثت فيه لبرهة ثم غادرت عائدة إلى سكنها في الطابق السابع وهي ترمق زينو بطرف عينها.
جاءت في اليوم التالي. أُعْجِبَ الفتى برشاقة مهيرة ترهو في مشيتها كأصائل الخيل فراح يلتهمها عبر زجاج نافذة "زنزانته"، التفاتاتها القصيرة المتكررة أوحت له بأن مجساتها الأنثوية قد التقطته بالجرم المشهود وبأنها عرفت بمطاردته لها بعينيه العطشتين. عادت باتجاه باب السطح المحاذي لباب غرفته فظن أنها مغادرة، وإلى أن تعبر طريقها حاول التواري فتراجع عن النافذة بعجل وجلس على زاوية سريره، فتحت المرأة الباب فجأة دون أن تقرعه فباغتته أكثر وهو شبه عارٍ، سألته عن اسمه فأجابها،
- لم أنت بهذا الوضع المعيب؟ ألا تستحيي . نهرته بنبرة المدرسات العوانس
خاف ، ظن بأنه عار فعلاً، نظر إلى نصفه الأسفل فتأكد بأنه يرتدي لباسه الداخلي فقال لها بأنه معتاد على النوم والجلوس والتجول في غرفته بلباسه الداخلي بسبب الجو الحار.
زجرته بحزم ألا يخاطب سيدة محترمة مثلها بينما هو في لباسه الداخلي فقفز بسرعة ليرتدي بنطاله، حين انتهى ووقف مأسوراً بحضورها الآسر عرَّفته بأنها ابنة مالك البناية وأنذرته بالتوقف عن إحضار نساء إلى الغرفة وإلا فستشكوه إلى المخفر.
انتظرت على الباب لدقائق ، اكتفت بمشاهدته مطرقاً إطراقة المذنب، ثم انصرفت مظفرة بهيمنتها عليه.
حكى زينو لمصطفى عن إنذار السيدة فرد الأخير وهو شبه نائم : "خليها تبلط البحر".
هي لم تبلط البحر، ولن تأبه لذلك، بل بلَّطت صمامات قلب زينو الذي خشي أن تصل أخباره الحمراء الفاقعة إلى الضيعة.
المشاهد تمر وتتوالى بسرعة. عادت السيدة في اليوم التالي وأمرت زينو أن ينظف شقتها مقابل سكوتها عن ماضيه مع النساء. كاد يسألها عن المستقبل ولكنه تلعثم وبلع استفساره. في تلك اللحظات التي كان زينو يعمل فيها بتنظيف الملحق بينما السيدة تشرف وتراقب. بلغت أزمة الفتى ذروتها ثم بدأت بالإنحدار حين ابتسمت له الفاتنة التي تهدده، ابتسم لها ثم أكمل عمله، تمنى لو تكون جادة في رسالتها، لم يستجب ظناً منه بأنه أخطأ التقدير، بقي يرمقها بطرف عينه، هاله دفء العرض وسخاؤه فبدأ يرتجف، في تلك الظهيرة شنت الذئبة هجوماً ضارياً وافترست الحمل .
تعلُّقُ المخضرمة بالغرِّ سهَّلَ عليه أمر استسهالها ورفع الكلفة بينهما في السرير وبعيداً عنه. أمسك بنجمة سداسية ذهبية تضعها في عنقها فأبعدت يده برفق عنها. غضب منها فاشترته بقبلة. عرف لاحقاً السر وندم على طلبه.
بينما هي بجانبه أشارت بيدها صوب غرفة مصطفى وسألت : هل علم بأنك ..... تزورني؟
- لا
- إياك !!
صبيحة الخامس من شهر حزيران من العام 1967 سمع زينو صفارت إنذار يسمعها لأول مرة . سأل مصطفى عنها فقال له بأنها بسبب الحرب بين العرب وإسرائيل. وقفا على السطح يتابعان بعض الجيران يطلي زجاج النوافذ بالأزرق النيلي "كي يحجب الرؤية عن طيران العدو" ، وسمعا بائع الجرائد قرب سينما ستاركو يلعلع بصوته بأن الحرب قد بدأت . عادا إلى غرفة مصطفى، سمعا المذيع يتلو بلاغاً عسكرياً بخصوص منع التجول ليلاً.
نزلا إلى الشارع يستطلعان ، مجموعات من الناس تتحلق حول الراديوات وتهلل لانتصارات العرب. عادا إلى الغرفة يتشاوران كيف سيذهبان إلى العمل في ظل منع التجول. قال مصطفى بأنه سيذهب بطريقته وبأنه لا يخشى أحداً فماشاه زينو دون أن يسأل كيف.
من استطاع الحضور من زملائهما إلى العمل في تلك الليلة كان يتحدث بزهو عن "النصر العربي" السريع المؤزر المدعوم من روسيا، و إلى حد ما من الصين. كما دار النقاش بينهم بين معاد لليهودي بالمطلق ومعاد للصهيونية فقط . انحاز الأممي مصطفى إلى المعادين للصهيونية وسانده زينو في موقفه دون أن يعرف الفرق.
ضوء البهجة بالنصر خفت في اليوم الثاني مع تواتر أخبار الانسحابات "التكتيكية" العربية وتقهقر الجيوش عن الجبهات وتبادل التراشق بمدفعية التخوين، وما إن حل اليوم الثالث للعدوان حتى انجلت الأمور، ذاب ثلج ضحك القيادات المحاربة عبر الإذاعات على عقل المواطن، وعلى عقولهم قبله. بان مرج الحقيقة بعشبه اليابس الأعجف، العالم بأسره عرف بأن إسرائيل احتلت شبه جزيرة سيناء بكاملها من مصر وتوقفت عند قناة السويس، واحتلت الضفة الغربية من الأردن، كما احتلت الجولان السوري الذي كان زينو ومصطفى يغنيان بحماس مع إذاعته:" ميراج طيارك هرب...مهزوم من نسر العرب". واستمر زينو في استساغة ذلك النشيد وترنيمه حتى بعد أن أفل نجم النصر الخلبي والغفلة واستغباء المستمع العربي، إنما بخيبة وعتب حين تأكد من تكرار خبر "النكسة العربية" الذي تبثه إذاعة لندن فيقفل المذياع ويشتم المذيع "الإمبريالي اليميني الخائن".
في اليوم الرابع تناهى لسماع زينو هرجاً في الفسحة أسفل العمارة، أطل من السطح العالي فرأى عدة سيارات خاصة وعمومية تحمل حقائب سفر وتقل عدداً كبيراً من المقيمين في وادي أبو جميل بمن فيهم سيدته الجميلة. ركض على الدرج نزولاً ، مر بجانبها وتجاوزها، صار يكرهها ، كاد يسألها إن كانت يهودية أم صهيونية، تأملها طويلاً عن بعد، ومضى في طريقه دون أن يكلمها.
بالتزامن مع عتم النكبة والإحباط حكى مصطفى لزينو عن مسؤول عربي تسنَّم قمة هرم الحكم في بلده كمكافأة له جاءت على حساب كرامة الوطن والمواطن والقضية ودم آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين الذين لم يتم العثور عليهم لغاية الآن، ولكن نهجه القمعي الحديدي الناري كمم الأفواه وكبل الأقلام وسمم الأفكار وفرض على الناس تطويب ذلك الغضنفر كحامي حمى الديار العربية وبأنه سوف يسترجع الأراضي المحتلة إنما في الزمان والمكان اللذين يحددهما، ولكن، سوء حظ القضية والشباب العربي، أو حسن حظهما ربما، قضى أن يموت حامي حمى الديار، كما يموت كل الناس، قبل أن يأتي الزمن المناسب للتحرير.
صفعة جديدة من كف الحظ على وجه زينو. جرت الانتخابات في العام 1968 ولم يُفلِح النائبُ الذي توظف زينو بواسطته في دخول الندوة البرلمانية، رسب النائب فرسب زينو وحلَّ مكانه في الفندق حامل كرت توصية من النائب الجديد. وجهت إدارة الفندق إنذاراً لزينو. عاد الفتى إلى فضاء العراء والتشرد ونقطة الصفر للبحث عن عمل. توسط له أحد أبناء المنطقة للعمل في مطعم في منطقة الروشة.
عمل زينو هناك بضعة أشهر، صاحب المطعم لا يدفع لعماله سوى النزر اليسير من مستحقاتهم بحجة سوء وضع العمل، وفي النهاية أقفل مطعمه وشرَّد بؤسائه. صار زينو ونقطة الصفر صديقان لدودان لكثرة ما مرت و مرمرت مشواره الملىء بالحجارة والشوك والصعاب. اشتبه الصبي أن يكون بين قدره وقدر أمته نوع من التواطؤ السري.
ملاحظة : في الحلقة التالية (زينو 9) سوف يخبرنا "زينو" بغصة أنه نسي أمه وأخوته في غمرة انغماسه في وهدة رغباته الغريزية البهيمية. وسوف يخبرنا بتعابيره البسيطة أنه ابتكر أسلوباً لتصليب إرادته والانتصار على الذات. إنما كيف ؟
محمود شباط
الخبر في 10/06/2012

CONVERSATION

0 comments: