بردة كعب وكاسي الحطيئة - هؤلاء بين أيدي هؤلاء/ كريم مرزة الاسدي

1 - كعب بن زهير بحضرة الرسول الكريم    (ص) ، و(بانت سعاد ) التي خلدته :
المقدمة :
كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني ، وأمه كبشة السحيمية ، كنيته أبو المضرَّب شاعر مخضرم عاش في نجد عصرين مختلفين ،هما العصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام  ، ولادته لم يحددها مؤرخو الأدب ، ولكن وفاته دوّنها الزركلي في (أعلامه) سنة (26 هـ / 645 م) ، وهو سليل عائلة موهوبة بالشعر والحكمة ، فأبوه زهير بن أبي سلمى ، وأخوه بجير وابنه عقبة وحفيده العوّام كلهم شعراء ، درّب الزهير ولديه على نظم الشعر وإجادته تماماً ، خالياً من كلً عيب وضعف  حتى فاق كعبٌ الحطيئة في الشهرة ، فالرجل من الطبقة الرفيعة ، اشتهر في الجاهلية ، وهجا النبى ( ص) ، وشبّب بالنساء المسلمات ، فهدر الرسول دمه ، ومن ثمّ جاء مستأمناً  ، فأمنه ، وأسلم على يديه ، فأنشد الشاعر لاميته الشهيرة (بانت سعاد) (21) ، التي طارت شهرتها عبر الآفاق والأزمان حتى يومنا التعبان ، خمسها الشعراء الكبار ، وشطروها ، وعارضوها  ، وترجمها المترجمون الأكفاء في غربة الديار ، فتـُرجمت إلى الإيطالية ،  ونشرها مترجمة إلى الفرنسية المستشرق ، (رينيه باسيه ) ، وعني بها ، وشرحها شرحا جيدا، صدره بترجمة كعب ، وهنالك ترجمات إلى الأنكليزية ، واللاتينية ، والألمانية .  
وللامام أبي سعيد السكري " شرح ديوان كعب ابن زهير" ،  ولفؤاد البستاني " كعب ابن زهير " ، وكلاهما مطبوعان  (22) ، وشرحها كثيرون من غيرالسكري ، منهم ابن دريد (933 م) ,  والتبريزي (1109 م) ، وابن هشام (1360 م) ، والباجوري (1860م) ، وطبعت مراراً في أوربا  والشرق , منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي في ليدن ، وفي القرن التاسع عشر  في هال وليبسيك وبرلين وباريس ، وفي مطلع القرن العشرين طبعته قسنطينة ، ثم بيروت سنة (1931 م) (23).
كعب وأخوه بجير  ابنا زهير ، وموقفهما من النبي (ص) :
يذكر ثعلب  في (مجالسه) خرج كعب وبجير ابنا زهيرٍبن أبي سلمى " إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى بلغا أبرق العزاف فقال لبجير: الق هذا الرجل وأنا مقيم لك ها هنا فانظر ما يقول. قال: فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه فاسلم، وبلغ ذلك كعباً فقال :
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة  *** على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلقٍ لم تلق أماً ولا أبا ****  عليه ولم تدرك عليه أخا لكا
قال فبلغت أبياته رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، وقال : " من لقى منكم كعب بن زهيرٍ فليقتله " . فكتب إليه بجير أخوه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك. ويقول له : انج وما أرى أن تنفلت. ثم كتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم ويقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول له : إنه من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ،  قبل منه رسول الله وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعبٌ وقال القصيدة التي اعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها : " بانت سعاد فقلبي اليوم متبولُ " ، ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وكان مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه مكان المائدة من القوم ، حلقةً ثم حلقة ثم حلقة ، وهو في وسطهم، فيقبل على هؤلاء فيحدثهم، ثم على هؤلاء ثم هؤلاء ، فأقبل كعبٌ حتى دخل المسجد، فتخطى حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله، الأمان. قال: ومن أنت؟ قال : كعب بن زهير. قال : أنت الذي تقول ، كيف قال يا أبا بكر؟ فأنشده حتى بلغ :
سقاك أبو بكر بكأسٍ روية *** وأنهلك المأمور منها وعلكا
فقال : ليس هكذا قلت يا رسول الله ، إنما قلت :
سقاك أبو بكرٍ بكاسٍ روية ... وأنهلك المأمون منها وعلـكا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مأمونٌ والله " ، وأنشده ::
" بانت سعاد فقلبي اليوم متبول " ، حتى أتى على آخرها . " (24)
   ويذكر ابن كثير في (بدايته ونهايته ) رواية أخرى ، وعلى العموم الروايات عن سيرة الرسول (ص) ، وأحاديثه ، تـُمحّص كثيرا ، ويُبحث عن سندها ، وثقة رجالها ، فهي أقرب لواقع حالها، وإن اختلف بعض مضامينها، إليك ملخص ابن الكثير، وقارن : في موسم حج سنة ثمان هـ ، بقى أهل الطائف على شركهم من ذي القعدة حتى رمضان سنة تسع هـ ،   ولمّا قدم رسول الله (ص) من منصرفه عن الطائف ، كتب بجير بن زهير ابن أبي سلمى إلى أخيه لابويه كعب بن زهير يخبره أن الرسول لا يقتل أحدا جاءه تائبا ، وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجائك من الارض .
وكان كعب قد قال :
ألا بلغا عني بجيرا رسالة ***فويحك  فيما قلت ويحك هل لكا
 فبين لنا إن كنت لست بفاعل ٍ**** على أي شئٍ غير ذلك دلكا
 على خلق لم ألف يوماًاً أباً له  ***عليه وما تلقى عليه أبا لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف ٍ**** ولا قائل إما عثرت لعالكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ** فأنهلك المأمون منها وعلكا
قال ابن إسحاق: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير أكره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها، فقال رسول الله (ص) لما سمع (سقاك بها المأمون) : " صدق وإنه لكذوب أنا المأمون ، ولما سمع (على خلق لم تلف أما ولا أبا ... عليه)  - كذا - قال : " أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه " .
قال ثم كتب بجير إلى كعب يقول له :
من مبلغ كعبا فهل لك في التي***** تلوم عليا باطلا وهي أحزم
 إلى الله لا العزى ولا اللات وحده***فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت**من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شئ دينه * **** ودين أبي سلمى علي محرم
قال فلما بلغ كعب الكتاب ضاقت به الارض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه ، وقالوا هو مقتول ، فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله (ص) ، وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت بينه وبينه معرفة من جهينة ، فغدا به إلى الرسول  (ص) في صلاة الصبح فصلى معه ، ثم أشار له إلى الرسول ، فقال هذا رسول الله ، فقم إليه فاستأمنه ، فقام ، وجلس إليه ،  ووضع يده في يده ، وكان الرسول لا يعرفه ،  فقال : يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن جئتك به ؟ فقال الرسول " نعم " ، فقال إذا أنا يا رسول الله كعب بن زهير ، وثب عليه رجل من الانصار فقال : يا رسول الله، دعني وعدو الله أضرب عنقه ؟ فقال: دعه عنك فإنه جاء تائبا نازعا " قال : فغضب كعب بن زهير على هذا الحي من الانصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير. (25)
وفي ( مجالس ثعلب ) عن موسى بن عقبة ، أنه  قال : أنشد كعب رسول الله (ص) في مسجده بالمدينة (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)
فلما بلغ :
إن الرسول لسيفٌ يستضاء به******مهنَّذ من سيوف الله مسلول
في صحبةٍ من قريشٍ قال قائلهم  *** ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشف ***** لدى اللقاء ولا ميلٌ معازيل
أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير (26)
، وورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده القصيدة ، وقد نظم ذلك الصرصرى في بعض مدائحه ، وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن الاثير في الغابة، قال : وهى البردة التى عند الخلفاء . (27) ، وأن البردة النبوية بيعت في أيام المنصور الخليفة العباسي بأربعين ألف درهم ، وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول . (28) ،
أمّا القصيدة البردة ، فهي لامية من البحر (البسيط)  ،لا تتجاوز ( 58 ) بيتاً ، تقسم إلى ثلاثة أقسام : ما بين أبياتها (1 - 12) ، يطلّ بإطلالتها الغزلية المألوفة في عصره ، ويواصل مسيرته ،من خلال أبياته العشرين التالية (13 - 33) ،  لوصف ناقته ، محبوبته الثانية ، ورفيقة صحرائه ، وليله ، وما تبقى منها ( 34 - 58)، يخصصها للاعتذار من النبي (ص) ، ومدحه ، ومدع المهاجرين ، وإليك منها ، ومنهلها :
بـانَتْ سُـعادُ فَـقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ *****  مُـتَـيَّمٌ إثْـرَها لـم يُـفَدْ مَـكْبولُ
وَمَـا سُـعَادُ غَـداةَ البَيْن إِذْ رَحَلوا ** إِلاّ أَغَـنُّ غضيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ
هَـيْـفاءُ مُـقْبِلَةً عَـجْزاءُ مُـدْبِرَةً **** لا يُـشْتَكى قِـصَـــرٌ مِـنها ولا طُولُ
تَجْلُو عَوارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَتْ **** كـأنَّـهُ مُـنْـهَلٌ بـالرَّاحِ مَـعْلُولُ
أكْـرِمْ بِـها خُـلَّةً لـوْ أنَّهاصَدَقَتْ **** مَـوْعودَها أَو ْلَوَ أَنَِّ النُّصْحَ مَقْبولُ
ولا تَـمَسَّكُ بـالعَهْدِ الـذي زَعَمْتْ ***** إلاَّ كَـما يُـمْسِكُ الـمـاءَ الـغَرابِيلُ
كـانَتْ مَـواعيدُ عُـرْقوبٍ لَها مَثَلا ****** ومـــا مَـواعِـيدُها إلاَّ الأبــاطيلُ
تَـمُرُّ مِـثْلَ عَسيبِ النَّخْلِ ذا خُصَلٍ ****** فـي غـارِزٍ لَـمْ تُـخَوِّنْهُ الأحاليلُ
تَـسْعَى الـوُشاةُ جَـنابَيْها وقَـوْلُهُمُ *****  إنَّـك يـا ابْـنَ أبـي سُلْمَى لَمَقْتولُ
فَـقُـلْتُ خَـلُّوا سَـبيلِي لاَ أبـالَكُمُ ******  فَـكُلُّ مـا قَـــــــدَّرَ الـرَّحْمنُ مَفْعولُ
كُـلُّ ابْـنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ ****** يَـوْماً عـلى آلَـةٍ حَـدْباءَ مَحْمولُ
أُنْـبِـئْتُ أنَّ رَسُـولَ اللهِ أَوْعَـدَني* ****** والـعَفْوُ عَـنْدَ رَسُـولِ اللهِ مَأْمُولُ
لا تَـأْخُذَنِّي بِـأَقْوالِ الـوُشاة ولَـمْ ***** أُذْنِـبْ وقَـدْ كَـثُرَتْ فِــــــيَّ الأقاويلُ
حَـتَّى وَضَـعْتُ يَـميني لا أُنازِعُهُ ******* فـي كَـفِّ ذِي نَـغَماتٍ قِيلُهُ القِيلُ
إنَّ الـرَّسُولَ لَـسَيْفٌ يُـسْتَضاءُ بِهِ ******* مُـهَنَّدٌ مِـنْ سُـيوفِ اللهِ مَـسْلُولُ (29)
ومما يستجاد لكعب :
و كنت أعجب من شيء لأعجبني***سعي الفتى وهو مخبوء له القدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها  ******  فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل  ****لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر(30)
أدعك بعد مقطع من القصيدة الخالدة ، وأبيات القدر المحتوم ما بين غمضة عين وانتباهمها ، لأدخل إلى عالم الحطيئة ، وقاعدهُ الكاسي ، ووقوفه بين أيدي الخليفة الفاروق ، الرادع للسانه ، وحامي الناس من بذاءة هجائه  !!
2 - الخليفة عمر بن الخطاب بين الحطيئة والزبرقان ، ومَن بينهما :
أزمعتُ يأساً مبيناً من نَوالكمُ  ****ولا تَرى طارداً للحرِ كالياس ِ
دع المكارمَ لا ترْحلْ لبغيتها  *** واْقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي
من يفعلِ الخيرَ لا يعدم جوازيهُ**لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ ِ
هذه الأبيات قالها السيد الحطيئة في حق منكود الحظ (الزبرقان) ، ولكن السيد لم يعد سيداً ،عندما وضعه الخليفة الراشدي الثاني في (قعر مكرمة) لبذاءة لسانه ، فاستعطفه الشاعر (لأفراخ بذي مرخ) ، فاشترى منه الخليفة ذمة المسلمين ، على أن لا يعرض لأعراضهم من بعد ، فماذا حصل من بعد ؟!!
يروي الحصري القيرواني في (جمع جواهره ، وملح نوادره ) : " إن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : هجاني بقوله :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها  *** واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال : علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ؟ فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس :
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخ **** زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر
غادرت كاسبهم في قعر مظلمةٍ***فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
..............
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ؟ قال قلت لأبي :
ولقد رأيتك في المنام فسؤتني *** وأبا بنيك فساءني في المجلس
وقلت لأمي :
تنحّي فاجلسي مني بعيداً *** أراح اللّه منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سرّاً***وكانوناً على المتحدّثينا " (31)
وقد مرّ عليك (بذي مرخ) ، وهو اسم لمكان ، و ( زغب الحواصل) ، كناية عن الجوع ، و (قعر مظلمة) ، مفهوم هو السجن ، و (أبا بنيكِ) يعني زوج أمه ! والحقيقة ، هجا أباه وعمه وخاله بالجملة ،بل يقذف نفسه كما يروي شعره البهيقي في ( محاسنه ومساوئه) ، وغيره  :
لحاك الله ثم لحاك حقـّــاً ** * * أبــــاً ، ولحاك مــن عــم وخــالِ
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي** وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم؛ لا حياك ربي  ****** وأبواب الســــفاهة والضلالِ (32)
وأراد هذا الهجّاء العجيب يوماً أن يهجو لمجرد الهجاء ، فحارت شفتاه مَن يختار؟!  فولول ، وقال :
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما *** بسوءٍ فما ادري لمن أنا قائله
ولم يصبر طويلاً حتى يرى إنساناً ليصب سخطه عليه ، فأردف البيت الأول ببيت شنيع ، ردّه على نفسه ، قائلاً :
أرى ليَ وجهاً قبّحَ اللّه خلقهُ *** ** فقبّحَ من وجهٍ وقبحَ حامله
 ؤيقول ابن قتيبة في (شعره وشعرائه) : " ودخل على عتيبة بن النهاس العجلي في عباءةٍ، فلم يعرفه عتيبة، ولم يسلم عليه، فقال: أعطني فقال له عتيبة: ما أنا في عملٍ فأعطيك من غدده، وما في مالي فضلٌ عن قومي، فانصرف الحطيئة ، فقال له رجل من قومه : عرضتنا للشر، هذا الحطيئة ! قال: ردوه، فردوه، فقال له عتيبة : إنك لم تسلم تسليم أهل الإسلام، ولا استأنست استئناس الجار، ولا رحبت ترحيب ابن العم، وكتمتنا نفسك كأنك كنت معتلاًّ!  قال: هو ذاك ، قال: اجلس فلك عندنا ما تحب، فجلس، ثم سأله، من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول :
 ومَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عِرضِهِ *** يَفِرْهُ ومَنْ لا يَتَّق الشَّتْمَ يُشْتَمِ
يعني زهيراً ، قال : ثم من؟ قال : الذي يقول :
مَنْ يَسْأَلِ الناسَ يَحْرمُوهُ *** وسَائِلُ اللهِ لا يَخِيبُ
يعني عبيداً ، قال : ثم من؟ قال : أنا، قال عتيبة لغلامه: اذهب به إلى السوق فلا يشيرن إلى شيءٍ ولا يسومن به إلا اشتريته له، فانطلق به الغلام، فعرض عليه اليمنة والخز وبياض مصر والمروي، فلم يرد ذلك، وأشار إلى الأكيسة والكرابيس الغلاظ والعباء، فاشترى له منها بمائتي درهم، واشترى له قطفاً، وأوقر له راحلةً من تمرٍ وراحلةً من بر، ثم قال له : حسبك، فقال له الغلام: إنه قد أمرني أن أبسط، يدي لك بالنفقة ولا أجعل لك علةً، فقال: لا حاجة لقومي في أن تكون لهذا عليهم يدٌ أعظم من هذه، فانصرف الغلام إلى عتيبة فأخبره بذلك، وقال الحطيئة:
سُئِلْتَ فلم تَبْخَلْ ولم تُعْطِ طائلاً  *******   فَسِيَّانِ لا ذَمٌّ عليكَ ولا حَمْدُ
وأَنْتَ امْرُؤٌ لا الجُودُ منك سَجيَّةٌ *** فتُعْطِى وقد يُعْدِى على النَّائِل الوَجْدُ " (33)
ومرّ عليك زهير بن أبي سلمى , وكان الحطيئة راويته , وطرق سمعك عبيد بن  الأبرص ، لا أدري ، وربما أنت معي لا تدري ، أيّ هجاء أقسى من هذه الأهاجي ؟! وأي قابلية على النقد والسخرية عند هذا الرجل الحطيئة ؟! ...إنه مطبوع عليهما ، إضافة إلى موهبته الشعرية ، ولا يمكن أن تجتمع هذه الخصائل من شعر ٍ رائع ، ونقد لاذع ، إلاّ لدى االشعراء الكبار متعددي المواهب ، ولو وُظـِّفتْ هذه للصالح العام ، لتحوّلت صور الطغاة الكبار إلى صعاليك صغار ، ولكن الشاعر المقدام ! هجا نفسه , وله الحق أن ينعتها بما يشاء , بل سخر من أمه وأبيه ، وهذا أعق العقوق  ، ولو من باب المزاح ، ورفع العتاب عن السابق والمسبوق ، وروى بعضهم ، سأل أمه : من أبوه؟ فخلطت عليه ، فغضب عليها وهجاها، ولحق بإخوته . من بني الأفقم ونزل عليهم في القرّية التي يسكنها بنو ذهل  ، ويروي صاحب (الأغاني) عن الأصمعي  خبر الحطيئة ، ومدحه لبني ذهل ليسترد ميراثه من الأفقم بقوله:
إن اليمامة خيرُ ساكنها **** أهل القريّة من بني ذهل
الضامنون لمال جارهم ***** حتى يتم نواهض البقل
قومٌ إذا انتسبوا ففرعهمُ**فرعي وأثبت أصلهم أصلي
 ويستطرد الأصمعي خبره قائلاً :  فلم يعطوه شيئا فقال يهجوهم
 إن اليمامة شر ساكنها *** أهل القرية من بني ذهل (34)
أتيت بالمديح تعمداً ، لكي لا تتخيل أنّ الشاعر المسكين له وجه واحد ! ، وسأزيد منه ، المهم نتابع المتبوع ، أمّا ابن بدر الزبرقان ، فحاله حال المغدور بالبهتان ، من الحطيئة البطران ، معه ومع صاحب الإحسان ، الذي قوبل بالنكران ، ومن هنا يتجلـّى الفرق المبين بين دعبل الوجه الآخر للشعر العربي ، وهجائه لرموز السلطة والسلطان  - كما دوّنـّا في بحوثنا عنه , وسنكمّل المشوار- وبين الحطيئة  وهجائه المقذع لأهله والخلان ، ويجب علينا أن نتفهم الزمان غير الزمان ! .
ولا أتركك عند هذا الحدّ المحدود ، بل  - ربّما أزيدك - قد نعته عبد القادر البغدادي في (خزانة أدبه) ، أنه كان سفيهاً شريراً. ينتسب إلى القبائل، وكان إذا غضب على قبيلة انتمى إلى أخرى ، و قال عنه ابن الكلبي : كان الحطيئة مغموز النسب، وكان من أولاد الزنى الذين شرفوا (35) ، وهكذا ترى مَن يقذف الناس يُقذف حتى لو كان شاعراً ، ولك أنْ تعلم أيضاً ، كما أعلمنا أبو هلال العسكري في (ديوان معانيه ) العسكري ، لمّا  " خلى سبيله عمر، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً، وجعل له ثلاثة آلاف درهم اشترى بها من أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إياه عن الهجاء ويتأسف :
وأخذتَ اطرار الكلامِ فلم تدع ***** شتماً يضرُّ ولا مديحــاً ينفعُ
ومنعتني عِرضَ البخيل فَلم يخفْ ***شتمي وأصبح آمناً لا يجزعُ (36)
بقى علينا التعريف به ، فاسمه: جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم من بني عبس من مضر ، فهو عدناني النسب  ، كنيته أبو مليكة  بالتصغير، وُلد من أمة اسمها الضراء  ، مغموز النسب ، واختلف في تلقيبه بالحطيئة ، فذهب بعضهم  لقصره وقربه من الأرض ، أو  لدمامته ، وهذا هو الأصح على أغلب ظني ، ورماه الآخرون بالأتعس ، ربما للنيل منه لقباحة قوله ، وهو أحد فحول الشعراء ، متصرف في فنون الشعر : من مديح وهجاء للتكسب بين ترغيب وترهيب، وفخر، ونسيب ، للزهو واللهو  ، ومن مديحه لآل شماس ، الذين كرّموه ، فقابلهم بالجميل لقوله الرائع الجميل  ، الذي يستشهد به أبو العباس ثعلب في (قواعد شعره) - باب الأمر- :
أقلوا عليهم لا أبـــــــــــا لأبيكم ****  من اللوم أو سُدوا المكان الذي سلوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ****  وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا (37)
قال ابن قتيبة : " وكان الحطيئة راوية زهير ، وكان جاهلياً إسلامياً ، ولا أراه أسلم إلا بعد وفاة رسول الله (ص) ؛ لأني لم أجد له ذكراً فيمن وفد عليه من وفود العرب؛ غير أني وجدته في خلافة أبي بكر رضي الله عنه يقول :
أطعنا رسول الله إذ كان حاضراً**فيا لهفتي ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكراً إذا مات بعده  ****  فتلك وبيت الله قاصمة الظهر
وقال ابن حجر في " الإصابة " : كان أسلم في عهد النبي (ص) ثم ارتد ثم أسر، وعاد إلى الإسلام . (38)
توفي سنة ( 59 هـ /  679 م )  ، عام ولادته في الجاهلية غير معروف ،وعند وفاته أوصى أنْ يحمل على أتان تذهب وتجيء به ، وهو يقول :
لا أحدٌ ألأمُ من حُطيّهْ *** هجا بنيه وهجا المُريّهْ
من لؤمه مات على فـُريّهْ
المُريّهْ تصغير المرأة ، والفريّهْ هي الأتان : أنثى الحمار ، ومع الإجلال للأستاذ الفاخوري ، يذكر هذا الشعر ، ووصية الشاعر دون ذكر المصدر ، وبلا تعليق ، الشعر من الرجز ، يوجد في (التذكرة الحمدونية ) ، لابن حمدون ، و(الأغاني ) للأصفهاني ، إذ  يذكران الوصية وينسبان الشعرإليه (40) ، بينما البهيقي في (محاسنه ومساوئه ) ، يذكر وصيته , ويقول بعد وفاته قال الشاعر فيه ، ولم يدوّن لنا اسمه (41) ... ،  أمّا أنا لا أميل لصحة الوصية المروية ، وأرى أنّ الشعر منتحل ، رمي به ، وليس له !! هذا ما يقوله عقلي ، ولا أدري ! والله الأعلم بما خفي وأعظم .    
 

CONVERSATION

0 comments: