لغز لوحة الزجاج الدامي/ نيفين ضياء الدين


يقع منزل الدكتور سعد القاضي في شمال شرق مدينة طرطوس السورية,ويحيط بالمنزل حديقة غَنّاء هي موطن لكثير من طيور المدينة علي إختلاف أنواعها والوانِها,يتسم المنزل بالبساطة النابعة من بساطة المعمار وبساطة الروح-كما يظن البعض-ولكن الحقيقة تكمُن في أن هذِة البساطة نابعة من فراغ الروح وهوّة النفس.وعلي عكس الصورة المعتادة فإن بساطة البناء الخارجي لا تعكس بساطة وتواضع في الأثاث الداخلي للمنزل,إنما تعكس صورة مغايرة للأولي تكمُن في مظاهر البهرجة والطرف المتعددة الأنواع والأشكال والألوان.فمثلآ في بهو المنزِل تجد قطع الأثاث الأسباني و الإيطالي والفِرنسي الباهظة الثمن مُحاطة بالفازات الشينواة الصينية وفي محيط هذا البهو تجد الأعمدة المصنوعة من المرمر والمزركشة بماء الذهب.
كان منزل الدكتور سعد القاضي أية في الفخامة والأناقة والجمال,ولكن هذِة الفخامة تخفي وراءِها نهرآ من برود المشاعر وتحجُر القلب كما سيتضح في شخصية الطبيب وزوجتة.
يُعد الدكتورسعد القاضي من أكفأ الجراحيين في مدينة طرطوس, وقد حصل علي زمالة الجراحيين الملكية في بريطانيا,وأجري العديد من العمليات الجراحية الناجحة,فحقق شهرة عالمية ومكانة مرموقة ليس فقط في عالم الطب ولكن أيضآ من الناحية الإجتماعية.
تزوج هذا الطبيب المرموق مِن إبنة عمة فاطمة القاضي ,وأنجبا طفلتين هما زينب وثريا.زينب- الإبنة الكبرى-أية في الجمال,كانت تشبة والِدتها كثيرآ,فشعرها المجعد مصبوبآ في قالب من الذهب الخالص,وعيناها ملونتين بزرقة  السماء الصافية,ولكن جمال زينب سطحي المعالم كجمال القشرة الخارجية للفازة الشينواة الصينية,لم يكن جمالِها غائرآ في الروح علي عكس شقيقتها الصغرى ثريا.ملامح ثريا الخارجية عادية جدآ,فبشرتها حنطية اللون,وشعرها وعيناها ملطختين بسواد الليل,بالإضافة إلي إعاقتها الجسمانية التي تمنعها من المشي كشقيقتها زينب, ولكن جمالها الحقيقي يكمُن في روحها الطيبة وشخصيتها الملائكية ومشاعِرها الرقيقة.
حاول والدها أن يعالج إعاقتها الجسمانية, عــرضها علي العديد من أطباء الأعصاب ولكن دون جدوى, فقد كان مرضها عيبآ خلقيآ لا يمكن عِلاجه.فبدلآ من أن يحيطها والدها ووالدتها وأختها بالحنان والرعاية والعطف,لم تجد سوى الإهمال والقسوة والبرود ومشاعر الإزدراء والكراهية فوالدتها كانت لا تحب أن تنظُر إليها,وكانت تأمر الخادمة بحبسها في غرفتِها بالطابق العلوي,بل وإدعت أمام الجيران و الأقارب بأن ابنتها الصغرى ثريا قد ماتت!حتي تتخلص من عار تلك الطفلة المشلولة! ووالدها كان هو الأخر يتجنب رؤيتها-وذلك لأنها علي حد قولة-وصمة عار تلطخ تاريخة في عالم الطب! وتنتقِص مِن مكانتة كطبيب!
عاشت الطفلة ثريا وحيدة حبيسة جدران حُجرتها,لم ترضع حليب صدر والِدتها كغيرها من الأطفال,حرموها من اللهو واللعب,وحتي من التعبير بحرية عن مشاعِرها,لم تذهب ثريا للمدرسة كأختها زينب و أكتفوا فقط بأن يتولي هذِة المهمة معلم خاص,وبالرغم من كل هِذة المعوقات,فقد حققت ثريا نجاحآ باهرآ في دراستها بالإضافة لموهبتها الفنية الواضحة المعالم منذ نعومة اظفارها.تعلمت ثريا مبادئ الرسم علي يد مُعلِمها الخاص ولكنها لم تكتفي بذلك,فبدأت تطلب من خادِمتها وصديقتها الوحيدة رقية أن تشتري لها كتب في فنون وأنواع الرسم والخطوط, وكانت تقوم رقية بهذِة المهمة خير قيام,تعرفت ثريا علي أنواع المدارس الفنية المُختلفة كالسريالية والواقعية والتكعيبية والتشكيلية وغيرهم وبدأت تعتبر الرسم وسيلتها الوحيدة للتعبير عن مشاعرها المكبوتة.
وفي إحدى الأيام,سمعت رقية بخبر إنعقاد مسابقة فنية عالمية في شهر يناير بالعاصمة.فنقلت هذا الخبر لثريا التي فرِحت كثيرآ وتمنت أن تشارك في هذة المسابقة بأي طريقة.قررت ثريا علي أن تشارك في هذة المسابقة دون عِلم أهلها وبأسم مستعّار ودون ذِكر أي بيانات شخصية عنها ووعدتها رقية بأن تقف إلي جانبِها وتساعِدها بكل ما أوتيت من قوة.بدأت ثريا تفكر في موضوع اللوحة التي ستُشارك بها في المسابقة,وشرعت في تنفيذِها,كانت اللوحة غامضة وغريبة,كانت لغزآ لا يستطيع أحد أن يفُك شفرات طلاسِمة.إنها لوحة غامضة للوح من الزجاج المكسور والمشقوق نصفين علي شكل حرف الثاء,مُلطخ باللون الأحمر وعلي أرضية اللوحة يوجد قطرات حمراء وفي منتصف هذا اللوح الزجاجي المكسور يوجد ينبوع ماء يتدفق ماءُه الحليبي اللون من قلب هذا اللون الأحمر ويتساقط علي هذا الينبوع بضع قطرات صفراء اللون وكأنها عسل ملِكات النحل ويحيط بالمكان دُخان كثيف بدايتة تقع في مغارة مجهولة ونهايتة تمتد في الأفق.إنتهت ثريا من رسم لوحتها الغامضة و أرسلتها مع رقية لتشارك بها في لجان تحكيم المسابقة.وجاء اليوم المحدد لبداية المسابقة وذهب الجميع لرؤية اللوحات المختلِفة وكان من بين الحاضرين الدكتور سعد القاضي وزوجتة.
أُعجب الجميع بتِلك اللوحة الغامِضة بالرغم من عجزِهم عن تفسيرها,وأجمع جميع أعضاء لِجان التحكيم علي فوزِها بالمركز الأول,ولكن اللوحة كانت مجهولة الصاحب فبقيت الجائِزة يتيمة ,لا تجد من يتسلمها.كان رأي الأستاذ سعد القاضي أن صاحب هذِة اللوحة يتمتع بزوق رفيع نابع من تربية أرستُقراطية عالية وكانت زوجتة تتفق معةه في الرأي.أنفض جميع الحاضريين بعد نهاية المسابقة ولم يتبقى منهم سوى شابآ يبدو عليه معالم الثراء وحُسن المظهر  والتربية,كان حائرآ في هذِة اللوحة, ويتمنى أن يعرف من هو صاحِبها؟وما مقصدة وعن ماذا يُعبر؟بدأ يسأل أعضاء اللجنة لعّلة يجد بيانات تُرشدة لصاحب اللوحة ولكن دون جدوى,فوقف يائسآ بائسآ أمام اللوحة وأخذ يُتمتم قائِلآ:
يا نهرآ داميآ قابعآ
في بطن حوت الزجاج المكسور
يا درةٍ مفقودةٍ في أرض التية
يتيمة الجذور داخِل قبو الدُخان الجريح
من أنتِ يا صاحبة القلب الذبيح؟
من أنتِ يا مليكة فقدت عرشها
غدرآ دون تلميح
هل أنتِ حنان الأم علي ولدِها الرضيع ؟
أم أنكِ تبرآ لامعآ في سماء
منجمٍ هنديٍ بديع ؟
كان ذلك الشاب يأتي كل يوم لمقر المُسابقة ويسأل لعّلة يجد بيانات ترشدة لصاحِب الصورة, وبعد مرور أسبوع وجد سيدة متواضعة الملبس تتسلم جائزة اللوحة فسألها هل أنتِ صاحبة اللوحة؟فقالت لا ولا أستطيع أن أدلك علي شخصية صاحبتها ,فهذا سِرآ عاهدتها علي كتمانة.حاول ذلك الشاب أن يعرف مِن تِلك السيدة من هي صاحبة اللوحة ولكن دون جدوى, فقرر أن يتتبعها ليعرف منزِلها لعّلة يرشدة لشخصية صاحبة اللوحة, وبالفعل أكتشف ذلك الشاب أنه منزل الطبيب سعد القاضي وأن صاحبة اللوحة هي ابنتة, فأمسك بيد السيدة المتواضعة قبل أن تدخل المنزل ورجاها أن تكشف له عن هوية صاحبة اللوحة, فإستحلفتة بالله أن لا يخبر السر لأحد,فوعدها بذلك,فأخبرتة بأن صاحبة اللوحة هي ثريا الأبنة الصُغرى للطبيب سعد القاضي وأنها مازالت علي قيد الحياة ولم تمُت كما أُشيع عليها وحكت لة رقية مأساة ثريا مُنذ طفولتها فتأثر ذلك الشاب كثيرآ, وقرر أن ينصف ثريا ويُعيد لها أدميتها المفقودة, وطلب من رقية أن تُخبر السيدة فاطمة بأن عريسآ سيتقدم لخُطبة إبنتها في مساء اليوم التالي.
وعندما نقلت رقية ذلك الخبر للسيدة فاطمة القاضي فرِحت كثيرآ وبدأت تُعد زينب لهذة المناسبة العظيمة وفي مساء اليوم التالي ذهب الشاب وأسرتة لزيارة منزل سعد القاضي في الموعد المتفق علية, وتم إستقبالة هو وأسرتة بالترحيب والسرور, وبعد تناول العشاء فوجِئ الجميع بطلب الشاب,إنة يطلب يد السيدة ثريا ! ويريدها زوجة لة!فأخبرتة السيدة فاطمة بأن ابنتها ثريا قد تُوفيت منذ طفولتها,وأنها أم لأبنة واحدة هي زينب, فرد عليها ذلك الشاب قائلآ:"إن ثريا لم تتوفى ولكن قلوبِكم هي التي قد فارقت الحياة,وحل محلها الواحآ ثلجية تسكن في صدوركم".
غضبت السيدة فاطِمة كثيرآ وإشتعلت نيران غضب السيد سعد القاضي ولكنهم لم يستطيعوا الأستمرار في نكران الحقيقة, وذلك لأن الشاب قد أخبرهم بأن صاحبة اللوحة الفائزة في المسابقة هي إبنتهم ثريا وبأن الخادمة رقية هي من أخبرتة بذلك,لم يتأثر ذلك الأب المُتبلد ولم تتحرك في الأم غريزة الأمومة الفطرية!,وعلي العكس أهتم سعد القاضي بمعرفة إجابة سؤال واحد وهو:"كيف يريد ذلك الشاب أن يتزوج مِن ثريا علي الرُغم من إعاقتها؟",كانت إجابة الشاب حاضِرة وشافية فقد أقحمة عندما رد قائلآ:"ثريا كسيرة البدن ولكنها ناضجة العقل,راجحة الرأي,رقيقةالمشاعر,ولها قلب نابض هو بئر من الحنان,يحوي المآ دفينآ لشخصية قوية بالرغم من هشاشة مظهرها".
نزلت إجابة ذلك الشاب كالصاعقة علي قلب والِدها ووالِدتها,وأستمر الأب في سؤال الشاب قائلآ:
"وهل عرفت لُغز اللوحة؟"
قال له:"بكل تأكيد".
"الزجاج المكسور يرمُز لإعاقة ثريا البدنية وعجزِها عن المشي"
"واللون الأحمر يرمز لجرحِها الداخلي والذي تسبب فية أقرب الناس لها"
" والقطرات الحمراء ترمُز لعذابِها النفسي, ولذبح روحها"
"والينبوع الحليبي اللون يرمُز لصفاء نفسها وطيبة خُلقها وطهر ونقاء شخصيتها"
"والقطرات الصفراء ترمُز لضغينة والِديها وكراهيتهم لها"
"والدخان الأسود يرمز للخُطة التي نصبِت مِن حولها وأفقدتها حريتها وهويتها كأنسانة ما زالت
علي قيد الحياة,تتنفس وتشعر وتتألم"
"والكهف المُظلم المجهول هو حُجرتها أو سِجنها التي تعيش حبيسة فيها".
تعّجب الأب من هذا التحليل الدقيق,ولكنة وافق علي الزواج بشروط أهمها أن لا يعرف أحد بأن ثريا مازالت علي قيد الحياة! وأن لا يتم عمل زفاف أو فرح حتي لا يراها أي إنسان!
إنتقلت ثريا إلي منزِل زوجِها في سرية تامة وفي منتصف إحدى الليالي,وتركت منزل الألواح الثلجية,وذهبت لتبدأ ربيع حياتهاالمفقود.حققت شهرة واسعة كرسامة وحصدت العديد من الجوائِز,ومع ذلك ظلّت شخصيتها الحقيقية محجوبة,لا يعرف أحد أسمها الحقيقي ولا جنسيتها,وفي نهاية الأمر ظلت ثريا-بالرغم من ما حققت من نجاح- معّرة في نظر والِديها وهبة من الله بل وجنة في عيون زوجِها الحبيب.

CONVERSATION

0 comments: