رسالة الحب و اللاحب/ نيفين ضياء الدين


كان جالسا على عتبات سلم داره المهجور,كان يدخن سيجارا من نوع ردئ,كان وهما...حلما...انسانا فى صورة الوهم.نظر الى نظرة عابرة,لم يكترث,لم يهتم,نظر الى بقسمات وجهه الباردة برودة الماء الراكد الكثيف المغطى بطين الأرض وكأنه لب الأرض.كان قلبى ينبض كالمطرقه"وكأنه النجم الثاقب"(سورة الطارق).اعتدل فى جلسته على فجأه,فأعتقدت انه قد تنبه لوجودى ولكن عيناه كانت معلقه نحو محيط الشارع الغائم.ودون مقدمات تحرك هذا الجبل الثلجى الهادئ و بدأ فى الذوبان,تغير حاله بين طرفة عين وانتباهتها.طار محلقا صوب فتاه شاحبه ظهرت فى عرض الطريق المبهم,انقض عليها و كأنه طائر الرخ يقتنص الفريسه,اقترب منها بخطوات واثقه,سألها بأنانيته المعهوده ودون تردد ان تلبى له بعض حوائجه,اعطته ورقا وقلما,اعطته ما اراد,فالتهم الورق والقلم وطار به سريعا فى زهو وفخر الثعلب وغاب عن العيون.تمنيت لبره ان يتنبه لوجودى,لماهيتى,لهويتى وذاتى,لعقلى وجموحى,لأندفاعى وسكناتى,لخلجات صدرى وطول تفكيرى.لم يهتم بى ولا بفتاة الظلام,كان تفكيره يتأرجح فى اتجاه واحد,تفكير بدائى ساذج وكأنه الأنسان الأول, وكأنه طفل تتملكه رغباته الأوليه,كأنه نرسيسوس الهائم فى دوامة حب الذات,كان يتطلع فقط للورق والقلم,وريقات فتاة الظلام كانت هى مأربه,أخذ ما اراد بثبات الصقر وجبن الفأر...كيف للجبن والشموخ ان يجتمعا فى كيان واحد؟ضحك ضحكته الصاخبه المعهوده وكأنها انغام موسيقى الراب...ضحكه يجتمع فيها براءة الطفوله ,وطنين الأيام,زهو الطاووس وخيلاء الثعلب.ضحكه تعكس قلبا مغطى بحبات الثلج و ممطر ببقع صفراء من الورود البريه ذات الرائحه النفاذه...كان قلبه قلب الثعلب,قلب الفأر,قلب الأسد...قلب يسكنه فحيح الأفاعى و انغام العصافير.كيف رسمت طلاسم قلبه نقشا ذهبيا على اوتار نغمات قلبى؟كيف لهذا الشبح الملائكى ان يمزق سكنات قلبى بمخالبه؟كيف لهذا الكائن الأسطورى ان يغزو بجيوشه التتاريه عوالم فؤادى؟لا ادرى...لا اعرف.ارتسمت صورته البيضاء البارده على جدار قلبى.اختلط حليبها الشائب بسذاجة تفكيرى.اختلطت برودتها ببرودة نهر التيمز فى الليالى اللندنيه الشاحبه الغائمه.اجتمع فى برودة صورته الصافيه احيانا كصفاء البحر والمحجوبه احيانا اخرى بقطرات بخار الماء المنعكسه على سطح منشور زجاجى ثلاثى الأضلاع,اللونان الأبيض و الرمادى ,لا ادرى كيف نجحت صورته الباهته فى انتزاع ضلوع قلبى.تذكرت عندها قول قيس ابن الملوح فى هجر ليلى له:


رمتنى يد الأيام عن قوس محنه


فلا العيش يصفو لى ولا الموت يقرب


كعصفورة فى يد طفل يهينها


تقاسى عذاب الموت والطفل يلعب


فلا الطفل ذو عقل يرق لحالها


و لا الطير مطلوق الجناح فيذهب.


عاد الى المكان...انتشر فى الجو لون القمر الفضى الشاحب,تنبه أخيرا لوجودى فسألنى من أنا؟فقلت له ليس المهم من أنا...المهم هو من أنت؟فقال لى ستعرفينى من نغمات حديثى و عذوبة الحانى.فقلت له اطربنى بماعندك.فنظر الى نظره ثاقبه متفحصه,نظره تغلغلت فى اعماقى وكأنها التلسكوب المتتبع للنجم فى مداره.دار بيننا حديث طويل لا اعرف له بدايه ولا نهايه,كان يضحك ضحكته المدويه كموسيقى الجاز كنغمات الألات النحاسيه,كنت انظر له نظرات حالمه كنظرات الطفل لأمه اثناء الرضاع...كنت لعبه بين يديه يكسرها نصفين...كنت سعيده لوجودى معه حتى لوكنت كالعبه فى يديه.سألنى من أنا وما اسمى واين سكنى؟كنت اجيبه وقلبى يقفز فرحا يقفز طربا,تبادل معى نظرات الحب والأعجاب احسست بأن سهام كيوبيد قد نشبت فى قلبى كنت هائمه فى فضاءه اللا محدود ولكن سرعان ما انتهى الحديث وغاب...تركنى وحيده وغاب كشبح هائم فى السماء...تركنى اشدو واتغنى بكلمات ابى فراس الحمدانى قائلة:


اراك عصى الدمع شيمتك الصبر


اما للهوى نهى عليك ولا امر؟


وبعد يومان حدث بيننا لقاء,دار بيننا حديث,اشرقت شمس و جهه الطفولى البرئ فى سماء مدارى,شعرت بأن قلبى يخفق,يقفز من بين ضلوعى,يتحول الى ملاكه الحارس يطوقه,يرفرف حوله,يرعاه فى حنان.رأيت الفرحه تقفز من بين عيونه,تنشطر ,تنقسم,تتخذ اشكال الفراشات,تجمع بين قلبى وقلبه,توحد بينهما فى تألف و انسجام على انغام مقطوعه موسيقيه حالمه لبتهوفن او على انغام الكمان.قال لى انه بعد هذا الغياب كان فى شوق للقاء وانى ماءه وهواء وحب حياته الذى ملك عليه فؤاده.قال لى انه فى غيابى كان لايقرب الذاد وانه كان بين الحياة والممات...لم اصدق ما سمعت ولكن سرعان ما تحولت الى راقصة باليه تتمايل فى خفه على اوتار الحانه.كان حبى له ينبع من مجرى نهر النيل,يروى الأرض ويتلألأ فى حبات المطر التى تهطل من السماء,كان حبى له لا تسعه الأرض ولا تطيق حرارته نجوم السماء.ولكن فجأه انتشر لون القمر الرمادى الباهت فى الأفق مع ظهور فتاة الظلام...تركنى فجأه وانقض عليها انقضاض الذئب على الفريسه,دار بينهما حديث كانا يتبادلان اعذب الكلمات بل وايضا الأبتسامات...وفجأه كما تركنى تركها...دقت الطبول اعلنت غيابه عن المكان,اعلنت رحيله,اقتلع رحيله قلبى من جذوره, وحصد غيابه معالم روحى وهامت روحى فى المكان تبحث عنه شبحا كان ام انسان,ذهبت محاولاتى سدى,تسائلت نفسى وتسائلت عيونى هل من لقاء؟هل سترفرف ارواحنا وتتلاقى كما حدث فى اسطورة ايزيس واوزوريس ام ان الحلم قد انتهى وكان ما كان وعدت الى نفس الزمان والمكان.ومرت الأيام بل والشهوروتساقطت وريقات الشجر الصفراء وتساقطت معها دموعى كالسيل المنهمر,كجموح فيضان النيل,ناحت روحى كاليمامه التى تنعى وفاة وليفها,كنت اتمتم بكلمات سحريه,بطلاسم كالأميره المسحوره التى تحتاج لفارس يفك شفرات سحرها,يداوى جراح قلبها.كنت انوح قائلة لما الهجر؟لما النسيان؟تمتم وجدانى بشحوب حزنى,تمتم قائلآ:


الم اجعل لك فؤادى مهدا وسكنا


وغزلت من رموش عيونى خيوطا


هى لك مأرب وامان


الم تكن دمائى انهارا


تتغذى عليها دون فطام


اتنسى عذب الكلام


وتهجر حبا كان مغزولآ محفورا فى


قلبى على اسنة نبال السهام؟


اكنت انت السكن والمأوى


ام انك كنت غزوا محكما


اجتاح قلبى كالبلوى


اكنت انت من نسج نهاية الأحلام


ام انها كانت خرافات بلا جدوى


خرافات فى دائرة الأوهام


عاد ثانية اطل على بوجهه الطفولى الهادئ و ابتساميه الصاخبه الصادحه وكأنها طبول المعركه ونواقيس الخطر,سألنى عن حالى...قلت له كنت لعبه تتهشم فى ايدى الأيام...كنت كرة فى ملعبك تتلاقفها الأقدام قال لى هل هو الهوى؟قلت له انت اعلم به منى فأنت معلمى وأنت من قال لى اكتبى قصة الهيام.سكت لبره ثم كشر عن انيابه ونفث دخانا لم يكن دخان سجائرة ولكن دخان انفاسه وضحك قائلآ:ايحاسب المرأ على هذله كما يحاسب على جده؟ثم ضحك قائلآ هل قلت لك يوما انك حبى؟قلت له كنت انت من صنع عبير الغرام...قال من يخلط الهذر بالجد فهو احمق بلا شك...هوطفل ساذج تتناقله الأيدى ويقع فريسه فى براثن الأيام...ثم غاب كما عاد كما جاء بلا معاد

CONVERSATION

0 comments: