ذئاب الكوخ الجبلي/ محمود شباط


ازداد همس نسيمات الغروب إيذاناً بقدوم المساء . وهيمن السكون على سفح الجبل الذي يحتضن الربوة، حيث يغفو كوخ بستان جد أسامه بجدرانه الحجرية العتيقة وسقفه المغطى بأغصان الملول والسنديان. ضوء النهار يتراجع ويتلاشى تدريجياً مخلياً الفسحة لدغش المغيب، بينما أسامه يتقوقع هلعاً داخل الكوخ. ينتقل من ركن إلى آخر، وينتظر بإلحاح الخائف عودة جده الذي ذهب إلى القرية لشراء الكبريت وجلب مؤونة.

لم يعد الجد بعد، رهبة السكون والغسق تحل ببطء. ثم شرع الليل بإسدال ستاره وبدأت النجوم بالتوافد. صغراها تومض في الأبعاد السحيقة وأقربها يتوسد كاهل الجبل.

أغمض الصبي عينيه كي لا يرى تلك اللجة الحالكة. تذكر الباب المفتوح، خاف أكثر فهرع واغلقه ثم أوصده بالعارضة الخشبية كما يرى جده يفعل حين يحل الليل، ثم عاد إلى حصنه في ركن الكوخ والتف بعباءة جده. جلس ينظر حوله فلا يرى غير العتم ولا يسمع سوى عواء الذئاب وأصوات الرعاة البعيدة عنه. حالته الهلعة صارت تستحضر حكايات أمه في ليالي الشتاء المثلجة عن الذئب ذي العين الواحدة الذي يتنسم ريح الأطفال المشاغبين ويقتفي آثارهم ، والضبع الذي يبول على ذيله ويرشق الأطفال ببوله على وجوههم فيخدرهم ويتبعونه طائعين إلى مغارته ، حيث يباشر بدغدغتهم إلى أن يموتوا من الضحك فيلتهمهم.واستذكر حكايا جدته عن ثعبان الأجراس بقرنيه الذهبيين الذي يبتلع البقرة. صار يبتهل ليأتي جده سريعاً أو ان تحط جنية مجنحة وتنقذه من مأزقه، التف بالعباءة أكثر وشد عليها وعض على طرفها كي يوقف اصطكاك أسنانه. غطى فمه براحة وعينه بالأخرى وانخرط في بكائه وتنهنه وهو يحاذر إصدار أي صوت كي لا يحس به الذئب أو الضبع أو الثعبان.

ازدياد رهبة العتمة والسكون زادا من حيرته فيما عليه أن يفعله، هو خائف من العتم وتلح عليه رغبة في إنارة ضوء ولو ضئيل. وقف مرتجفاً وخطا على رؤوس أصابعه نحو باب الكوخ ، ألصق أذنه على خشبه السميك المشقق ليطمئن بأن لا ذئب ولا ضبع ولا ثعبان يتربص به، عاد أيضاً على رؤوس أصابعه إلى المكان الذي يضع فيه جده القنديل، أضاءه ثم خفف الضوء، وضعه بجانبه والتف بالعباءة مجدداً من رأسه إلى أخمص قدميه، لم يطمئن، وضع أذنه على الجدار علـَّه يسمع وقع حوافر حمار جده، خاب أمله، لم يسمع سوى هبات ريح متباعدة تأتيه من فم الوادي بردها يخدش وجنته، برد أكثر وخاف اكثر فشد العباءة حول جسده المرتجف.

جـُنّ الليل ولم يرجع العجوز، شعر الصبي بدغدغة النعاس ولكنه قاومه، لا يدري متى غالبه سلطان الكرى وغلبه فانغمس في إغفاءة تخللتها نتف من حكايات جده، كان حينها يتناهى إلى مسمعه نباح كلاب على الجانب الآخر من الوادي، النباح يقترب فيستأنس به رغم خوفه من الكلاب في الضيعة، أعقب نباح الكلاب طلقان ناريان ردّد الوادي رَجْعَ صداهما مرات متعاقبة إلى أن تبددا في عتمة الليل. ثم تعالى نباح الكلاب وانطلق صياح الرعاة و إطلاقهم لطلقات نارية أخرى فأدرك الصبي من الأصوات بأن الرعاة يفزعون الذئاب كي تبتعد عن قطعانهم. ابتهل كي لا تكون الذئاب قادمة باتجاهه ، ولكنه تحسب لذلك وأطفأ القنديل وتحصن طي العباءة مرتعداً بينما الهواجس السود تنهش مخيلته، تستنسخ ذاتها في الظلام أشباحاً مرعبة ، تتغير وتتبدل طبقاً للرسم البياني لدرجة ارتعاب الطفل حيث تتماهى عين الضبع القرمزية بفكيه المفترسين مع أنياب الذئب وقرني الثعبان بإشكالية لا تجتمع سوى في خيال خائف في وضع الصبي المختبيء في ذلك المكان النائي الموحش المعزول.

وصل ثلاثة ذئاب أو أكثر إلى جوار الكوخ. توقفوا هناك وصاروا يدورون حوله ويخربشون على بابه، كان يسمع لهاثهم، سمعهم يبتعدوا، خوفه منهم صوّرَ له بأنهم لم يغادروا كلهم. ألصق أذنه بحجارة الجدار فشعر بأنفاس حارة تلفع أذنه ثم بلسان خشن يبلل وجنته فتيبس في مكانه ، ولم يعد قادراً على الحراك حين عج الكوخ بعواء الذئاب من كل الجهات وخربشتها على الباب والجدران، وبلغ رعبه أوجه حين خمن بأن عدداً من الذئاب تحفر تحت جدار الكوخ لتلتهمه فأطلق صرخة أفاقته من كابوسه ، أطمأن إلى أنه كان يحلم ، ولكنه بقي مرتعباً ويرتجف ويستعجل عودة جده .



CONVERSATION

1 comments:

فاضل شباط يقول...

قد تكون معظم القصص التي يغزل خيطانها الكاتب ويحيك منها على نوله العبائات جميلة الا ان هذه العبائة التي التف بها اسامة في كوخ جده والتي ساهمت في ازالة الخوف من نفسه وطردت البرد الذي انتابه من جراء ارتعاشه المتسارع كلما استظافت اذنيه اصوات الذئاب اخالها هي نفسها العبائة التي التحفت بها انا عندما كنت صغيرا وكان ذلك في الكوخ نفسه والله اعلم يا اخي محمود الذي تدور القصة حوله وموقعه ( الخلة ) اي الكرم كرم العنب الذي مهد ارضه جدي وجعله كرمأ كريمأ معطا ئأ بعد ان كان جبلأ وعيرأ والهشيم والعليق فيه يغطيه .
فكم انت رائع اخي محمود وانت تنقب في الذاكرة عن ما هو نائم فيها من قصص وحكايات فتوقظها لتصحو وتلعب على ملعب ايامنا هذه فتذكرنا بماضي اجدادنا وحكاياتهم التي كانت وبلرغم من ما فيها من مظاهر الخوف والرعب من الذيب والظابع وقصص الافاعي التي لم تنتهي.
الا انها قصص تبعث في نفس مستمعيها من الاطفال العزيمة على ان يكون فرسان المستقبل وخوض غمار الصعاب ولهذا كم كنا نسمع عن اطفال من عمر اربع سنوات كانوا يجوبو البراري متسلحين بقظيب زبارة ( زبارة يعني غصن مقطوع من دوالي العنب ) لا يتعدى قطره اصبع الولد نفسه
ولاكن ثباته في مقارعة المخاوف رغم صغر سنه كانت بثبات الارز والسنديان.
 فهل لنا ان نسمع من قصص اليوم وما يحشوه في نفوس واذان اطفال هذا الجيل الا الوهن والظعف والتراجع الاخلاقي .
 يرحم ايامك يا جدي .
واخ عحكاياتك يا ستي ما احلاهم حلوين مثل هاي الاكلة الي كنت تساويها وتحليها بدبس العنب
بس ما بعرف شو اسمهاهلاكلة للاسف :
من غربتي الى موقع الغربة ارسل هذا التعليق على قصة الكوخ الجبلي واتمنا لكل مغترب ان يعود الى وطنه ميمونأ موفقأ
الرياض في 16 _ 09 _2010م
فاضل شباط ...