جيل الدم الأخضر/ محمود شباط


في ذلك اليوم كان السجين "جريس المنسي" قد أمضى خمسة وعشرين عاماً في سجن "وادي جندل". ورغم أنه لم يتجاوز الخامسة والخمسين كان يبدو سبعينيا طويلاً نحيلاً هزيلاً أشيباً عليلاً زائغ النظرات. ما إن يمر السجان قرب باب زنزانته حتى يبادره جريس بالتوسل لكي يعتبروا قضيته قضاء وقدراً كقضية جابر الفتاك و أحمد الجاير وغيرهما ممن تدبروا أمر "الواسطة" واعتبرت جرائمهم قتلاً عن غير عمد أو قضاء وقدراً. ولكن السجان لا يرد. حينها يقسم له جريس بأنه صفع "سارة" ودفعها كما يفعل كلما تشاجرا ولكنه لم يكن ينوي قتل أم طفله مارسيل.


يكمل السجان طريقه ولا يرد عليه. ينفعل جريس ويجر جسده الضعيف نحو باب الزنزانة ويمسك بيديه المرتعشتين بقضبانها الثخينة الصلدة محاولاً هزها فيهتز هيكله العظمي ويصرخ بالسجان : وَيـْنْ مارسيل ؟ أيضاً لن يرد السجان لأنه أخبره ألف مرة قبلاً بأن "آل المنسي" قالوا له بأن الطفل مات بداء الحصبة بعيد وفاة أمه بشهر واحد.


كان جريس يتمرمر من تجاهل السجان وصنميته، ييأس من استجابة أبي الهول الصغير ويستعيد ما قال له زميله في حراسة المدرسة وصديقه أبو نعيم بأن أشقاء جريس قد باعوا الرضيع مارسيل لرجل ثري في المدينة واقتسم الأشقاء "الغنيمة" فيما بينهم.


هكذا كانت حالة جريس في سجن "وادي جندل" الجبلي المنسي البعيد، النائي ، المقفر، الموحش، المغم والكئيب. النهار فيه مُغـِمّ فاتك وليله ميت حالك. تزيد في عتمته ووحشته بومة تحط على حواف نوافذ زنازينه ليلاً. تنتقل من نافذة إلى أخرى. تنعب وتنعب إلى أن تـُـتـْعـِبَ ولا تـَتـْعـَبْ. ثم تخفق كطير هيتشكوكي أسطوري مرعب محلقة فوق الصخور المحيقة بالسجن .


كان آمر السجن مطمئناً بل متأكداً بأن جريس لا يستطيع الركض، ولا حتى المشي بطبيعية كي يحاول الهرب فيسمح له أن يتمشى في الساحة نصف ساعة كل يوم لأن الطبيب وصف له المشي كي يتعافى من ضعف في رجليه وألم في أسفل ظهره. يتعب جريس في أول مشوار فيجلس على أحد المقاعد الخرسانية ويجول نظره في تلك القلعة الحجرية العتيقة المحاطة بصخور بركانية سوداء تسجن السجن بقيد حجري. يتأمل تلك الصخور الشاهقة المعتقة بريشة المطر والريح ويتذكرالبومة التي تعبرها مرات ومرات في الليلة الواحدة حيث تنطلق من حافة إحدى النوافذ وتمضي بنشازها المتتابع نحو الجرف الصخري الحاد المجاور للسجن، ثم يتصورها مكملة صوب الوادي المشجر السحيق، تثابر في انسيابها السريع عبر نسيج الضباب والعتمة كالسهم، ويتناءى نعيبها مع تنائيها. ثم تعود وتنعب وتروح ثم تعود وتنعب وتروح إلى أن يبزغ ضوء الفجر فتختفي. تمنى لو كان بومة . ولكن إلى أين سيذهب ؟


شاع خبر استبدال آمر السجن بضابط جديد . وانتشر اسم الملازم جودت النعيماني بين أفراد الشرطة والمساجين. وبينما كان في مكتبه يوضب ملفات أحضرها معه سمع صراخاً لم يعرف بأنه صراخ جريس فاتصل بالسجان وطلب إسكات السجين. انزعج في نهاره الأول من زعيق جريس وفي ليلته الأولى من البومة. لم يستطع النوم، البيئة الموحشة دفعته للتفكير بطلب نقله من هناك وإلا فإنه سيتسقيل ويعود إلى المدينة ليعمل في إدارة مصنع المفروشات الذي يملكه والده عبد الرحمن النعيماني وعمه فرحات مناصفة .



في إجازته التالية وبينما كان يحلق ذقنه ليزور بيت خطيبته فريال ، ابنة عمه فرحات ، لاحظ جو وجوم يهيمن على أمه وأبيه فاعتقد بداية بأنه ناتج عن مشاجرة زوجية بينهما سرعان ما يحلانها دون تدخله. ولكن تهامس الزوجين المتكرر وتدقيق والده في مجموعة أوراق مبعثرة بينهما ومغادرة والده بانفعال دفع بجودت للاستفسار عما بهما فأخبرته أمه بأن عمه وزوج عمه جاءا بالأمس ليعتذرا عن رفضهما لزواجك من فريال.



اعترته موجة غضب داخلي وعاد يكمل حلاقة ذقنه بسرعة وعصبية ويتذكر تلك النظرات الغريبة الساخنة من عمه. ولكنه كان يعزو ذلك إلى انتقاداته المتكررة لطريقة عمه في إدارة المصنع. دون أن يعرف بأن عمه لن يزوجه ابنته لأنه في نظره مجرد طفل تبناه السيد عبد الرحمن والسيدة إشتياق حين كان رضيعاً من عائلة مسيحية ريفية.

حين أنهى جودت استحمامه عاد وجلس على المقعد الذي كان يجلس عليه والداه وراح يشاهد مسلسلاً تلفزيونياً، وبينما هو يضع سيجارته في المنفضة لفت نظره أوراق كثيرة نسيها والده هناك وصورة لطفل رضيع وشاب ثلاثيني طويل نحيل يحمله لا يشبه والده. ولكن صورة الرضيع تكاد تكون مطابقة لصور التقطها له اهله في طفولته ولا زالت بمعظمها إما معلقة على الجدران أو موضوعة بعناية على طاولات صغيرة في بيت عبد الرحمن النعيماني.

ثم انتقل إلى الأوراق ليتبين له بأنها تخص إجراءات تبنيه وبأن اسمه الحقيقي هو مارسيل جريس المنسي. دارت به الدنيا لهذه المفاجأة فنادى على أمه واستفسرها ففوجئت بإمساكه لأوراق لا يجب أن يعلم بمضمونها ، ترددت في البداية لإخباره بالحقيقة ولكنها عادت واخبرته بأنها ووالده كانا يخضعان للعلاج من العقم. ثم تبنياه سراً حين كان في شهره الثالث وسافرا إلى فرنسا بحجة العلاج وعادا بعد سنتين و بشرا كل العائلة والأقارب بأنهما أنجبا صبياً.

أفهم منك بأن التبني سراً هو سبب رفض عمي لزواجي من فريال ؟
هزت برأسها : عمك فرحات فقط هو من يعلم بسرنا ، وهددنا بكشف السر، و نحن لا نريد بعد كل تلك السنين أن تعرف الناس، وخاصة أقاربنا، بأننا كنا نكذب وبأننا لم ننجب.
ثم سكتت ووضعت راحتيها على عينيها وأمالت برأسها إلى الأمام وأجهشت بالبكاء .

شعر بانفطار قلبه على تلك الأم الطيبة، انتظر قليلاً ثم سألها :

- من هم أهلي الحقيقيين يا أمي ؟ قرأت كلاماً على الورق لاأريد أن أصدقه ، أخبريني بربك يا أمي !.

أمسكت رأسها براحتيها ومالت على كتفه واحتضنته ترجوه أن يرفق بحالها ويرحمها ويعفيها من عبء يتعب قلبها. حين تسارعت أنفاسها خاف عليها وتركها تستريح. جلس يتفكر ويعيد حساباته ويستعرض شريط حياته مع أب ليس والده وأم ليست والدته ، ولكنه لم يشعر بالغربة عنهما يوماً ، أو بنقص حنان من أي منهما.


نهضت السيدة إشتياق برأسها فرأت "وحيدها" غاطساً في مستنقع هم وغم فخافت عليه بدورها وقررت أن تفعل ما يرضيه، أي كان ، أي شيء يرضيه شرط ألا تفقده فاستأنفت تخبره طوعاً بأن ذلك الحدث وقع منذ خمسة وعشرين عاماً ، وبأنها حسبما عرفت فإن والده الحقيقي قتل زوجته ودخل السجن وفر منه. ازداد وجه جودت اكفهراراً حقداً على والده الحقيقي قاتل أمه الحقيقية.

أين هو جريس الآن ؟ أتعرفين ؟

قيل لنا بأنه فر من سجنه وسافر إلى البرازيل. ثم أمسكت بالأوراق ولمتها بسرعة وارتباك ورجت جودت إلا يخبر والده بأنه عرف ما عرفه منها. وعدها ولكنه أصر على الإحتفاظ بالصورة فقالت له يمكنك الذهاب إلى الأستوديو القريب وعمل نسخة عنها وإعادة الصورة الحقيقية . لا أريد مشاكل مع أبيك.

صارت حياة الملازم جوت النعيماني مشطورة نصفين، ما قبل اكتشافه لتبنيه وما بعده، فصار يقضي معظم وقته متأملاً تلك الصورة ،متخيلاً كيف يمكن أن يكون وجه والدته التي أخبرته أمه السيدة إشتياق بأن والده جريس قد قتلها.



في اليوم التالي كان الملازم جودت يتفقد وجوه الواقفين في طابور من ستين سجيناً. توقف عند وجه يألفه وتساءل أين رآه ، تذكر، إنه وجه "جريس" . إنه والده قاتل أمه. تساءل بحيرة وصمت : "من المفروض أن جريس مسافر" حسبما قالت له أمه. أطال التحديق في وجه جريس ثم أكمل حملته التفقدية وعاد إلى مكتبه بسرعة كي يتأكد من هوية صاحب الوجه المألوف. راجع قائمة أسماء المساجين، عجباً ! هذا هو اسم "جريس المنسي" . فتح خزنة ملفات المساجين وأخرج منها ملف جريس . تأمل صورة قديمة للسجين ملياً وقارنها بالتي معه فعرف أباه الحقيقي . ومنذ تلك اللحظة صار يساوره انفصام بين الرغبة في الإنتقام من جريس لقتله أمه وبين التعاطف معه كونه والده. لم يعد جودت ينام كما يجب ولا يأكل كما يجب . تنتابه أحياناً موجة غضب فيقرر التوجه إلى زنزانة جريس للقضاء عليه، ثم تبرد همته حين يعتريه شعور غريب من التعاطف مع ذلك الكهل الضعيف.


في غمرة ترنحه روحياً سيعبر خاطر الملازم جودت النعيماني فوق أثير الزمن، عائداَ إلى سني طفولته الأولى، يتخيلها حين كان اسمه مارسيل المنسي. تخيل وجه أمه الحقيقية المظلومة وقصد الزنزانة حيث يرقد جريس ، أطل عليه بنظرات غاضبة ارتعدت لها فرائص السجين الذي ازداد انقباضه وانزواءه كما لو كان يحاول الإختباء والتبخر كما يفعل حين يدخل عليه السجان. دخل جودت عليه وراح يتفرس به، وبينما هو يحدجه كان يقرأ ملامح التشابه بينهما ويتأكد من أبوة جريس رغم ما تركته أقلام السنين على وجه السجين من تغضن وفي جسده من نحول. سأله عن اسمه فرد جريس بصوت واهن معرفاً بنفسه. وحين التمعت عينا السجين البائس سرى في عروق الضابط تيار صلة الرحم وكهرباء حنين مفتقد ما أحس بمثلهما قبلاً.


بعد مرور اسبوعين على تعارفهما ولقائهما اليومي، وبينما هما في جلسة صباحبة اعتادها كل منهما. تفرس الضابط ملياً بملامح الكهل الشاحبة ثم سأله فيما إذا كان متأكداً من أنه لم يقصد قتل زوجته فرد : لا يابني ، والله لا . ثم اشتكى له بعباراته البسيطة المبسطة عن جدوى العمد وغير العمد بعد ترمد أجمل سنين العمر. وعما سيعوضه عن خمسة وعشرين عاماً نعست شموعها في السجون. مضت وئيدة ثقيلة بينما هو حي ميت في عتمة هذا القبر المسور بالصخور السوداء كعتمة أيامه ، تزداد اسوداداً كلما جالت على شاشتي عينيه صورة طفله.


تلقائية كلام السجين الكهل المفعمة بعاطفة الأبوة أكدت للضابط الشاب قضية "القتل غير العمد" فأججت جينات تواصلية انبجست من عينيه على شكل موجات لامرئية في فضاء الزنزانة. انفلتت كبهرة نيزك عابر لتضىء على حقيقة التماثل حتى التطابق بين اغتصاب الجسد واغتصاب الإرادة ، وبين خطف حرية الفرد وخطف أنفاسه ، وشعر بظلم فادح طال هذا الوالد الذي حوكم على أساس اقترافه لجريمته عمداً بينما كل المؤشرات تدل على أنه قتل عن غير عمد.


على مهل ستنزل فقاقيع انبجاس التواصل الروحي حمراء ، صفراء، خضراء، زرقاء، بنفسجية وبرتقالية ليصمم الملازم جودت على رفع توصية إلى مرجعيته بغرض إطلاق سراح سجينه " نظراً لحسن سلوكه وسوء وضعه الصحي". نفث دخان لفافته ثم سأل سجينه الشاحب المرهق : لو كان ابنك مارسيل على قيد الحياة لكان في منتصف عشريناته ، على ما أقدر .


بتوق يلامس تخوم الحلم وحدود التوسل في أن يكون هذا الشاب الذي يطرح السؤال هو ابنه مارسيل، فلش الكهل شعاع عينيه المتعبتين على وجه الضابط ، وكانت كل ذرة من ذلك الشعاع تبوح بالعرفان لحسن اهتمام الشاب بوضع سجينه البائس، وفي غمرة تداخل ذرات شعاع نظرات الكهل الأبوية المنهكة مع خلايا وجه الشاب، وبحدسية وتبصر أسوي بالملامح المتشابهة بينهما وجهاً وقامة ونبرة صوت، سيرد الكهل على سؤال الملازم عن عمر مارسيل التقريبي فيما لو بقي حياً : " بعمرك تقريباً ". كان في الشهر الثالث من عمره حين سجنت. قيل لي يومها أن طفلنا قد توفي بداء الحصبة.


حار الملازم بما سيقوله له ، هل يُعـَرّفه بنفسه بأنه هو ابنه مارسيل. لا . ليس الآن . لن يخبره الآن ، ليس قبل أن ترد عليه مرجعيته بالخبر اليقين بخصوص الموافقة على طلبه لإطلاق سراح "أبيه".


في لقائهما الأخير كسجين وآمر سجن، وبعد أن حصل الضابط رسمياً على أمر إطلاق سراح جريس اتجه نحو الزنزانة وبشره : جاءني أمر بإطلاق سراحك يا ... عم !

بانكسار سيجيب الكهل : ولكن إلى أين أروح وأين أقيم ؟ لا قريب لي ولا منزل ولامحب حتى . أقاربي صاروا مع الدهر علي ، لقد صار بيتي ملك والد سارة.


لبث جودت قبالته متأثراً ينظر إلى شفتي سجينه المرتعشتين ، حيث كان الأب البائس محلقاً بخياله مسافة خمسة وعشرين خريفاً أعجف ، يعوم في سنين لذعت حشاشة خافقه بمرارة الصرخة في برية تعج بالذئاب والضباع الشرسة الصماء البكماء إلا عن الواسطة والنفوذ ووصم البشر حسب هوياتهم. مكثا واجمين متسمرين تحت وقع ثقل الخطب يتحاوران بصمت بتلميح يلامس تخوم الحنجرة ويعود بانكسار نحو سويداء القلب ممتزجاً بعلقم الجور الطاغي.


عند تقاطع عجيج صمتهما سينبثق عهد واعد من فم الضابط ليطمئن والده دون أن يعرفه بعلاقته به بعد : ستروح إلى بيت ابنك ! إلى منزل مارسيل !

بيت مارسيل ؟ دمدمها العجوز بتساؤل الفرح الذاوي. تردد رجع أنينه في مهجة ابنه كرنة صوت آت من عمق أعماق الفجيعة. ما أوحى بأن السجين السابق قد صار على ثقة من مؤشر حدسه، ومن تجسيد حلمه بأن من يخاطبه هو ابنه مارسيل، وبأنه سيقضي معه ما تبقى من سنوات عمره.

رد الضابط : أجل ! ستقيم معي ...

هيه ؟؟ أنت مارسيل ؟؟؟
أجل يا أبي !
ببرود تقبل جريس الخبر في البداية، قد تكون شدة المفاجأة خلف ذهوله. بقي للحظات يتأمل وجه ابنه ثم رمى جسده عليه وطوقه بذراعيه وعانقه طويلاً. شوهدا بعد ساعة من الزمن يغادران السجن ليعبرا بوابته وصخوره البركانية السوداء نحو السيارة وضوء الشمس. حيث اتجه الضابط بأبيه الحقيقي نحو منزل والده ووالدته الحاليين اللذين لم ينس ولن ينس أنهما أهله أيضاً، ولن يتخل عنهما.


بعيد أسبوع من إقامة جريس مُرَحّباً به لدى آل النعيماني كان جودت قد تزوج فريال "خطيفة" وبدآ بإنتاج نسل متطور دمه أخضر.





CONVERSATION

0 comments: