الحمام لا يهدل في تل النوى/ محمود شباط


على هضاب وسهول منطقة تل النوى كانت الأقدار تحيك فصولاً جديدة في أسفار عذابات أهل المنطقة. على تلك الأرض المزروعة بضحكات الصبيان وشقائق النعمان كان الضبع يجوس ويغتال الضحكات ضحكة ضحكة، والورود وردة وردة، افتراضه لقدسية مشروعه زين له اقترافه للمزيد من قصف الورد وكتم الضحكات وقضم الأرض. لم يكن المستر داوود ضبعاً حقيقياً بل بشري بطبع ضبع.


منذ هبوطه الثقيل الطارىء على المنطقة الغربية من منطقة تل النوى من جهة مجهولة، كانت ثروة المستر داوود الأسطورية وجبروته العسكري يجتاحان الأرض والمنازل والحجر والبشر كالإعصار. تنادى نصار وعشرات من شباب المنطقة وقاوموا آلة المستر بقدر ما تسمح به القدرات غير المتكافئة.

ثابروا في صراع المستر و لكنهم أرغموا على التوقف حين انشقت أرض تل النوى عن قوة عظيمة مفاجئة عديدها الآلاف يترأسها الشيخ عبد العاطي المنان. أسس الشيخ الجمعيات الخيرية وقوة عسكرية سماها "جند القدير" واحتكر شرف مقارعة المستر داوود. منع كل من لا يخضع لنهجه أو يبصر الأمور بعينيه من القتال لتحرير الجزء الغربي من تل النوى الذي سيطر عليه المستر بقوته الغاشمة. واستحال الشيخ حاكماً في باقي أجزاء تل النوى ثم متحكماً بها بفعل ما يأتيه من دعم من ابن عم له خارج الحدود ، والشيخ نفسه لم يتنكر لذلك الدعم بل فاخر وجاهر به.

في ذروة تصادم المشروعين الإلهيين، ورغم اضطهاد الشيخ لنصار وزملائه كانت قلوبهم مع الشيخ ضد المستر. وظل عدد منهم يقوم خفية ودون علم الشيخ بعمليات مستقلة. ولكن ما إن نمى خبرها إلى علم الشيخ حتى استشاط واستنكر وغضب واستدعى نصار ورفاقه لينذرهم للمرة الأخيرة. فهموا منه بأن احتكاره لمقاتلة المستر خط أحمر. رفع سبابته بوجوههم وهدد بسحقهم إن عرف باستمرارهم في "عملياتهم البائسة"، وختم وعيده بتخييرهم بين الجلوس في بيوتهم أو الرحيل عن تل النوى وإلا فالسجون والمقابر تتسع للمزيد.

عـَزَّ على الشباب أن يمسح الشيخ بشطبة قلم دم عشرات الشهداء والجرحى والأسرى ممن سبقوه إلى قتال المستر داوود. صاروا يتسللون عبر خطوط "جند القدير" ليضربوا المستر داوود كي يجلي عن أرضهم فصارت الضربات تأتيهم من المستر والشيخ معاً. أكثرها إيلاماً كانت من الشيخ ، حيث ترك العديد منهم بين ضيف مقبرة أو ضيف سجن أو مشلول يقضي ما تبقى من سني عمره على كرسي متحرك.

أثناء عودتهم من تنفيذ إحدى العمليات اعترضهم عدد من عناصر "جند القدير" وضربوهم وصادروا أسلحتهم ودزوا بهم في زنازين منفردة متباعدة.

عبر أقاربه كان نصار في سجنه يعرف أخبار صراع الشيخ والمستر. و شاع بأن كليهما يزعم بأنه يقاتل في سبيل الله. كما عرف نصار بأن المستر قد اندحر في ليلة ليلاء عن الأرض التي كان يسيطر عليها، والتي أضمر الشيخ هيمنته عليها وأفلح في غرضه بسهولة ولكنه ستر تلك الهيمنة بقشور ذكية ماكرة إنما لا تخطئها العين البصيرة.

بعد وفاة المستر داوود قرر ابنه اجتياح المنطقة التي أخلاها والده فزمجر وهدر وكشر عن أنيابه الدموية واستردها فتراجع جيش الشيخ عن العديد من القرى والبلدات والوديان والجبال، ولكن الشيخ لم يسمه تراجعاً بل انتصاراً. وفي ظل بيئة ابتليت بطحالب الغيبية وعبادة الفرد صارت الببغاوات البشرية تردد ما أعلنه الشيخ، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يسمي الأشياء بأسمائها ويتجرأ على المغامرة باستخدام عقله ومنطقه. وبما أن لكل عصر لغته التعييبية لم تعد عبارة الكفر والزندقة والإلحاد تفي بالغرض فاتبع رجال الشيخ لغة التخوين لكل من يقرأ الأحداث بغير كتابهم. وسادت لغة التعذيب وغصت السجون "بالخونة" وصار على "الخائن" المقهور أن يتقدم بطلب استرحام ليسمح له رجال الشيخ بصرخة الآخ. مجرد السماح بالصرخة صار إنجازاً وأمنية وحلماً، إنما ليس الإنتقاد أوالمعارضة أو تعكير مزاج الشيخ.


في ليل أليل ضاقت الزنزانة بنصار، شعر بوحشة حين انطفأت انوار السجن وخمدت حركة نزلائه إيذاناً بموعد النوم ، دوت صفارة السجان وجال بجذعه الضخم في ممرات الزنازين يتفقد من لم ينم بعد ليزعق به بأمره كي ينام . تناوم نصار إلى أن عبر السجان زنزانته في طريقه إلى الزنازين الأخرى. وبينما هو مستلق مغمض العينين كان يتحرق لشم ورد حريته عبر سماعه لنسائم عذبة تدغدغ أغصان الشجر المعمر المحيط بالسجن.

لم يكن نعساً ولم يشعر بميل إلى النوم، وحين اطمأن إلى ذهاب "نصف المجنزرة" وصفارته استوى في فراشه وأسند ظهره إلى جدار زنزانته المعتمة إلا من شعاع فضي تتكرم به ليلة قمراء. راح ككل أمسية يتفقد صور أولاده وزوجته ورسائلهم له خلال تينك السنتين اللتين قضاهما في السجن.


إثر رحيل قافلة الألوان دون الأسود. كان يأتيه مع شعاع القمر ضوء منارة بحرية ساطعاَ من مكان قصي يسفع عتم زنزانته بسرعة ويغيب بسرعة. ينبثق خطفاً كما البرق البعيد البعيد ويمضي خطفاً . لا الشعاع مل التماعه ورواحه ولا نصار سئم انتظاره بين النبضة والنبضة. استكان لسلطانه الأنيس كما في كل مساء وجهز راحتيه لتلقفه فور وميضه القادم. حاول الإمساك به ولكنه كان ينفلت من بين أصابعه كالوهم في كل مرة.

لكثرة ما ألف ذلك الشعاع أضحى يظنه بأنه يعرفه ويعرف اسمه واسم طفله الأصغر وملامحه ويشاركه هواجسه بشهداء قضوا عبثاً ليحصد الشيخ و ابن عمه ثمار استشهادهم. خال بأن الشعاع صار يشفق عليه ويتعاطف معه ضد من صادر حريته كونه سعى لأن يكون حراً في منطقة سيدة حرة .

طالت فترة أرقه فعاد يتسلى بمحاولات الإمساك بشعاع المنارة. وثابرعلى ذلك رغم إدراكه لماهية الشعاع كمجرد خيط ضوئي تمر ذراته صدفة باتجاهه، يجيء آلياً ويروح بعبثية صبي غر يتشاقى للشقاوة فحسب، يناكفنه بوميضه ثم يفر مبتعداً عنه تاركا إياه حبيس حبسه. ليلئذ استلقى على شوك فراشه شابكاً راحتيه خلف رأسه ، متسائلاَ عما دهى أولئك الناس لكي يروا التراجع نصراً، شكك بمعارفه وقال لنفسه بأنه ينبغي على مؤلفي القواميس والمعاجم أن يغيروا معنى مفردة انتصار لتتواءم مع رغبات الشيخ ومصالحه. ولج كهف ليل آخر متسلحاً بالصبر وبحلم جميل بالحرية.


في غمرة إحباطه ويأسه من أنسنة الشعاع، كان في صبيحة اليوم التالي مكتئباً ، يترقب قدوم الحمامة البيضاء الرقيقة الحلوة العذبة بجمال الحمام التي دأبت على زيارته عدة مرات يومياً فتحرره كلما زارته وغادرته محررة ذاتها. كانت تحط على حديد شباك زنزانته، تهدل بشجى تنثره على المساحة الضيقة برنين نحاسي عميق وعزف أليف يذوبان بهديلها ويتماهيان كما تتماهى كل ألوان الطيف باللون الأبيض. تدخل الزنزانة ولكنها تبقى بعيدة عنه، ما إن يهم بالتوجه نحوها حتى تفر وتتركه. صار يداريها ويحافظ على سكونه وهدوئه حين تزوره، ولئن رمى لها بفتات من زاده فبحركة خفيفة محسوبة لا تفزعها ولا تنفرها، ترضى بما تيسر وترحل . فيفترقان بينما يبقى رجع وداعتها وتنعمها بالحرية ملتصقان بشغاف مهجته ، ورنينها الأنيس يعزف في أعماق ذاته المقيدة.


ولكثرة ما اعتادت الحمامة مشهد نصار صارت تقترب منه أكثر بحذر فطري في البداية، ثم استأنست واطمأنت وأضحت تتغندر بإلفة فيما بعد. سماها سميرة، يناديها باسمها ويمد يده بقطعة خبز فتقترب منه ، تنقرها وتزدردها ثم تكمل صاعدة على يده فكتفه فرأسه ثم تنزل لتقف على بعد خطوات تتأمله ثم تكرج بشكل دائري وتعود إلى ما بين يديه. كان يمسك بها برفق ويتحسس ريشها الناصع فتعتريه لذة الحلم والعوم بأفق حر يموج باللازوردي والأزرق. يلاطفها فتنظر نحوه. يخالها تكلمه وتصغي إليه، يشكو لها، وحين يحيرها هذره ، أو هذا ما كان يحدس كانت تخفق بجناحيها وتطير دون إذن السجان، يغبطها نصار حريتها ويتشفى بغطرسة السجان وسلطته القاصرة عن مخلوق صغير ضعيف. ثم يقف قرب نافذة الزنزانة يتابعها بلهفة في انسيابها في زرقة السماء متنعمة بدفء الشمس الساطعة دون منة من أحد أو خشية اتهامها بالخيانة.


بعد إفلاح المسترالصغير في استرجاع جزء من منطقة تل النوى وتراجع جند القدير عنها، تنادت أمم الأرض تناشد المستر الإنسحاب منها ولكن غطرسته فرضت شروطاً تعجيزية لانسحابه، والحق يقال بأن السبب ليس غطرسته فحسب بل شعوره بجرح كبريائه المنتفخة نتيجة مفاجأته ببطولات جند القدير واستشراسهم في مقاتلته وتمريغ أنفه بتراب تل النوى لأول مرة. طلب المستر أن يحل محل قواته المنسحبة عناصر ليست من الأرض، وهكذا أطلقت أمم الأرض استغاثة ردت عليها كواكب من المجموعة الشمسية بأنها سترسل بعناصرها للحلول مكان جحافل المستر الصغير. وجاء رد مـتأخر من مجرة الأندروميدا لبعدها السحيق عن الأرض بتلبية الطلب أيضاً ، ويعتذرون عن احتمال تأخرهم في الحضور لأنهم يجهزون سفينة فضائية تطير بثلاثة أضعاف سرعة الضوء. سخر أحد المهندسين المنتدبين من قبل الشيخ عبد العاطي من ذلك الكلام واستهجنه كونه يعرف استحالة طيران أي كتلة بسرعة الضوء فما بالك بثلاثة أضعاف تلك السرعة.


بعد وصول عناصر من كواكب المجموعة الشمسية بأيام قليلة هبطت سفينة فضية براقة غريبة الشكل وترجل منها عناصرها. حاول المهندس الإقتراب من قائد السفينة ليستفسره كيف استطاع الطيران بثلاثة أضعاف سرعة الضوء فشع من عيني الضابط الأندروميدي ضوء أزرق قص الإسفلت أمام قدمي المهندس فارتعب الأخير وتراجع . ثم عاد وتقدم بضع خطوات نحو الضابط الأندروميدي يهذر باستغرابه لتلك السرعة الخيالية وبأن النظرية النسبية و نظرية الجاذبية لا تقران بعلمية تلك السرعة. بدا بأن الضابط لم يفهمه فأدار مفتاح جهاز مثبت في بذلته الفضائية وبرمجه على اللغة العربية وطلب من المهندس تكرار ما قاله فكرر المهندس ، حينها شرح الضابط للمهندس قائلاً بأنهم تقدموا في علومهم في الإندروميدا لأنهم لا يختلفون على ما في كوكب الأرض أو غيره، بينما أهل الأرض يتقاتلون على ما في السماء قبل أن يحلوا مشاكلهم الأرضية.

لم ترد على سؤالي . قال المهندس بإلحاح.
رد الضابط : نظرياتكم وعلومكم قديمة ومتخلفة، ما اكتشفه اينشتاين ونيوتن وغيرهما نـُدَرِّسُه ُ نحن في الصفوف الإبتدائية عندنا... للعلم فقط وليس لتطبيقه.
باستهزاء رد المهندس : اسم الله عليكن !
شعت أضواء عديدة من الميكرو كومبيوتر المثبت في بذلة الضابط الأندروميدي وهو يبحث عن معنى كلمة "اسم الله عليكن" وحين عجز عن فهمها طلب من المهندس إعادة ما قاله فضحك المهندس بانتشاء لإفحامه من يطير بثلاثة أضعاف سرعة الضوء ويعجز عن فهم عبارة يعرفها رعاة بلاده، وسأله كي يفحمه مرة أخرى فيما إذا كان لديهم شيوخ في الأندروميدا فقال الضابط بأنهم قد وضعوهم في المتاحف منذ عصور، ولكنهم يتمنون لو كان لديهم رجالاً كالمستر جبران خليل جبران.


************

على وقع حفيف أشجار الملول والسنديان المعمر المحيط بالسجن، وفي هدأة رواقٍ صباحي نقي، أشرقت شمس سميرة نصار. بعدها حضر السجان. تسمر بجذعه الجميزي قرب باب الزنزانة متفرعناً متغطرساً ثقيلاَ كنصف مجنزرة مطفأة المحرك. كان يحدج سجينه بغضب ويكز على أسنانه ثم قال له بأن حضرة الشيخ قـَبـِلَ التماسَ أقارب نصار للعفو عنه وإطلاق سراحه شرط عدم قيامه بأي نشاط يعكرمزاج الشيخ. بقي السجان يخبط راحته بسوطه لترهيب نصار وحذره من الإخلال بما تعهد به أقاربه. غاب نصف المجنزرة وبقيت صورة كرشه المنتفخ المحاط بحزامه الجلدي العريض تخشخش مفاتيحه حين يمشي كجرس على مؤخرة بغل. سار السجان عدة خطوات ثم عاد : ممنوع استقبال الحمام، كما طلب من سجينه أن يقول للحمامة بلغتها بأن الحمام مدرج على قائمة الممنوعات وبأنه سيذبحها في المرة القادمة .


تساءل نصار ؟ بلغتها ؟ ثم خـَمـَّنَ بأن السجان كان يسترق السمع من وراء الحائط حين كان نصار يناغي الحمامة فظن نصف المجنزرة بأنها تفهم على نصار كل ما يقوله لها.


لم تزره سميرته ذلك الصباح كعادتها، افتقدها نصار. اتجه نحو النافذة عـَـلـَّـهُ يلمحها قادمة نحوه ليودعها قبل مغادرته السجن. في ذلك الجو الخانق سمع وقع أقدام "نصف المجنزرة" التي لا يمكن أن يخطئها تقترب فعاد بسرعة إلى فراشه، أطل على نصار طلة عزرائيلية ثم تبعه قريب لنصار وبشره بخبر إطلاق سراحه لأن العائلة تشفعت له لدى الشيخ شرط أن يتعهد نصار بعدم استئناف "عبثه" مع المستر الصغير. فتح نصف المجنزرة باب الزنزانة لنصار ثم خبط براحته على بطنه المنتفخ ليقول لنصار بأن الحمامة صارت في زنزانة بطنه.


في طريقهما إلى البيت سأله قريبه فيما إذا كان سيعود إلى سلك التعليم بعد أن عـَدّلَ الشيخ مناهج التعليم. فـَكـَّرَ نصار للحظات ثم قال لقريبه بأنه لن يُدَرِّسَ ما يتناقض مع قناعاته، وبأنه يفضل تربية الحمام وبيعه بدلاً من التعليم. التفت القريب نحو نصار بإشفاق وأطال تحديقه به ثم قال له بأن الشيخ قد أصدر أمراً بتهجين كل أسراب الحمام كي يتوقف عن الهديل. لم يعلق نصار، ولكنه صار يردد بينه وبين نفسه بحرقة ما يعتقده بأن القيمة الحقيقية للحمامة ليست بلحمها بل بهديلها. وقرر أن يرحل وزوجته وأولاده إلى حيث يهدل الحمام .

CONVERSATION

0 comments: