مذكرات زَيـْنـُو (2)/ محمود شباط



بعد نفوري من المعلم سليم بسبب إهانته لروح أبي ما عاد بإمكاني أن أكمل العمل لديه، لم تعلم أمي يومها بالسبب الحقيقي، حـَاوَلـَتْ إقناعي مراراً ولكنني تشبثت برفضي، أخيراً انفعلت وسألتني : قللي شو القصة ؟
اخبرتها بأن المعلم لعن الذي رباني فاستنفرت وشتمت روح الذي خلفه ثم هدأت للحظات وسألت :
- لـَيـْشْ سـَبـَّكْ ؟
قلت لها بأنه ظن بأني أسخر منه فأمسكت بأذني بسرعة وأفلتتها بسرعة ثم دمدمت بكلام بينها وبين نفسها فعـَرَفـْتُ بأنها وجدت عذراً للرجل أن يغضب ولكن دون أن يسب خلق الله ، أردفت برجائها برفق وحنان : وستعود للعمل مع المعلم؟ بدا لي السؤال بصيغة تأكيدية أكثر منها استفهامية، حشرتني بين مطرقة العاطفة وسندان الإباء، رقيت لرقتها معي وهي تتوسلني أن أتفهم صعوبة الوضع وضرورة مساعدتها في شراء كتب مدرسية و دفع رسوم التسجيل وشراء "مراييل" وملابس وأحذية جديدة لأحمد وحمزة. سأساعدها ، ولكني لن أعود إلى المعلم سليم . فبركت جنين كذبة لأطمئنها فقلت لها بأني اتفقت مع حمد ابن عمي للعمل معه في مطعم الريفولي في ساحة البرج براتب أفضل من الذي كنت اتقاضاه من المعلم سليم.
- قديش يعني ؟
- ستين ليرة !
فكرت وشغلت أصابع يديها وحسبت : عشرين ليرة زياده ؟
هززت برأسي . وأضفت كذبة جديدة : وأكل وشرب ومنامه .
كانت حينها تتفرس بوجهي، لـَمَحْتُ ريبة في عينيها، غطت فمها براحتها وبقيت ترمقني بعينين نصف مغمضتين لشكها بصدق روايتي. مرت لحظات صمت ثم همهمت بكلمات لم أستوعبها . لم تكن مرتاحة و مطمئنة لانتقالي إلى عمل جديد. حاولت إقناعي فهربت إلى البكاء . احتضنتني وقبلتني ثم قالت برقة : متل ما بدك ، ألله يسهل أمرك !.
عدت إلى بيروت فمررت على المعلم سليم الذي استقبلني بحفاوة وحرارة مبالغ بهما مفترضاً بأني عدت للعمل لديه وطويت صفحة زعلي منه. كان يثرثر بكلام ليراضيني فلا أرد، فقط أستمع وأأول وأفسر حسبما يحلو لي بأنه يتودد لي ليس من أجلي فقط بل إكراماً لجودة حليب ماعز يرعى في جرود جبل الشيخ يجلبه له الشيخ يحيى ثلاث مرات في الأسبوع. فوجىء المعلم بتصنمي "كأني لم أسمع ولم يقل" ، واعترته الدهشة من عنادي حين تمسكت برفضي للعمل معه ورجوته أن يدفع لي ليرتين ويسلم مستحقاتي إلى الشيخ يحيى ليسلمها إلى أمي .
- وهل عرفت أمك بأنك ستترك العمل لدي وتعمل في مكان آخر؟ سألني المعلم.
- هززت رأسي .
- والشيخ ؟
- لا أدري !
- من سيأخذك إلى ساحة البرج ؟ كيف ستذهب ؟ أتعرف المكان ؟
- هززت برأسي.
- همهم المعلم مشفقاً : هَـونْ بيروت مش الضيعة يا زَيـْنـُو ، ولـَمّحَ لي بخطورة تـَجَوّلِ مَنْ هم في سني بمفردهم في بيروت.
هززت رأسي مرة أخرى موحياً له بأني بأني ضقت ذرعاً بمراضاته لي وبأني أعرف كل شيء ولا أحتاج لنصائحه.
أدهشه تجهمي ومكابرتي وعنادي وإصراري، ورغم أنه لم يقتنع بما قلته له، أعطاني ليرتين ومنقوشة زعتر وأمسك بيدي فعبرنا الطريق إلى الناحية الأخرى، مرت عدة سيارات تاكسي متجهة إلى بيروت تخفف سرعتها أو تتوقف قربنا ولكنه كان يشير بيده إلى سائقيها لإكمال طريقهم، انتظر إلى أن مر سائق يعرفه فدفع له أجرة توصيلي إلى ساحة البرج وأوصاه بي.

كنت في السيارة أفكر في كيفية التعرف على المطعم الذي أسمع بأن حمداً يعمل فيه، لكني لا أعرف أين هو المطعم ولا أين هي ساحة البرج. توقفت التاكسي في ساحة الدباس ، ركنها سائقها قرب الرصيف وأمسك بيدي ومشى معي إلى رأس ساحة البرج ودلني على مبنى سينما ريفولي وأوصاني أن أمشي على الرصيف وانتبه للسيارات. وصلت أمام المبنى ودخلت المطعم. سألت عن حمد فقال لي الشاب الذي سألته بأن حمداً ترك العمل ولايعرف أين هو الآن.
داهمتني دوخة وموجة ضياع. انهار الحلم الكاذب المبني على كذبتي على أمي وعلى المعلم وعلى نفسي قبلهما. وقفت أمام الريفولي مشلول التفكير، وإلى أن تأمرني قدماي في أي اتجاه أسير صرت أجول بعيني في ذلك العالم المزدحم الذي يختلف حتى عن الحازمية، ضجيج وباعة وزحمة و حرارة ودبق ورطوبة وعرق وروائح عرق مقززة وحمالين وماسحي أحذية وبائعي مرطبات ومنبهات سيارات وضجيج وبشر من كل الأجناس والأعراق تسير متعجلة متزاحمة متدافعة لا يكلم أحد أحداً. مشيت على شاطىء ذلك المحيط "الغريب" كسلحفاة تنقل قوائمها البطيئة على الرمل الحار، تنوء بعبء قوقعتها. همـْتُ على وجهي حاملاً صرة حوائجي. كل الجهات وجهتي وأي منها هو المجهول بالنسبة لي. وماذا بعد ؟ جعتُ. تناولتُ المنقوشة و رغيف الجبنة من الصرة والتهمتهما، عطشت، لا عين ماء هنا ولا بئر ولا الساقية التي كنت أشرب منها في الحازمية، اشتريت "كازوزة" بعشرة قروش لأنقع غليلي ولكنها زادت في عطشي. دُرْتُ على كل باب محل ومطعم وستوديو تصوير ومسرح ومحلات أدوات صحية و حلويات وسينما بدءاً من سينما ميتروبول في مدخل شارع الجميزة ومروراً بالمصور أنترانيك وصيدلية الجميل وكل باب في جدار في ذلك المستطيل حول ساحة البرج التي عرفت لاحقاً بأن لها اسم آخر هو ساحة الشهداء، وعلى كل باب كنت أكرر سؤالي: بـَدّكْ شَغـِّـيْـلْ ؟ وعلى كل باب كانت تتكرر كلمة واحدة : لأ ، أو إشارة "لأ" ضمنية صامتة لامبالية باردة من رأس أو حاجبي من أسأله.
جعت مرة أخرى وأكلت رغيف الجبنة المتبقي لدي. حملت صرة حوائجي ومشيت إلى أن مـَلـَّت الأرصفة زقزقة نعلي الجديد-القديم فاقتعدت بلاط الرصيف الحار وفي القلب جذوة تستعر و تختزن كل آلام الزغاليل الجريحة، اكتملت دورتي على أبواب محلات البرج وعدت إلى حيث بدأتها، بيأس مررت على المحلات التي سألت من فيها في المرة الأولى دون أن أكلم أي من أصحابها هذه الجولة، ولكني أحسيت بالسخن وبحاجتي الماسة للعمل حين وصلت إلى الرجل الضخم الذي يرتدي مئزراً كان أبيض ويعتمر قبعة طويلة كانت بيضاء وجدته منهمكاً بلف سندويشات "الأوزي"، رائحة اللحم والأرز جذبتني للوقوف والإلتهام بعيني بداية ثم غامرت بشراء سندويش بربع ليرة لم يشبعني ، فطلبت اثنين آخرين واشتريت عبوة بيبيسي بعشرين قرشاً وعلكة بخمسة قروش. نظرت إلى داخل ذلك الزاروب فرأيت نساء بأحجام ضخمة متبرجات بإفراط بكل ألوان الطيف، صرفت نظري عنهن لعدم احتشامهن وسألت الرجل فيما إذا كان لديه عمل لي فلم يرد علي، سألته بصوت أعلى فحدجني من "عليائه" بغضب، يبدو بأنه تذكر بأني مررته قبل ساعات وسألته فيما إذا كان لديه فرصة عمل لي ، قرر أن يعاقبني على طريقته فقال لي: فـُوْتْ لـَجُـوَّا .. هـَوْنـِيكْ عـْنـْدنْ شْغـْلْ " وأشار برأسه صوب النسوة-الـفـِيـَلـَة.
ولجت ذلك الزاروب بروائحه النتنة وأضوائه الحمراء والزرقاء والصفراء والبرتقالية على كل باب، استهوتني مشاهد اللحم البشري المعروض بسخاء، بهرني كرم النسوة البدينات في "السوق" لأني لم أر في الضيعة أكثر من الكاحل ولغاية البطة كأعلى نقطة عارية من امراة، بينما هنا مباح لي أن أتطلع إلى أن أشبع من كل الأماكن الحساسة والنقاط الممنوعة دون حرج أو ملامة أو زجرة أو صفعة. اقتربت مرتعشاً من "فيلة" تجلس بجانب أخرى على باب لم أعرف ما بداخله وسألتها : بـَدِّكْ شـَغـِّـيـْلْ ؟
غرزت عينيها الوقحتين الصوانيتين بعيني المرتعبتين الزائغتين في محجريهما، أمْعـَنـَتْ في غرزها فصرت أخطو إلى الخلف وسَرّعْتُ تراجعي حين رَعَدَتْ بقهقهتها وسعلت واهتز صدرها الضخم وبطنها الكركدني ولكزت زميلتها مشيرة بيدها صوبي : سْمَـعي وْ ضْحـَكـِي يا ماريكا ! هـَـلْ زَعْبـُوط ْعـَمْ يْسْألني إذا بَدّي شْغـِّـيلْ . ثم جرش صوتها وقذفت بعقب سيجارتها نحوي وهدرت تهشني بيدها الضخمة كبعوضة : حـْلّ عـَنـّا .... روح لـْعـاب أحسن ما .........! .
استهجنت تلك البذاءة من امرأة. طردتني وشتمت أمي وأكملت ثرثرتها مع جليستها فأكملتُ طريقي بحيرة ورعب صوب الداخل، سألتُ فيلة أخرى وأخريات غيرها إن كان أي منهن "بدها شغيل" فتكرر الموقف نفسه عشرات المرات. يئست وتعبت فوضعت الصرة على عتبة باب من تلك الأبواب العديدة المتشابهة وجلست عليها. مر شابان بقربي سمعت أحدهما يضحك ويسأل زميله : شُو عـَمْ يَعـْمـَلْ هَصَّبي زّغير هـَوْنْ؟ . رد عليه الآخر بعبارات سوقية بذيئة أنهاها بقوله : بـِيـْكـُونْ مْضَيـِّعْ مْشْ عارف رَبّو وَيـْنْ حَاطـّو. لم أدر يومها بأني أتجول ببلاهة في "سوق الشلاحيط" كما سمعت باسمه لاحقاً. ولكني أيقنت بأني في مكان لا يتناسب مع سني فعدت أدراجي إلى ساحة البرج. عرجت على ساحة الدباس ثم عدت إلى البرج ، الذي صار بالنسبة لي مركز الأرض.
غابت الشمس ولكن العتمة لم تأت، خفـْتُ من تلك البيروت التي لا ليل فيها، أجُولُ واتفرج فأتعب فأستريح. ازداد ضجيج الموسيقى المنبعثة من مقهى الأريزونا وعدة أماكن أخرى ، ازداد عدد الزبائن في "قهوة القزاز" ، ضجيج من كل حدب وصوب. لم تخف الزحمة ولا حركة السيارات، شعرت بالتعب والنعاس فرحت أزحف كحلزون أعمى أبحث عن ركن ألوذ به. تذكرت نصيحة المعلم سليم وتخوف أمي من الخوض بمغامرة البحث عن عمل في المجهول. صارت عيناي ترى الوضع أطلال أطلال، معيل الأسرة بحاجة لمعيل ، معيل الأسرة يلتحف نجوم ساحة البرج وجلبتها وأضوائها .
لا أدري كيف ومتى نمت، أفقت باكراً في صباح اليوم التالي بعد أن صحت شمس البرج فألفيت نفسي مسنداً ظهري إلى جدار سينما أوبرا متأبطاً الصرة، وجدت بضع قطع نقود بجانبي تركها محسنون مجهولون، نظرت حولي للتأكد من أنها لي ، لا أحد يجلس بقربي. عددتها: 85 قرشاً ، أضفتها إلى التسعين قرشاً المتبقية لدي، اشتريت سندويش فلافل من مطعم فريحة بعشرة قروش، التهمته بنهم ومشيت على غير هدى إلى أن وصلت إلى نصب رياض الصلح. توقفت أمامه مدهوشاً ، ثم مشيت صوب سينما الكابيتول ، أكملت رحلتي السندبادية الداخلية صوب شارع المصارف فالمعرض فالبرلمان. سألت العديد من المحلات عن عمل ولكني لم أوفق بأي منها. لم أعلم يومها بأنه كان بإمكاني الإنعطاف يمينا من المعرض لأصل ساحة البرج،عدت إلى ساحة رياض الصلح. خفت أن أضيع إن اوغلت أكثر صوب البسطه والخندق الغميق فعدت أدراجي إلى البرج، دخلت سوق سرسق وسوق السمك ثم عدت إلى البرج. توقفت أمام سينما الزهراء أتفرج على صور رجال مفتولي العضلات يمسكون بسيوف. اتجهت ناحية سينما بيبلوس وعرفت يومها أين يوقف الشيخ يحيى سيارته في مرآب كبير تحت ذلك المبنى الضخم. وعدت إلى البرج. تسكعت أتفرج على صور راقصات شبه عاريات على مدخل مسرح فاروق، مشيت في البرج ومنه اتجهت نحو البحر، مررت بأسواق الخضار وزحمتها وصياح الباعة وحركة الحمالين السريعة في التحميل والتنزيل وصراعهم فيما بينهم على الزبائن، وكذلك كان حال صبيان صغار من جيلي يبيعون أكياس ورق يلاحقون الزبائن ويتحلقون حولهم كالزلاقط على نقطة دبس. خفت من ذلك الجو فاكملت نزولاً إلى أن وصلت مدخل الميناء ، دخلت إلى ساحتها الواسعة واقتربت من مكان ترسو فيه باخرة عملاقة ، رأيت "البور" والبواخر الأخرى الراسية في مياهه الزرقاء، تجوب بين الباخرة والأخرى قوارب محاطة جوانبها بإطارات سيارات وتصدر أصواتاً كصوت مطحنة أبي فندي. عرفت الآن من أين سافر عدد من أخوالي وأعمامي وأقاربي إلى البرازيل وفنزويلا وكولومبيا، معظمهم لاأعرفه أو بالكاد أتذكره. ما استسغت رائحة البحر وخفت منه ومن زحمة بيروت. اقتعدت الرصيف أبكي : ليتني قبلت من المعلم سليم ، ولكن كبريائي لن يطاوعني بالعودة إلى ذلك الرجل الطيب.عدت أدراجي إلى الحازمية حيث وفقت بعمل كصبي توصيل طلبات لدى "سوبرماركت".
كان المعلم الجديد بخيلاً معي ومع الصبي الآخر لناحية الطعام : سندويش في الصباح للفطور وآخر للغداء وآخر للعشاء دون مرطبات. لا مكان لإقامتنا لديه، تدبرت أمر منامتي مع زميلي الذي يكبرني بقليل، أقمت معه في عمارة قيد الإنشاء لأحد نجوم طرب الستينات, عملت هناك لأسبوعين فقط حيث رافقني الحظ العاثر، إذ صار زميلي يحسدني ويحقد علي بسبب تفضيلي عليه من قبل الزبائن لتوصيل طلباتهم وما يعنيه ذلك من التمتع ببقشيش. حقده قاده لقطع شريط فرامل الدراجة ووصله بخيط ضعيف انقطع أثناء مشوار لي في نزلة مار تقلا، فقدت السيطرة على الدراجة واتجهت بها إلى داخل أرض بور وعرة تعتورها الحجارة والأشواك ، انقلبت عن الدراجة وتحطمت كراتين البيض ومراطبين العسل وصندوقي مرطبات وأغراض أخرى لا أتذكرها. عدت وأخبرت المعلم بما حدث فانفعل وقرر تحميلي قيمة الأضرار التي زادت عن راتبي الشهري لديه، فكرت في الهرب ولكني عدلت عن ذلك حين خَوّفـَني بأنه قد بلغ الدرك وبأني سأتعرض للحبس إن لم أفه حقه .
استمريت في العمل لمدة عشرين يوماً دون أجر، وزاد في الطين بلة حين وشى بي زميلي إلى وكيل العمارة بأني قد هزئت من كتابة الوكيل بخطه الركيك على باب المصعد "ممنوع عدم استخدام المصعد"، يومها ضربني الوكيل وطردني فاعتذرت له عن غلطتي ولكنه استمر في تعنيفي وتهديدي وصفعة أو دفعة بين التعنيف والتهديد. رجوته أن يسمح لي بالبقاء في عملي إلى أن أفي المعلم حقه كي لا يلاحقني الدرك ويحبسوني. زعق بي بغضب مستفسراً عن قيمة المبلغ فقلت له. نخر كالدب وقفز كالشمبانزي متجهاً من فوره إلى المعلم ودفع له المبلغ وقال له : "ما بدي شوف وجه هالعفريت هون" . طبعاً ! المعلم يهمه رضى وكسب الزبون الدسم ولتذهب كل العفاريت إلى حيث يجب أن تكون العفاريت.
بربع ليرة في جيبي مشيت صباحاً نحو ساحة البرج ووصلتها قبيل الظهر مع رفيقتي وزميلة آلامي صرة حوائجي الحبيبة. استأنفت الدوران فيها والسؤال عن شغل إنما دون جدوى. اشتريت سندويش فلافل ورحت صوب "سوق الشلاحيط" لأتفرج على اللحم الأبيض فتفرجت على الفـِيـَلـَة واحدة تلو الأخرى دون التجرؤ على محادثتهن هذه المرة. اتجهت نحو الميناء التي صرت أشعر بأنها بيئة أليفة صديقة أحبها. تعبت ، هبطت ستارة الليل . الضجيج هنا أقل أزعاجاً من البرج. جعت ، ولكني لم أجد الخمسة عشر قرشاً ، تسربت من خرم في جيب بنطالي، استسلمت لقدري، لذت إلى رصيف قرب باب مطعم صغير "اتغذى" على رائحة البسطرما والسجق. و رغم جوعي وعطشي تمكن مني النعاس فنمت نوماً متقطعاً أفيق بين الفينة والفينة من حلم يراودني بأني كنت آكل أو أشرب. فقت صباحاً لأجد قطعاً نقدية من فئة الفرنك والعشرة قروش بجانبي، سارعت إلى المطعم واشتريت سندويشا وسألته إن كان بإمكاني أن أشرب ماء فقال : اشرب قد ما بدك. لم يشبعني السندويش ولكني سأكتفي بما أكلت واحتفظ بما لدي للغداء،اتجهت صوب محل حلويات تعطر رائحتها الشهية تقاطع شارع المارسيلياز مع طريق "البور"، نظرت عبر الزجاج البراق النظيف فرأيت تشكيلات من الحلوى لم أعرف ما هي. وفي الداخل فتى بدين في أوائل عشريناته منهمك في تجهيز نوع من الكعك يحشوه بشيء أبيض ظننته في البداية قشطة، ثم يرويها بالقطر، شدني شكلها الشهي ورائحتها الطيبة، فكرت بشراء واحدة ثم تذكرت بأن أمي وأخوتي لم يأكلوا مثلها فعدلت عن رأيي وخرجت من المحل. لم استطع الإبتعاد أكثر من خطوات معدودات، رائحة الحلوى وسلطان الجوع أعاداني جذباً نحو المحل فتقدمت من الفتى البدين وسألته بلعاب يملأ فمي: " شُو ها ؟" رد علي ببرود ولامبالاة : "كنافه بجبن" ، ضعفت أكثر أمام "جبروت" القطر وبياض الجبنة فطلبت منه واحدة ودفعت له قطعا نقدية صغيرة وسارعت بالتهام الكعكة بشراهة المتضور، تذمر البائع بازدراء من "الفراطة" : " شو كاين ع َ باب الجامع ؟" لم أفهمها ولم أهتم لفهمها ولم أرد عليه كما لو كنت أقول له دعني أستمتع و أتلذذ بطعم الكنافة بجبن وحلاوتها، ولـَكـَم استغبيت ذلك الفتى لبيعها وعدم الإحتفاظ بها لنفسه.
لبثت أجول بصرة حوائجي على كتفي إلى أن أشفق الطريق على رجـْلـَيّ المنهكتين اللتين صارتا غارقتين في عرقهما. شعرت بأنهما تحترقان. خلعت فردة حذائي وما إن لفعت أنفي رائحة قدمي حتى خجلت من نفسي وأعدت انتعال الفردة بسرعة ملتفتاً حولي فيما إذا كان أحد قد شاركني "نعمة الشم" . وقفت ومشيت لأبحث عن عمل، رأيت لوحة معلقة على شرفة في الدور الثاني من عمارة حجرية قديمة كتب عليها " مكتب النورس للسياحة والسفر" . قلت لنفسي بأنه لا أمل لدي في ذلك لأني صرت أعلم بأن هذا النوع من الشركات يطلب لغة انكليزية أو فرنسية وأنا بالكاد أقرأ العربية. درت حول العمارة فوجدت في الجهة الأخرى نفس اللوحة التي تحمل اسم نفس الشركة وبقربها إعلان صغير يطلب شغيلاً ، حيرني الأمر ، شككت بنظري وبذاكرتي، عدت إلى الجهة الأولى للعمارة فوجدت اللوحة لازالت في مكانها، حينها قدرت كم هي كبيرة تلك الشركة التي لديها مدخلان في عمارة ضخمة كهذه. أقتربت قليلاً فقرأت على مدخل العمارة : " مكتب النورس للسياحة والسفر بحاجة لعامل تنظيفات". عامل تنظيفات ؟؟ فهمت المقصود، لا بأس ! ذلك لا يتطلب لغات ولاثقافة ولا من يحزنون، أكنس وأمسح كما كنت أرى أمي تكنس البيت وتمسحه. ولجت المدخل وصعدت الدرج الحجري، وصلت إلى الدور الثاني فوجدت باب الشركة مشرعاً تأتي منه رائحة زكية، جو القاعة يشي بصباح هادىء لم تعكره بعد جلبة الزبائن، في الداخل رجل مسترخ خلف مكتبه في مقعد جلدي أسود فخم، يدس وجهه في جريدة يقرأها، لم يرد تحيتي الصباحية. فكرت في العودة من حيث أتيت ولكني تذكرت بأنهم هم من يطلبون شغيلاً فشجعت نفسي على العودة نحوه،خطوت بتردد وبطء ووقفت أمامه ، حييته مجدداً بصوت أعلى فشعر بوجود بشري يخاطبه. توقف عن القراءة ورمقني باستخفاف ظاناً بأني أتسول وهمهم بعدم اكتراث: روح ألله يعطيك ! ثم استأنف القراءة فاتجهت نحو المدخل هاماً بالخروج وتوقفت حين ناداني: شـُو إسـْمـَكْ ؟
عدت نحوه ورديت عليه بصوت خفيض : زين الدين ، أمي بـْتـْقـِلـِّي زَيـْنـُو .
- قديش عمرك ؟
- عشر سنين .
هز الرجل برأسه وهو يتفرس بوجهي وقامتي ثم قال: خـَلـِّيكْ هَوْنْ! انتظر! . نهض من كرسيه واتجه نحو باب فخم يتوسط جداراً مغطى بستائر فخمة لم أر مثيلاً لها في أفضل المنازل في ضيعتنا. عاد بعد دقائق واستدعاني فتبعته. دخلت خلفه إلى ما وراء الستائر الجميلة فألفيت كهلاً مهيب الطلعة يرتدي بذلة سوداء وربطة عنق سوداء ونظارة سوداء، خلع النظارة وصار يتفحصني ويحادث موظفه، وكلما أطال نظره بي كنت أراه رزيناً وقوراً ودوداً في عينيه دفء أبوي قربني منه، عرفت للتو من خلال حديث الرجلين بأن صاحب النظارات هو صاحب الشركة وبأن اسمه أبي جورج .
- ألله ! هذا هو، قالها أبو جورج ثم هب من مقعده الوثير وجاء صوبي يبتسم بابتهاج من وجد مفقوداً ثم تناول عن مكتبه صورة عليها شريط أسود معقود بشكل فراشة وأدارها نحوي : أتعرفه ؟
دققت في الوجه فاعتقدت لأول وهلة بأني أنظر إلى وجهي بالمرآة لولا ملاحظتي للسلسال الذهبي المنتهي بصليب على صدر الفتى وللملابس الأنيقة النظيفة التي لم أتصور ولن أحلم بأن يصح لي أن أرتديها فقلت للرجل: لا يا خواجه لا أعرفه، أظن بأنه يشبهني.
- يشبهك ؟ بل هو أنت و أنت هو : أنت جورج يا بني !

قلما سمعت كلمة يا بني من رجل منذ رحيل أبي. حنيت لرنين تلك المخاطبة الأليفة. رمتني عبارته الغامضة في وهدة حيرتي وبقيت أتساءل عما يقصده إلى أن عرفت من خلال حديث الرجلين بأن أبا جورج فقد وحيده منذ شهرين، وبأن زوجته تمر بأزمة نفسية وصحية ، وفكر الرجلان بأن تـَبـَنـِّي الأسرة المكلومة لصبي يشبه الصبي الراحل قد يخفف من معاناة الزوجين. طلب أبو جورج من موظفه أن يرسلني مع السائق إلى منزل أبي جورج لتشاهدني "المدام" وتبدي رأيها، وهو سيكلمها عبر الهاتف ويشرح لها ما يفكر به.

في الحلقة القادمة سوف يستبقي أبو جورج وزوجته الصبي زَيـْنـُو لديهما ليس كموظف إنما كولد بالتبني. ولكن .. إلى أي مدى ستتقبل أم زينو تبني عائلة من طائفة أخرى لولدها ؟.

الخبر في : 01/08/2010

CONVERSATION

0 comments: