مذكرات زينو (3)/ محمود شباط

في طريقنا إلى منزل إبي جورج سلك السائق خطاً بمحاذاة البحر، وصار يدلني : هذه منطقة النهر، وهذه منطقة برج حمود، وهذه "دويرة مار يوسف" ثم انعطف يميناً صوب منطقة لا أعرفها يعدد مناطق لاأذكر أسماءها. كان يعاملني برقة واحترام بالغين، سألني إن كنت أعرف بأن "الخواجه اسكندر ومدام أديل" يسعيان لأن يتبنياني كبديل لولدهما الراحل فلم أفهم عليه ولم أرد. لم يحادثني بعدها وظل يسوق بصمت. رَكـَنَ السيارة في مرآب واسع تحت العمارة ثم صعد أمامي فتبعته. رآني حارس العمارة أسير خلف السائق أتلفت حولي مأخوذاً بمنظر وألوان اللوحات الطبيعية على جدران مدخل العمارة فقهقه سائلاً السائق : " شو با هيدا متل دويك شي شمال شي يمين" . صرخ به السائق وأسكته بعبسة ورفعة من حاجبيه فامتثل الحارس ووقف منتصباً كحراس الثكنات وهو يرمقني بتعجب. خرجنا من المصعد في الطابق السابع، تهيبت المشي بحذائي القديم على الموكيت السميك الأزرق. خلعت الفردتين وتأبطتهما فسارع السائق يساعدني في إعادة انتعالهما. رن الجرسَ ففتحتْ البابَ سيدة خمسينية بدينة عرفت من كلام السائق معها بأنها الخادمة، وبأن المدام في زيارة لبيت أهلها . كانت تكلمه وعيناها علي، ثم أمْسَكـَتْ بيدي وقادتني نحو مقعد وضعت عليه منشفة وأجلستني عليه وهي لازالت تقول للسائق : لولا ارتدائه لهذه الملابس لقلت بأنه هو نفسه فالتفت السائق صوب صورة الصبي شبيهي التي رأيتها في مكتب أبي جورج. احتضنتي وقبلتني ومسحت دموعها وهي ترسم إشارة الصليب على صدرها وجبهتها ثم سألتني عن نوع العصير المفضل لدي فرديت متعلثماً : " ما بدي شي" ولكنها أصرت وأحضرت لي كوباً من عصير البرتقال.
بعيد نصف ساعة جاءت المدام، أربعينية مجللة بالسواد،سمراء ممتلئة باعتدال كأنها خالتي سعدى - لو تجرأت خالتي على ارتداء ذلك الفستان الأسود الضيق الذي يكشف إلى ما فوق الركبة بقليل-. توقـَّفـَتْ مشدوهة عند الباب ثم هَمَّتْ مسرعة نحوي تهدل كيمامة تغط لالتقاط زغاليلها، فاردة ذراعيها ترجوني أن أتكلم لتسمع صوتي ثم غمرتني وقبلتني، لم تسألني عن اسمي بل سألتني عن عمري، رديت باستحياء وتلبك : عشرة يا ست ! (أجل ، هكذا أوصتني أمي أن أخاطب أهل بيروت باحترام: الزلمه خواجه والمرا ست) . رجتني المدام برنة أسى أن أناديها ماما، هززت برأسي ورددت هامساً كلمة ماما. شعت عيناها الحزينتان بفرح حزين وفهمتُ من زغردة ملامحها وتمتمات عديدة متواصلة بأنها قد اشتاقت لسماع تلك الكلمة من نفس الصورة وبذات الصوت. ثم أمسكـَتْ بـِصرّة ثيابي وطلبت من السائق أن يرميها ويحضر لي ملابس تليق بابن اسكندر سنجار كما قالت، ارتج قلبي لسماعها تأمر الرجل لرمي الصرة فقفزتُ بهلع وتأبطتها لأن فيها صورة والدي وأمي وأخوتي. دَهْشـَتـُها من نظراتي العاتبة و لهفتي على أسمالي أوحت لها بمدى حرصي على محتويات الصرة.هزت رأسها بحسرة وتعاطف: "ما تزعل ! خليها معك". ثم طلبت من الخادمة مساعدتي لغسل وجهي ويدي وتسريح شعري وكررت طلبها للسائق بإحضار ملابس لي بسرعة.
جلسنا إلى مائدة الطعام. لاحظتْ بأني لا أستطيع الوصول إلى صحن على منتصف الطاولة فقربته مني وطلبت من الخادمة أن تحضر أريكة تضعها على كرسيي، ترددت الخادمة حائرة فقامت المدام وأحضرت الأريكة. حين أجلستني عليها واطمأنت لراحتي ارتاحت هي فخمنت بأن تلك الأريكة هي التي كان يجلس عليها جورج. عاودني هاجس الخشية من التبني الذي لازلت أجهل ما يعني، ولكني نسيته بسرعة لأني كنت جائعاً جداً و صار همي أن "تتبنى" معدتي ذلك الطعام الشهي الذي ما شفت أي من أنواعه في بيتنا. جلست ماما الجديدة بجانبي، لاحظت ارتباكي في التعامل مع الملعقتين الصغيرة والكبيرة والشوكة والسكين فقالت لي: كول ع َ راحتك ! وحين بدأنا بتناول الشورباء وشوشتني بلطف أنه بإمكاني أن أحتسي دون إصدار ذلك الصوت وعلمتني كيف أمسك بالملعقة وكيف أرشف.
بعيد ساعة أحضر السائق حقيبة مترعة بملابس جديدة شبيهة بأشكالها وألوانها من تلك التي رأيتها على الصبي في الصورة، تـفقـَّدَتـْها ماما أديل قطعة قطعة، انتقت منها بنطالا من المخمل البيج وسترة بنية اللون وقميصاً بلون سكري وربطة عنق بنية وحذاء وجوربين بنيين وقالت لي : "تـْحَمـَّمْ باللأول" ثم طلبت من الخادمة أن تساعدني على الإستحمام، امسكت الخادمة بيدي فنترت يدي من يدها و تشبثت في مقعدي أتقلص حياءً وحرجاً. التصاقي بمقعدي أكثر فأكثر دفعها لاستفساري فيما إذا كنت أستيطع الإستحمام بمفردي؟ كذبت عليها وهززت برأسي. قادتني إلى الحمام فتبعتها، هالني مشهد الحوض الطافح برغوة الصابون فصرت أرجع إلى الخلف، أمسكت بيدي وجذبتني برفق نحو المغطس وطمأنتني بأنه ليس عميقاً ولاخوف علي من الغرق فيه، ولتطمئنني أكثر رمت الصابونة فيه والتقطتها وأعادتها إلى مكانها. دلتني على الشامبو وقارورة العطر والحنفيتين : "الزرقاء للبارد والحمراء للساخن" . ثم دلتني على ملابسي الداخلية والمنشفة وأوصتني ألا أقفل باب الحمام من الداخل فأيقنت أكثر كم هي خائفة أن تفقدني بعدما وجدتني. بعد خروجها من الحمام جثوت بجانب المغطس لأطمئن بنفسي إلى عمقه وعدم خطورته، أمسكت بعصا مكنسة و أنزلتها في المغطس لسبر غور قاعه، لامس طرف عصى المكنسة قعر الحوض فارتحت واطمأنيت، ورغم ذلك تشبثت بيدي بحافة المغطس وخطوت بحذر برجلي اليسرى، انتظرت إلى أن استقرت، ثم أدخلت اليمنى، الماء حار نسبياً لم أتحمله فخرجت من المغطس، لقد قالت لي بأن إحدى الحنفيتين تصب ماء باردا والأخرى حارّاَ، ولكني نسيت الآن أيهما الباردة وأيهما الساخنة،اضطررت للمغامرة والتخمين كما كنت أفعل في الضيعة لتحديد هدف معين فاعتمدت لعبة "الحـَكـَرَهْ بـَكـَرَهْ" ، وضعتُ سبابتي على الحنفية الزرقاء وصرت أعد منقلاً اصبعي بين الباردة والساخنة : " حـَكـَرَه بـَكرة قلي سيدي عد للعشرة واحد ..اثنين.. تلاته.. اربع ..خمسه ..سته ..سبعه .. ثماني .. تسعه .. عشره " فاستقرت سبابتي على الحنفية الحمراء التي قادني تخميني البدائي إلى أنها الباردة. فتحتها فتدفق منها الماء الحار والبخار. أقفلتها وفتحت الزرقاء وأكملت اغتسالي.
في اليوم التالي كنت في المكتب على مقعد مخصص لي بجانب الخواجه اسكندر، يدللني ويُعَرّفُ الموظفين على "معلمهم الجديد". دخل علينا رجل بيده حقيبة، عرفت لاحقاً بأنه محامي الشركة، عـَرّفـَهُ الخواجه عليّ وشرعا يتحدثان بخصوص الإجراءات المطلوبة للتبني وبضرورة اقناع "أهل الصبي" أولاً ، وبعدها لتسجيلي في المدرسة والمبلغ المقترح وتفاصيل أخرى. لم أدر يومها طبيعة عمل المحامي ولا أعرف ما تعني عبارة التبني ولكني عرفت بأن الخواجه سوف يدفع مبلغاً لأمي ويتكفل بمعيشتها وبتكاليف تربية وتعليم أخوتي وبأنني سوف أكون وريثه على كل ما يملك مقابل بقائي معه ومع السيدة. ارتفع نبض قلبي من عملية "البيع" ودهمني كابوس فصلي عن أمي وأخوتي. لم أعترض علناً ، إنما بدا علي ذلك من خلال نزعة خبيئة نحو التوحد رغم إغداق أهلي الجدد علي بخاتم وبلاك ذهبيين وبكل ما كنت أطلبه ولا أطلبه: كنافة بجبن ، ألعاب ، ساعة جديدة، زيارة يومية للمسابح أوالسينما أو رحلات. اصطحبتني السيدة إلى مدينة الملاهي، انبهرتُ دون تعلق بأي من ألعابها. عفت الحصان الآلي والسيارات وانطرحت على العشب بملابسي الجديدة دون أن تعترض ماما أديل، بل كانت تبتهج لما يبهجني، وجدْتُ نبتة شوكية بشكل دبوس إبرة لا أعرف اسمها، ولكننا نسميها بالضيعة "يا دبوس بروم بروم" ، إذ فور قطع ساق تلك النبتة الصغيرة يبدأ الدبوس الأخضر الطري بالإلتفاف حول محوره بشكل حلزوني فترتفع أصوات الأطفال تردد طالما الدبوس يبرم: يا دبوس بروم بروم ...راحت أمك عَ لكروم ... راح بـَيـَّكْ عَ لجبل .. غطس دقنو باللبن". صارت ماما أديل تبتسم باستغراب في البداية ثم انخرطت تردد معي اغنيتي تشاركني فرحتي بلعبتي البدائية وسألتني عن معنى الكلمات فقلت لها بأني لاأعرفها ، أنما أرددها كما تعلمتها. في يوم آخر راحت بي إلى مسبح السان جورج، جلست هي إلى طاولة تحت شمسية كبيرة ملونة بملابسها السوداء تراقبني عن قرب وأنا أعبث مع صبيان وبنات آخرين في بركة ضحلة المياه مخصصة للأطفال.
في ذلك المساء، بينما كنا نشاهد مسلسل "بونانزا" التلفزيوني، رن جرس الباب ففتحت الخادمة للسيدة "نزهة" ، والدة أم جورج، ستينية وقورة مستشقرة الشعر تبدو بعمر ابنتها ، جلست بجانب المدام تتهامسان ، من حين لآخر أسمع كلمات : تبني ، تعب راس، صعبه ، بعدها فـَجّه ... وكلمات أخرى بالعربية والفرنسية لم أفهمها. خمن أبو جورج بأن حماته المثقفة، العلمانية،مديرة المدرسة المعجبة بجبران و نعيمة وأحمد أمين ومارون عبود وعمر أبي ريشة و سعيد عقل وأحمد شوقي جاءت لتحذرهما من مغبة استعجالهما بقرار تبني صبي مسلم، وصدق حدسه حين ارتفع صوت السيدة نزهة تسأل ابنتها بنفاد صبر:
- ليش يا أديل؟ ما عم إفهم فهميني !
فوجئت أم جورج باعتراض أمها. أخذت وقتها في الرد ثم أخبرتها بأن هدفها هو "استرجاع" ابنها بصرف النظر عن دينه ومذهبه.
- طـَوْلـُو بـَالـْكـُنْ ما تـْعَجـّْـلـُو ! عـَلـَّـقـَت السيدة نزهة.
بدا الحزن المشوب بالقلق على وجهي اسكندر وأديل. اعتصما بالصمت ،لا يرغبان في الخوض في جدال مع السيدة الكبيرة ، وبذات الوقت لن يفرطا بي. قرأت السيدة نزهة وجومهما وعدم اقتناعهما فسألت : شو يا أديل ؟
- صعب كتير يا ماما !
- شو هوي الصعب كتير يا بنتي؟
- أن أخسر ابني مرتين .
تأثرت السيدة الكبيرة وأشاحت بوجهها بسرعة إلى الجهة الأخرى . مسحت دموعها وقالت لابنتها بأنها لم تكن لتمانع عملية التبني هذه لو كانوا في جزيرة لا يعرفهم أحد.
تدخل اسكندر : نعلم بأن عدداَ من أقاربنا وأصدقائنا سيقاطعنا ، ونعلم بأننا سنأسف لهذا بالتأكيد، ولكننا سنأسف أكثر إذا هدرنا فرصة تبني هذا الملاك، لايهمني دينه ، ما يهمني هو أنه سيعيد الحياة إلى حياتي وحياة زوجتي .
- مزبوط يا اسكندر ! ليس من مشكلة طالما أن المسألة ضمن حدود التنظير، ولكن تذكر بأن صونيا بنت جان لم تتزوج لحد الآن لأن والدها مسيحي وأمها مسلمة، ما ذنب تلك الحورية الجميلة المثقفة التي ولدت كبقية خلق الله و صودف أن والدها من طائفة وأمها من طائفة أخرى، أتعلم ما يقال عنها ؟ يقولون بأنها إرادة ألله ، أنا لا أوافقهم ، ولكن هذا ما يتقولونه.
انفجر أبو جورج معترضاً محتجاً على إقحام اسم الجلالة بتقولات وتخرصات : الحملة الصليبية الأولى شنها البابا أوربان الثاني تحت شعار : " فلتكن إرادة الله" ، والمسلمون كانوا يحاربونه تحت شعار : "إعلاء كلمة الله" . هذا يدعي بأنه شعبه المختار وذاك يزعم بأنه وكيله على الأرض وقد يأتي مستقبلاَ من يسيس الدين علانية ودون تورية.
هدأته حماته: كفي القهوة ! لشو التعصيب والسباحة ضد التيار ؟
لم يمسك بفنجانه بل هدر صوته مبربراَ بانتقاداته لرافعي شعارات الوطنية والعلمانية ويمارسون عكسها . أدركت بأنه يقصدها فقاطعته بصوت حاد تنبهه بأن العدد القليل من أقاربهم الذين سيبقون يزورونه وزوجته سيسايرونهما في حضورهما ولكنهم سيوصون أبناءهم من مغبة التزاوج مع نسل "ابنهما الجديد" . فـَكـّرْ في المستقبل يا اسكندر! لسنا في الغرب، ولن نصبح في مستوى الغرب طالما أن المدارس والجامعات والمؤسسات تفرخ طائفيين جدداَ .
- سألها : رحماكي ! قولي لي كيف سأشتري سعادتي دون إغضاب الآخرين ؟
قلبت شفتيها في إشارة لجهلها بالجواب ثم ردت بسؤال : شُو فيك تـْغـَيـّرْ؟ .
بعد مضي شهر على وجودي في بيروت كمشروع صبي بالتبني بالنسبة لوالدي الجدد، وكصبي يعمل في بيروت بالنسبة لأمي . انطلقت بنا السيارة في صبيحة يوم أحد صوب ضيعتنا، كنت أجلس في المقعد الخلفي بين ماما و بابا، كانا يتحدثان بصوت منخض كي لا يسمعهما السائق.
في منزلنا في الضيعة دار الحديث بين أمي وأمي الجديدة ، كنت أفهم من كل منهما محاولة تبرير وجودي وحاجة كل منهما إلي، ثم ختمت أمي كلامها بعبارة تخنقها الحاجة العبرة للطوائف : اعتبراه ابنكما إنما ليس بالتبني " ديرو بالكن علي " .
بدا نصف الإرتياح على وجه ماما وبابا، ترقرقت دموعي لترقرق دموعهما وتنهنهت لتنهنه أمي، كنت حينها أنشطر إلى صبيين مسترجعاً صور ماما أديل التي حنت ورقت وأغدقت وكذلك أمي التي حملت وربت ... وأتساءل : أيهما أمي ؟

CONVERSATION

0 comments: