رسالة فوق الماء/ د. عدنان الظاهر


(( عزيزي :

أنا اشتقت إليك. أحبَّني كما تريدُ وبقْدر ما تريدُ ...

فالحبُّ أجملُ مايقدّمهُ البشرُ لنا

هذه الرسائل ليست له ، بل لي

هو ذهبَ في الماضي وولّى

لا تُذكّرني بهِ أبداً

ما أخبارك ؟ ))

وضعتْ هذه الكلماتُ القليلةُ أمامي أشعاراً وأغانيَ قالوها أو غنوها وماتوا ، رحلوا كما يرحلُ باقي الناس وكلُّ مَنْ عليها فان . منها مثلاً كلمات نزار قبّاني [ إشتقتُ إليكِ فعلّمني أنْ لا أشتاق ْ ] ، وكلمات فريد الأطرش في إحدى أغانيه [ حبّني قد ما تقدر يا حبيب القلب ] . فأي توافق عجيب وجدته في هذه الكلمات الطيّبة الخارجة من شغاف القلب مع محتويات كلام بعض الناس قالوه في مناسبات مضى زمانها وانقضى وبقيت ذكراهم بعدهم ؟

( لا تذكّرني به أبداً ! ) . ما هي آليات النسيان لدى البشر ؟ كيف يتسنى لهم نسيان بعض ماضيهم ومحطّاتٍ شغلتهم يوماً واخترقت منهم الجلدَ والعظمَ ؟ الكلُّ عانى وما زالوا . الكل مرَّ بالتجرية . الكل دفع الثمن والفائدة المترتّبة عليه أضعافاً فهل يتعلم الإنسانُ وهل يتّعظُ ؟ هل يأخذُ العِبرة ويعتبر أم يبقى يقامرُ ويجازفُ مُغمَضَ العينين تحرّكه قوى خفيّةٌ وأقدارٌعمياء مثله ، كالمقامر المحترف تماماً : يواصل المقامرة ويخسر المزيد على أمل أنْ يستعيدَ ما خسرَ ويُضيفُ له أرباحاً تعويضاً عمّا خسر زائداً الفوائد المترتبة على رأس المال المفقود . هل الحبُّ مقامرة أم قدرٌ يستحيلُ صدّه أم مغامرة خرقاء هي مزيجُ وحاصل قَدَرٍ ومقامرة ؟ هل القَدَرُ يقامرُ أم المقامرة ضربٌ من الأقدار ؟ هيَ ، وربما هي وحدها ، تعرف الجواب . غامرتْ وقامرت فنالت الجزاء والعُقبى الصارمة . إحترقت بقدرها إذْ غامرت وقامرت وقبلت التحديقَ بإسراف في دنيا وعوالم مجهولة كثيرة العَتمة فاندفعت بأقصى جرأةٍ وسرعةٍ في طوقها حتى اصطدم يافوُخُها بأعلى الصخرة فتهشمت وتبخّرت الأحلامُ ولاتَ ساعةَ مهربٍ أو مَندمِ . قالت إنها كانت ضحية خدعة كبيرة محبوكة بإحكام وخبث فطبيعة مَن خَدَعها وخانَ أخطبوطية التشكيل والتخطيط والهندسة والإستعداد الفطري . بعضُ الناس خبثاء لؤماء أنذالٌ بطبيعتهم وجيناتهم وتأريخهم . قدرٌ أعمى يواجهُ قدراً هو الآخرُ أكثر عَمىً وأشدُّ تعاسةً : غبيٌّ مفتوح العينين ينظرُ لكنه لا يرى وتلكم مصيبة المصيباتِ وكل المصائب التي تدور وتحلُّق في رؤوس وأفاق بعض الناس الطيّبين أو السُذّج الغُفْل . كيف لي أنْ أفتحَ عينيك الجميلتين يا إمرأة ؟ وإذا ما أمكنتني الحياةُ من ذلك فكيف لي أنْ أفتحَ بصيرتكِ ذات الغشاوة المركّبة بالجهل والحرمان ومرِّ السنين وألجَ صدرك وعالمك الميتا [ في ] [ زيقي ] الخفيِّ لأعالج الخلل وأضعَ العُقارَ الطبيَّ المناسب وأنا لستُ طبيباً ؟ هل استشرتيني أولاً حتى تطلبي معونتي أخيراً ؟ أهلاً بك عَنتَرة الزنجي بطل بني عَبْس البُلْج :

يُسمونني في السلمْ يا ابنَ زبيبةٍ

وعندَ اشتباكِ الخيلِ يا ابنَ الأطايبِ

أو كما قال شاعرٌ لا أعرفه غيره :

وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتَقَدُ البدرُ

أظنه نفسه شاعرُ وبطلُ بني عُبيّس ...

أهلنا العربُ وقبائلنا العاربةُ لا يعرفون أوقات السلم عنترَ البطلَ المغوار الشديد البأس ، لكنهم سَرعانَ ما يتذكّرونه ويُشيدون به وأصله وقدره في وقت الحرب والشدّة . يعيرّونه وقت السلم بأمّه العبدة السوداء [ زبيبة ] ويسّمونه بها إحتقاراً ، وفي غير وقت السلم فإنه البطلُ المجيد النقيُّ الأصلِ والمنبتِ والمنشأ ، إنه الطيّبُ وابنُ الطيببين وسليل العِترة الشريفة . نفاق نفاق ورياء وخسّة ووضاعة . يا سيّدة : أنا لستُ عنترةَ الأسودَ الشديد القِوى ، لا بأسُهُ عندي ولا سوادُ وجههِ أو سَخامُهُ وما كانت والدتي يوماً زبيبة ولا خوخة ولا عنجاصة !! إنما كانتْ ، ولم تزلْ وهي في مدفنها في سرداب العائلة ، الحاجّة شاكرة ابنة عبّود أبو جريع ( أي جرئ ، وهو لقب أجدادي لأمّي ) . لو كنتُ أُحسِنُ تقديم إستشارات لكنتُ أنا أولى منكِ بها. ولو كان عندي دواءٌ شافٍ لعلاجك لأفدتُ أنا منه قبلك بعقود . إنكِ تسلخين جلدي وتعرضين عظامي لحرقة شمس تموّز العراق . أستري يسترك الحبُّ الذي كاد أنْ يقتلك حيّةً تسعين في الدروب المجهولة والغارقة في الطين وغير الطين بقدمين صغيرتين عاريتين منزوعة الأظافر . ماذا تفيدك الأقمشة والسجاجيد والبُسُط الحمزاوية ولفائف الحرير والأصواف والكتّان وحُجُب الرأس والصدر ؟ هل حصّنتك بالدواء الواقي مما اعتراك من محنة ضربتك طولاً وعرضاً واخترقت وجودك سراً وفي العلانية ؟ هل وقفت سدّاً منيعاً تصدّى لطوفانَ جدّك نوح ؟ لا . كلاّ . كلاّ لا وَزرَ ولا وزرةٌ ولا إزار . عراءُ وبلاءٌ وتعرية . لا من حلٍّ لكِ في حوزتي وأمري ميؤوسٌ منها لشديد أسفي . تعلّمي من تجاربك والناس يتعلمون ويتّعظون ويأخذون العِبرة وينتفعون بحرارة العَبَرات الساقطة في نهر الفرات من على جسر المُسيّب حيثُ سابني زماني وسيّبني أحبابي وسبتني أوطاني [ بلادُ العُرْبِ أوطاني / من الشامِ لبُغدانِ / ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ / ومن مصرَ لتطوانِ ] . سياحةُ فريد الأطرش في بلاد العرب على بساط الريح البولمان أفضل بكثير من سياحة وتطواف قائل هذا الكلام . تمام فريد ؟ تمام ونصِ ، بربّي تمام ، أجاب الرجل . الرحمةُ لنا ولك يا فريد والبقاء في رأس العاشقات الخائبات والخائبين من غير عشق .

ألحّت الفتاة المكسورة الخاطر والقلب والرئتين في طلب حلٍّ لمعضلتها التي استعصت وأزمنت . ولمّا لم أجدْ ما أنفعها به طفقتُ أهذي مع نفسي مفتعلاً الخبال كحال مجنون ليلى وأردد مفتعلاً حال المتصوّفة وهم في مقامات الوجد الصوفيِّ للوصول والإندماج الكلّي أو الجزئي بالذات الأعلى يدورون ويهزّون الرؤوس والأجساد فغبتُ مثلهم عن وعيي ثم أفقتُ مردداً بعض أشعار المتنبي في العشق والعاشقين :

وللخوَدِ منّي ساعةٌ ثمَّ بيننا

فلاةٌ إلى غيرِ اللقاءِ تُجابُ

وما العشقُ إلاّ غِرّةٌ وطماعةٌ

يُعرِّضُ قلبٌ نفسَهُ فيُصابُ



وغيرُ فؤادي للغواني رمّيةٌ

وغيرُ بناني للزجاجِ رِكابُ

قالت محتجّةً : لكنَّ هذا كلام رجل عن نفسه قاله متبجّحاً مفاخراً وأنا إمرأةٌ مظلومة مهضومة فما قال هذا الشاعر في وضع وحال إمرأة مثلي ؟ لم أفكّر طويلاً ، فالجواب جاهز : قال نزار قبّاني :

لا تعتذرْ

يا نذلُ لا تتأسفِ

أنا لستُ آسفةً عليكْ

لكنْ على قلبي الوفي

قلبي الذي لم تعرفِ ...

سمعتها تبكي بحرقة الثواكل رغم أنَّ مَنْ خدعها وخانها لم يمسسها أبداً لا من قريب ولا من بعيد . تركها كما وجدها صندوقاً مُغلقاً مختوماً بالشمع الأحمر . شريف ، والله شريف ، علّق فريد الأطرش . تدخّل القبّاني فسألَ الأطرش : وأنت يا فريدَ زمانك ، ما كنتَ فاعلاً بهذه السيّدة التي عاشت أكثر من ثلاثين عاماً بلا تجربة في الحب [ ما عندي تجربةٌ / في الحبِّ ولا عندي زورقْ ] ؟ قال فريد : أدعها تغرق فمثلها لا يستحق الحياة ! صرخت السيدة المغدورة : ما هكذا عهدتك يا فريد يا مليك النغم والطرب ! متى تعلّمتَ القسوة وغِلظة القلب يا فريدُ ؟ تبسّم فريد مُحرَجاً خجِلاً ثم قال : أفعلُ ذلك لأنني غير قادرٍ أنْ أفعلَ أمراً سواهُ آخرَ ، إني عاجز يا سيّدة مجهولة القدر والمقام فماذا أفعلُ معكِ وبك ؟ أتخلّصُ منك ومن عجزي وما ينتظرني من فضيحة ، أرميكِ في البحرِ الأسود أو في البحر الميّت . بانت في عينيها دموعها وهي تقول : ديك الجِن ديك الجِن ! لن تجبلَ من رمادي كأساً لتناول الخمور لأنّك لا تتعاطى شربها أصلاً. نهض القبّاني مُشرق العينين بادي الفرحة قائلاً : أنا أتعاطاها ، نعم ، أتعاطاها وأحياناً بإفراط وأنا من قال [ الكاسُ العاشرُ أعماني ] ...

إنتهت مقامة العشق الصوفي والحرمان الأفلاطوني . أطفأتُ الأنوارَ وأغلقتُ أبوابَ ونوافذَ مسرحَ الأوزبكية في القاهرة حيث غداً ستغنّي أمُّ كُلثوم أغنية

[ أنساكْ ؟ ده كلامْ ؟ أنساك يا سلامْ ... ] . أجهشَ الحضورُ جميعاً في نوبة بكاء هستيري غير مألوف ولا من عَجبْ في شهر رمضان قبل السحور... كلٌّ يبكي على ليلاه .

 

CONVERSATION

0 comments: