ربّة القصر/ د. عدنان الظاهر



( أنا والهاجس ووجهها المخفيّ . الهاجس هو أنا الآخر أحياناً والشيطان أحياناً أُخرَ ) .

يُسائلني هاجسي : ما سبب نعتك لهذه الفتاة بربّة القصر وأي قصر وأيّة ربّة فالأرباب والربّاتُ كثارٌ ؟ لم أجبهُ ، لا استنكافاً ولا تكبّراً ولا عناداً إنمّا جهلاً بالجواب ! لا أعرفُ الجواب . لاذ لحسن حظّي بالصمت وتظاهر بالإنصراف عنّي وعدم اكتراثه بموقفي . إنه إبليس . شيطان . شيطانٌ رجيم . تظاهر بالإنصراف عني لكنه كان طوال الوقت يُراقبني قريباً ـ بعيداً عنّي . عينٌ عليَّ والأخرى على وجهيها ، الحاضر والآخر الغائب . في التصوير الأول منهما مرتديةً كافة ألوان الطاووس الشاهنشاهي وريشه وخُيَلائهِ وفي الأخر فضّلت لأول مرةٍ اللون الرمادي . سيّان ، كلُّ الأطياف اللونية تناسبُ لونَ بَشَرتها وزرقة لازورد وتركواز إستدارة قَمَريْ عينيها . ليته يتركني وباقي شؤوني ويُلهي نفسه مستغرقاً سائحاً هائماً في غموض عوالم السيّدة ودواخل مشاعرها الباطنية . ليته ليته ! إلتقطَ الشيطانُ الإبليسُ منطوق الجملة الأخيرة فسألني : أوَ تحسبُ أنَّ هذه السيّدة صاحبة القناعين إنسانة متصوّفة ؟ لا أدري ، أجبته . إسألها و [ إسالْ روحك ] . ضحك اللعينُ وقال إنما هذه واحدة من أغاني أم كلثوم . أجلْ ، وإنها تهوى سماع أغاني أم كلثوم . أطرقَ يسألُ كَمَنْ يمتحنُ نفسَهُ مُردِّداً : هل عاشقةُ صوت أم كلثوم صوفيّةُ الهوى والمنحى؟ أشفقتُ عليه فخفّفتُ بعضَ العِبءِ عن كاهليه قائلاً إنها ليست صوفية حسب مفهوم التصوّف المطلق المعروف ، فلا الحلاّج مثالها ولا مُحيي الدين إبنُ العربيِّ ولا النُفَّري. قال لكنَّ هذا الثالوثَ حُجّةُ وكعبةُ الكثير من الشعراء كالبياتي وأدونيس وغيرهما . إنها ليست كهؤلاءْ شاعرة يا شيطانُ ، قلتُ له . إنها امرأةٌ تهوى الأدبَ حسبُ ، وفي حياتها رهبنةٌ أو شيءٌ كالرهبنة . لا تخرجُ عن الأعراف والأصول مكتفية بما لديها وما يأتيها من رزق حلال مشروع . تنحنح الشيطانُ وابتسمَ وهذا دَيدنُهُ إذا سخر من شيءٍ أو لا يصدّقه أو لا يتطابق مع عقائده ومبادئه وطرق تفكيره وفهمه للحياة . شجّعته أنْ يُفصحَ وأنْ يقولَ . ركّز عينيه في عينيَّ ثمَّ قال : أجلْ ، أتفق معك على أغلب ما قلتَ سوى أني لا أراها راهبةً أو متواضعةً أو قانعة مثل باقي مَنْ تعرفُ وأعرفُ من فتيات أديبات أو شاعرات أو روائيات . سألته مستنكراً إدّعاءَهُ ما دليله على ما أفاد به ؟ قال انظرْ كيف تتلفع وما ترتدي من فاخر الملابس وما تختار من زخارف وألوان وأصباغ وكثرة ما تلتقطُ من صور تبدو فيها كأنها نسخة طبق الأصل من بعضها : صورة أمامية لوجهها لا غير . لا من صورة جانبية أو نصف جانبية أو بوجهٍ مُلتفتٍ إلى هنا أو إلى هناك . كأنها طابع إنكليزي لا يحمل إلاّ صورة ملكتهم التي لا تعرفها أماراتُ الشيخوخة. إمتعظتُ في الحقيقة من مداخلة الإبليس الشيطان . حسدها أو نَقِمَ منها أنها تُكثر من إلتقاط صُور وجهها الجميل الجامد المنحوت من الرخام الإيطالي [ لا تعرفُ كيف تبتسمُ إلاّ إذا انتحبت ! ] وإنها على ذوق رفيع في اختيار ملابسها وألوانها . كان بالطبع يُراقبني فأضاف مُتسرِّعاً : لا تنسَ كَثرةَ ما تتلفّعُ به وتتدثر و تتزمّلُ حتى لا يعرفُ رائيها أهي في فصل الصيف أو الشتاء . ولماذا تحسدها يا شيطانُ وعهدي بك تُحبُّ الجميلات وتتعبدُ للجمال ؟ قال بل أعبد الجمال الطبيعي البسيط متّبعاً قول أبي الطيّب المتنبي :

حُسنُ الحَضارةِ مجلوبٌ بتطريةٍ

وفي البداوةِ حسنٌ غيرُ مجلوبِ



إحتجّتْ [[ مَنْ تحسبُ نفسَها الموناليزا أو تحاولُ أنْ تكونها مُعلّقةً على أحد جدران مُتحف اللوفر الباريسي ]] شديداً وقالت رويدكَ يا هذا ! قال المتنبي هذا الكلام قبل أكثر من أحد عَشَرَ قرناً من الزمان . فلو قُدّرَ له أنْ يُعمَّرَ مثلما عُمّر نوحُ الفُلكِ المشحونِ لرأى ما رأى ولقال شعراً مُغايراً لما قال في بيته السابق . إنه إبنُ عصره ومجتمعات ذلك العصر وتقاليدها ومفاهيمها المغايرة لما نحن اليومَ فيه . الزمان يتحرك والدنيا تدور ولا من ثابت فيها أو ثبات ، هل فهمتَ يا إبليس الأباليس ؟ لم يعلّق إبليس . طلب الإذن لقضاء حاجة وهذا ديدنه كلّما رام التهرّب أو الإنفلات من موقف يرى فيه إحراجاً له . وجّهتْ ( ألمو ) ناليزا كلامَها لي تحثّني أنْ أبيّنَ رأيي وأحدد موقفي . وجدتُ في الحقيقة نفسي مُحرّجاً لا أدري كيفَ سأوفّقُ بينها والشيطانَ والشيطانُ في نهاية الأمرِ محسوبٌ عليَّ شئتُ أمْ لمْ أشأْ ؟ إذا قلتُ الحقيقة كما أراها وكما تلوحُ لي سيغضبُ أحد الطرفين أو كلاهما فبمن سأستجيرُ ومنذا الذي سيُجيرُ ؟ هل ألوذ بالصمتِ والصامتُ شيطانٌ أخرسُ جبانٌ أو أعرِبُ عمّا في نفسي وما في رأسي من قناعات وأتحملُ النتائج والعواقب شأن الرجال الأشاوس الذين عرفتُ ولم أزلْ أعرفُ ؟ وسوس لي شيطاني أنْ يا فلانُ خذْ مَثلاً منّي واطلبْ منها الإذنَ واذهبْ إلى دورة المياه وابقَ هناك ما شاءَ لك البقاءُ وأنا سـأتكفّلُ بالمهمّة وأُغطّي فترة غيابك بما يُطربها ويُسلّيها وسأقرأُ لها شعراً في الحبِّ وسأتغزّلُ بها متلبسّاً أقوال وهيئات مشاهير العشّاق مجانينهم وعقلائهم . نفّذتُ الفكرة فقد طابت لي وانقذتني من موقف حَرجٍ جداً . إختفيتُ ولكنْ ليس بعيداً عن مكان جلستنا إذْ كنتُ أسمع جيّداً حديثَ السيّدة والشيطان من غير أنْ أُشاركَ فيه . شرع يُنشدُ دون مقدِّمات بعض أشعار التشبيب والنسيب وما ألطفه حين يُغرّد مُنشداً :

زوّدينا من حسنِ وَجهكِ ما دا

مَ فحسنُ الوجوهِ حالٌ تحولُ

وصِلينا نَصٍلكِ في هذه الدُن

يا فإنَّ المُقامَ فيها قليلُ

أصغت المو ( ناليزا ) بكلِّ جوارحها لما كان الشيطان يقرأُ عليها من شعر أبي الطيّب المتنبي العراقي الكوفي ثمَّ الكندي اليماني . سألته ، وقد أعجبها ، لِمنْ هذا الشعر وفيمن قاله ؟ أجاب عن الشق الأول واعتذر عن الباقي من سؤالها . لا أدري فيمن قاله هذا الشاعر الذي كثيراً ما كان يقولُ ولا يفعلُ . سألته هل تُجيد الغناء ؟ قال إني لستُ مُطرباً لكنّي أهوى الإستماع للغناء الجيّد لحناً وأداءً والفاظاً وقلّما تجتمع هذه الأركان في أغنية واحدة ولمطربٍ واحد . قالت هيّا شنّفْ أسماعنا وسأجازيك الجزاء الأوفى . قال في نفسهِ الشيطانُ ( أشكُّ في وعدها ! لم تكنْ مبسوطة اليد في حياتها أبداً ! ماذا تفعلُ بما يأتيها من موارد شتّى من كل صقعٍ وحَدبٍ وصوب ؟ ) . ركّز عينيه ، وهذه عادته ، في أعماق عقيق سماء زرقة عينيها البونابارتيّة وقال : سأغنّي لك ولو أني في شكٍّ يشبهُ اليقين من أنك سوف لا تنفذّين ما وعدتِ . قالت محتجّةً برفق كأنها كانت تتكلم بعينيها : أنا لستُ تلك التي قال فيها عمر إبن أبي ربيعة [ ليتَ هنداً أنجزتنا ما تَعِدْ ] . قال في سرّهِ مرةً أُخرى : أنت مثلها إذا لم تكوني أشدَّ بُخلاً منها ! فكّر ، مع ذلك في طلبها ورقَّ لحالها وهي الأنيقة الجميلة وجهاً وروحاً فبخلُ الناس وشحّتهم لا يُعكّران صفو جمال وجوههم ولا يشوّهُ أرواحَهم . حضرتُ وقد زالت أزمتي والفضلُ لصاحبي الذي لا يُفارقني نهاراً وليلاً فأقحمتُ نفسي في صُلب الموضوع ومن غير استئذان واقترحتُ صرف النظر عن فكرة الغناء . قلتُ للسيّدة ـ هاوية إقتناءِ لوحات النساء الجميلات الزيتية ـ إنَّ هذا الشيطان ما كان جادّاً فيما ادّعى ، إنه لا يُحسنُ الغناء وإنْ أحسنَ إنشادَ الشعر ، فليس كلُّ مَنْ كان خطيباً كان مُغنيّاً. لم تكترثْ بالنتيجة ، لم يصدمها قولي الذي أردتُ به أساساً إنقاذ ماء وجه الشيطان الخالي أصلاً من ماء الحياءِ وماء الحياة . قالت ما دام صاحبك وحاملُ أسرارك الشخصية ومستودع أفكارك لا يُجيدُ العزفَ والغناء فلا بأسَ من أنْ نسمع صوتك غناءً أو شعراً ولا سيّما شعر الغزل . لا أُجيدُ الغزل والتغزّل يا سيّدة فاعذريني . أطلبي ذلك من الشاعر رامبو . قالت تكذب ! قرأتُ غزلاً لك منشوراً في بعض المواقع وإنْ كان قليلاً أو نادراً فهيّا قلْ شيئاً منه ولا تترك هذه المناسبة جافّةً من غير معنى . أحرجتني بكثافة وحركة أصباغ شفتيها وسماءِ زُرقة عينيها . حقّاً أحرَجتني وأنا بطبيعتي خجولٌ كتومٌ فيما يخصُّ موضوعات الحب والغرام وهي شؤونٌ خاصّة يُخفيها الناسُ فكيف بالغزل وهو كلامٌ لا يمكنُ إخفاءَهُ ؟ صَعَدتْ من أعلى صدري والترائب زَفرةٌ حرّى وتسمّرتُ لا أستطيعُ إتيانَ أية حركةٍ لا موضعية ولا إنتقالية ولا حلزونية ولا حتى دورانية . إلتقطتْ الحِلزونة البحريّة الكثيرة الألوان والأصباغ حراجة موقفي وما أنا فيه فتكرّمتْ بالقول : لا بأسَ عليكَ ، أمهلك حتى صباح الغد فهيئْ نفسَكَ وأشعارَغزلك وتعالَ أَسمِعني فأنا في شوق عارم لسماع إطرائك لي مدحاً لمواهبي أو غزلاً بسحر ما أختارُ من أطياف لونية مُغرية أو لجمالي السرّي المخفي ، وجهي الليليِّ الثاني ، لا ذاك الذي تَراهُ فيما تنشرُ وسائلُ الإعلامِ من صور مُنتقاة تُلتَقَطُ لي في أستوديو. قبلتُ عَرضَها شاكراً وقلتُ سأفكّرُ جديّاً بالأمر . قبل أنْ أنهض لتوديع الضيفة لكزني اللعين بمرفق ساعده وقال إذا لم تُسمعها شيئاً من أشعار غزلك فأقرأ لها بحضوري أبياتاً من قصيدة ّ " ربّةُ القصرِ " التي سبق وأنْ قلتها في مناسبةٍ أخرى في زمنٍ ما وقتَ فورات الصِبى والشباب . مقترح جيّد . أنشدتُ :

يا ربّةَ القصرِ هل في أمرنا عَجَبٌ

إنْ كانَ في ساحِنا لم يرتفعْ عَلَمُ



عودي إلى أرضنا العطشى مُطاوَعةً

عودي ، ففي نبعنا الفضيِّ نحتلِمُ



دارتْ على محوري المكسورِ في صَخَبٍ

شتّى الرياحِ وفي تَصخابِها صممُ



مَنْ علّمَ المكتوي ناراً مُهادنةً

سلْ ربّةَ القصرِ يا مَن " غشّها وَرَمُ "



يا ربَّةَ القصرِ أزماني مُشاكسةٌ

كالخيلِ تركضُ في بحرٍ وتصطدِمُ



سألتْ لمن هذا الشعر ثم أردفتْ : فيهِ غزلٌ لا يُمكنُ إنكارَهُ وتدّعي أنك لم تقلْ غَزَلاً ! لا غزلَ فيه يا سيّدة ويا ربّة العصرِ والقصرِ والجَمَرات المتقّدة وغير الميقّدة ويا قيصرة . فيه لوعة قديمة وفيه تشكٍّ ومرارة في الفم واللسان والذكرى. تنهدّتْ ثم قالت : ليتك تقولُ فيَّ مثله ، ليتك !

تصبحون على خير . وأنتِ من أهله .

CONVERSATION

0 comments: