أنشكر الأفعوان أم نذم البرلمان؟/ محمود شباط


ككل مساء، حين يعود سليمان إلى منزله من دكانه الصغير في سوق البلدة، تستقبله زوجته بسؤالها التقليدي تستفسره بلهفة وحرقة قلب الأم عما فعله من أجل علاج بكرهما من الشلل : شو عملت يا سليمان ؟ غالباً ما يجيبها بصمت تعتوره الخيبة ، وأحياناً يهمهم بيأس وغضب : "صرمايه عتيقه" .
في ذلك الأصيل غابت "الصرماية العتيقة" من قاموس سليمان ، ابتلع غصة جديدة وتنهد بحرقة. تركته يروق ويشعل سيجارته، التفت نحو زوجته ورد بنظرتين زائغتين وبشرود أبلغ من كلام لساعات. وكالعادة عرفت سبب سكوته وانضغاطه وتفهمت. جاءته بالقهوة ومشهد شلل فادي يرقص قبالة عينيها ويلح عليها لتلح على زوجها بالسؤال للمرة الثانية فيما إذا حدد الطبيب المعالج موعد العملية الجراحية أم لا ؟ رشف الزوج التعب المحبط رشفة طويلة ووضع الفنجان على مهله ثم كرر لها للمرة الألف ربما بأنه لم يتمكن بعد من الحصول على موافقة وزارة الصحة لإجراء العملية على حساب الدولة و بأن لا تحديد للموعد قبل الموافقة، وزاد هذه المرة بأن الباب مقفل في وجهه.
فغرت فمها ولطمت خديها مستهجنة رده الغريب البعيد عن موضوعهما حسبما افترضت، لكزت كتفه : سألتك عن علاج الصبي يا سليمان وليس عن الباب والشحار الأحمر. أكد لها بأنه فهمها بـَسّ هـِنـِّي ما فهمو و لا بـِيهمّنْ يفهمو .
- مـِينْ هـِنـِّي ؟
- الدكتور قال لأ لأن مدير المستشفى قال لأ ، ومدير المستشفى قال لأ لأن سعادة النائب قال لأ.
- ليش ؟ شـُو بَدّو البيك ؟ سألته بحيرة .
- بـَدّو يـْذلـّنـَا ! بدو بوسة إيد .
ثم صارحها بأن مدير المستشفى لـَمَّحَ له بوجوب التشرف بزيارة البيك مصطحباً والده وأخوته وأبناء عمومته، وأفهمها بأنه فهم "على الطاير" بأن البيك يريد أن يطمئن إلى عدد الرؤوس الإنتخابية التي ستدخل ملكوت قطيعه في حال تـَكـَرَّمَ على العائلة الفقيرة وتوسط لدى وزارة الصحة و مَنّ عليهم بذلك المعروف.
- خبطت فمها : يا شحاري و يا تعتيري ! معروف ؟ ليش ؟ وأكملت تنتقد بأسلوبها وتعابيرها الخام متسائلة فيما إذا كان يهين على البيك أن يقطع سليمان وزوجته الطريق لتدبير مبلغ لعلاج ابنهما. ثم علا صوتها بانفعالها تـُعـَدّدُ أسماءَ الذين عَمَّروا مساكنَ في المشاع دون رخص قانونية وحصلوا على الماء والكهرباء والهاتف والزفت، ويحصلون على وظائف في الدولة وعلاج مجاني ومساعدات من وزارة الصحة للمريض منهم ولغير المريض، فقط لأنهم من جماعة البيك، وبأنها وزوجها اشتريا أرضاً بذهب مهرها وبدم قلبيهما، وجبلا خرسانة منزلهما بعرقهما ودموع عينيهما، وحصلا على رخصة من البلدية ولكنهما لم يحصلا على خط هاتفي ولا زفت لطريق المنزل لأنهما ليسا من جماعة البيك . ثم نبرت تذمرها تشكو: شو نحنا مش من هالدولة ؟
- هَوَّن عليها زوجها موضحاً الواضح : البيك هو الدولة ! ثم سأل عن الأولاد فقالت له بأن فادي على كرسيه المتحرك يقرأ كتاباً خلف الدار، ومازن ذهب مع ابن عمته "ما بعرف لـَوَيْنْ" ، والصغار يلعبون مع أولاد جارهم أبي نصار. كان فادي في تلك الأثناء يسمع والديه وهما يكملان السهرة يتحدثان بتعابيرهما البسيطة المتيسرة حول انقطاع أملهما من تحسن أوضاع الناس طالما أن الموظف يتبع لسعادة النائب وليس للدولة، ويبقى في وظيفته مدى الحياة ينفذ سياسة البلطجة الخدماتية التي يرسمها البيك ومفاتيحه الإنتخابية، وطالما أن البيك يتحكم بمصائر خلق الله كما لو أنه ورثهم كجزء من إقطاعيته عن أبيه و جده وجد جده من قبله، يُسَيـِّسُ الطائفة ويُطـَوئفُ السياسة ويخلط الحابل بالنابل على هواه وحسبما تقتضيه الظروف والمصلحة. واستمر سليمان وزوجته يتحادثان واستمر فادي يصغي إليهما من الركن الخارجي للدار، سمع أمه تدعو بالحريق والغريق على من تسبب في إعاقة ابنها حين وقع عليه جزء من سور المدرسة المتوسطة في العام الماضي وتسبب بشلل رجليه، وتشتم الذي خـَلـَّفَ المقاول الغشاش الذي بنى سوراً لم يصمد أشهراً وعاد هو نفسه والتزم ترميمه لأنه مقرب من سعادة النائب دون أن يقول له أحد "يا ما احلى الكحل بعينك". ثم قالت لزوجها : بدنا مستقبل الصبي ! زور البيك ألله بيعينك ! شو مْنـَعْمـَلْ ؟ حاكمك لاكمك .
- رفع لها بحاجبيه المقطبين ونبر : لأ .
- يا زلمي هـُوّي الزعيم بْطـَيّبـْنـَا أو غصب عنا .
- زعامتو إلو وكرامتي إلي ، هَدَرَ عبارته بإباء واحتقان ثم قال لزوجته بأنه سيبيع دمه لتدبير مبلغ يغطي قيمة العملية الجراحية .

ارتج قلب فادي وانطلقت من عينيه دمعتان وعاد بكرسيه المتحرك إلى خلف الدار، لم يحتمل سماع المزيد ولم يسمع أمه وهي تولول فزعة على زوجها : يا ذلـّي ! تبيع دمك ؟ بـَلـْكـِي ؟ ...
سترت فمها براحتها، لم تكمل لتبدي خشيتها وتحذره : "بـَلـْكي متت" ، فهم عليها ، ابتسم بثقة ورد بعنفوان بأنه يموت مرة واحدة إن فقد دمه ولكنه سيموت كل يوم طالما هو على قيد الحياة إن فقد كرامته.

يئست وتوقفت عن محاولة إقناعه لأنها تعرف طبعه ، جهزت له العشاء وفرشت له على المصطبة تحت التينة وأخلد إلى النوم وهو يجتر علقم قهره ونقمته وإحباطه ويتساءل عن حل لتلك الأحجية المصيرية المتعلقة بعلاج فتى في ربيع عمره.

منزل الأسرة يرتع في هدأة الليل ، خرير الساقية المجاورة ونقيق الضفادع على ضفتيها يتناهيان إلى داخل البيت عبر الباب الأصفر المفتوح على مصراعيه ونافذتين زرقاوين مشرعتين لنسائم الوادي. أفراد الأسرة نياماً ما عدا مازن الذي يتأخر عادة في سهرته مع رفاقه المراهقين . أفاق فادي بحدود منتصف الليل يهجس بما سمعه من النقاش الذي دار بين والديه بخصوص علاجه ، وعلى الأخص نية والده لبيع دمه من أجله، قعد في كرسيه المتحرك وراح صوب المصطبة. وضع رأسه بين راحتيه وبكى. وكما تولد الشمس من رحم الظلمة فالفجر فالشفق يولد الفرج بعد الشدة ، بكى فارتاح ثم اتجه بكرسيه نحو آخر المصطبة ولامس براحته الجدار المنخفض الذي يفصل بين منزلهم ومنزل بيت أبي نصار، على الجدار تراءت له صورة جمانة تطل عليه ليسامرها همساً كعادتهما حين يتواعدان خلسة. داهمه من خلفه ما يشبه فحيح أفعى فارتد هلعاً صوب الداخل. لبث مترقباً يسترق السمع . لا شيء . شكك بصدق أذنيه وطمأن نفسه بأنه ليس فحيحاً: لعله الريح أو حفيف أغصان البيلسانة أو الزيزفونة أو التينة.
دفع بعجلتي كرسيه المتحرك وخرج إلى المصطبة محدقاً بالجدار الحجري الذي يحبه ويكرهه في آن. كز على أسنانه وشد بيديه على العجلتين متذكراً بأنه لن يستطيع المشي ولعب كرة القدم أمام جمانه كبقية الصبيان. تساءل ماذا ستقول عنه وكيف ستتصور حالته حين يحتاج إلى رجليه ولا يجدهما. اشتعل بارود الغصة في سويداء أعماقه وتملكه البكاء الصامت والإبتهال لبعث الحياة في رجليه. وبينما هو في قعر بركة يأسه رجـَّه ُ تجدد الفحيح من مكان آخر فتحجرت استغاثته في حلقومه. خجله من أن تسمعه حبيبته وتـَوَقـّف الفحيح أعفياه من استكمال صرخة كاد يطلقها فتسمر صامتاً مرتعباً يتساءل: لماذا تفح تلك الحية اللعينة من خلفه دائماً وتتنقل من مكان إلى آخر وتباغته.
لم تطل مدة الهدنة ،عاوده فحيح الأفعى بوتيرة أعلى هذه المرة ومن عدة أماكن فتخلخلت مفاصل عزائمه، وتراءت له عشرات الغيلان تحوم حوله بصورة خفافيش مفزعة لها مخالب وأنياب إبرية تقطر دماً. انتفض واندفع بكرسيه المتحرك نحو فراش أبيه ليوقظه ويحتمي به. توقف الفحيح فتوقف فادي في منتصف طريقه يلتفت يمنة ويسرة ويرتعش كعشبة على تلة في طقس عاصف، لبث يتأمل وجه أبيه المستغرق في نومه، أشفق عليه من إيقاظه وهو يعلم كم هو تعب ومجهد ويحتاج إلى كل دقيقة نوم .
تمنى لو يعود في تلك اللحظات شقيقه مازن الشقي الذي لا ينفك يناكفه ويناكده رغم حبه الشديد له. شد بيديه على عجلتي مقعده المتحرك متمتماً بأدعية تستوقد قبس الأمل من رحم الفجيعة ويهمهم بنقمته على المستشفى ومدير المستشفى وسعادة النائب، حائراً بأي اتجاه يروح، وفي حسبانه احتمال الرعب في كل الجهات، آنئذ دفع به خوفه ليلجأ إلى سريره.
وبينما هو عائد صوب فراشه اعترضته لعنة فحيح الأفعى بشراسة مخيفة أكثر من أي مرة قبلها ومن داخل الباب هذه المرة فارتج قلبه ودار به كرسيه المتحرك بفوضى وبارتباك مدوماً في مكانه. ارتفاع الفحيح أنساه حرجه من احتمال استخفاف جمانة بجبانته وحرصه على عدم إقلاق راحة والده، هرع بارتعاب نحو أبيه ليستغيث به ففوجىء بمشهد حية صغيرة رقطاء تنسل في ضوء القمر متجهة صوب فراش أبيه. لاوعيه وخوفه على أبيه وحرصه على دمه قذف بجسد الفتى من كرسيه المتحرك فانطرح على الأرض وشرع يزحف كضفدع في وحلة لزجة. أجهد ركبتيه وخرسانة المصطبة في زحفه الحثيث كي لا تسبقه الحية وتلدغ أباه، وبينما الزاحفة تكاد تبلغ فراش سليمان كان فادي يسابقها ويستشرس في اندفاعه المثابر للحؤول دون وصولها قبله إلى رأس أبيه .
لأول مرة منذ ابتلي بالشلل حرك رجليه لاإرادياً. حماسه وانفعاله وخوفه على أبيه بعث عزيمة خبيئة في جسده الفتي فدب على أربع دون وعي منه متجهاً بما استطاع من جهد نحو الحية، وحين أضحت في متناوله خبطها بفردة حذاء على رأسها وتنفس بارتياح لإخماد حركتها. اتكأ بمرفقه الأيسر على حافة سور المصطبة، أمعن النظر في الحية، رآها الآن صغيرة وليس بقدر ما توهمها من خلال فحيحها، تمسك بيمينه بغصن التينة كي ينهض ويرمي بالزاحفة النافقة بعيداً . استقام واهناً مرتجفاً جذلاً لاستجابة رجليه الضعيفتين لحمل جسده لأول مرة منذ ما يقارب السنة، بسط ذراعيه في الهواء مبتهجاً كطفل يقف للمرة الأولى. وجه عينيه المزغردتين صوب جدار الجيران و جذع شجرة المشمش الذي تقف أزاءه جمانة حين يتسامران. ولكنها ليست هناك الآن. تمنى لو يستيقظ والده أو تطل والدته وأخوته ليروه واقفاً ويستطيع الإعتماد على رجليه، ثم أمسك بخرقة وانحنى والتقط الحية. فوجىء دون تقزز، وقف مذهولاً يتأملها من جديد، اكتشف بأنها ليست حية حقيقية بل دمية بلاستيكية مربوطة بخيط رفيع فعرف بأنها مزحة من بنات شقاوة مازن الذي أطل برأسه من بين أغصان التينة وهرع نحو أخيه يضحك ويفح مقلدا الأفعى، وليطوقه بذراعيه ويرفعه عن الأرض ويعانقه وقوفاً للمرة الأولى منذ شلله، ثم أيقظ العائلة التي ابتهجت بشفاء فادي دون اضطرارهم لتبويس أيدي سعادة النائب والتذلل في حضرته العلية ... وشكروا الأفعى.

الخبر في 20/08/2010

CONVERSATION

0 comments: