سميرة وفاتح أكتوبر/ رحيمة بلقاس

 في هذه الأمسية الهادئة ، وبعد أن تراخت سدوف الليل ، وخيم السكون على المكان،هدأت حركة البيت وتطهرت الآذان من ضجيج النهار،نام الأولاد ونام الزوج، ليداهم سميرة، شعور بغربة هزت أضلاعها ، ارتجّت الوحشة بقلبها،وريّاح الماضي خلخلت رتاج اختلاجات دفينة بأعماقها ، لتعود بها لأحضانهما الدافئتين.
رفعت سميرة عينيها للساعة ، منتصف الليل ، إنه اليوم الأخير من العطلة الصيفية ، اليوم بداية الموسم الدراسي.
شريط الذكريات يمر سريعا.. وابتسامة كالفجر لمعت ضياء، أيقظت الحنين بجوانحها، غفوة خفيفة أخذتها مع مسلسل الماضي، فأحست يد والدها تمسد جبينها بحنان، وصوت أمها يداعب سمعها لتسترخي في فراشها وطمأنينة رحلت بها إلى فاتح أكتوبر يومها الأول بالمدرسة.
صوت رخيم يناديها يوقظها من نومة ناعمة في دفء البيت الذي اختزنته مخيلتها بأبهى الصور.
انهضي بنيتي حان موعد الذهاب إلى المدرسة ، قومي حبيبتي أبوك ينتظرك ليرافقك ، لقد أكملت ست سنوات وعليك أن تلتحقي بالدراسة كما أخوك .
استيقظت سميرة على رقة همسها يدغدغ أذنيها ، وعلى ابتسامتها الساحرة تنعش عينيها.
هبت واقفة وقلبها الصغير يكاد يحلق من الفرح.
أين فستاني الجميل؟ أمي !صففي لي شعري ! وضعي الوردات الحمراء التي أعددناها أمس!
أين حذائي؟أين وزرتي والمحفظة؟
وأمها تتبعها وتضحك وتقول حاضر حبيبتي.
لهفة سميرة تزداد وتزداد .. لا تستطيع أن تخفيها . إنه يومها الأول لتلتحق بالجد والعمل ، وتغادر اللهو واللعب. تحس أنها كبرت وغدت مسؤولة  مثلهم. مشاعر النضج اعترتها ..أصبحت مهمة ولها مكانتها بالمجتمع..
طفلة صغيرة لكنها فطنة وذكية، لم تفارق البيت أبدا إلا صحبة أبويها، حان وقت اعتمادها على نفسها .
الآن سأذهب للمدرسة وحدي .. أصفف شعري وحدي.. وأعود إلى أهلي وحدي.. أراجع دروسي وحدي..أقوم بواجباتي وأعتني بنفسي وحدي!
هاهي سميرة وأبوها يخرجان من البيت وهي تحمل محفظتها الفارغة إلا من ورقة تحمل اسمها والقسم الذي سيضمها مع صديقات الدراسة.
تقفز كالفراشة . تجري تجاه المؤسسة . وصوت الوالد يقول: انتبهي للطريق احفظيه لكي  لا تتوهين عند العودة!
دخلت ساحة المؤسسة ودهشة سرور ، فرح، خوف، انفعال، اضطراب، اعجاب،.. عشرات الأسئلة تتزاحم بذهنها الفتي.
ما أجمل هذا الفضاء!ما أبهاه!
أقسام رائعة ، مزينة بلوحات طبيعية ورسوم أطفال!
ساحة خضراء ببساطها الجميل المزركش  بورود ندية تخطف الألباب!
أشجار مورقة وارفة وظلالها ممتدة تنعش الروح وتثلج الصدور!
ياه ! هذا علم بلادي! إنه يتوسط الساحة الجميلة !
مر الوقت بسرعة لم تحس بتسربه. دق جرس الخروج. الكل في صفوف منتظمة ، لتجد نفسها وحيدة أمام باب المدرسة!
أين طريق بيتي ؟ من هنا؟ لا من هنا؟ سأتبع هذا الصور ؟ لا بل هذا ؟
المسكينة التبس الأمر أمامها . فقدت توازنها. انتابها الخوف. سارت مع الصور كما أوصاها والدها. طال دربها وكأنه لا نهاية له. كل شيء يبدو غريبا ! تمشي وتمشي ! وكلما حثت الخطى كلما ازداد طولا! يارب أين بيتي ؟ هل اختفى؟ ألن أرى أبي وأمي أبدا؟ ماذا أعمل؟
الدمع انساب على خدها في صمت وذهول!
قطعت المسافة ذهابا وإيابا أكثر من مرة .
وأخيرا اهتدت إلى أن تعود أدراجها إلى باب المدرسة وتقف هناك علها تجد أحد أبويها يبحث عنها.
وكما  القطة المذعورة هبّت تقفز وتجري في اتجاه المؤسسة .. وما كادت تصل حتى تهلّلت أسارير وجهها فرحا..
لتقوم سميرة من مكانها مسرعة ، وهي تنادي ندى قومي حبيبتي ! تمسد شعرها وتطبع القبل على جبينها! وتردد : سأصحبك إلى مدرستك اليوم غاليتي ، لقد كبرت الآن ، لا تخافي لن تتوهين عني ، لأنني سأكون بانتظارك.

CONVERSATION

0 comments: