الفأر والحرية والرغيف/ محمود شباط

منذ زمن بعيد، سمعتُ قصة تلك الفأرة التي افتدت حرية زميلتها بكل ما لديها من فتات خبز خزنته في جحرها. حدث ذلك حسب الراوي حين كانت تانك الفأرتان تلعبان في غرفة يدرس فيها فتى، لم يكترث لهما في البداية ولم يحاول طردهما.
وحين ألفتا البيئة واطمأنتا إلى سلمية الفتى صارتا تقتربان منه أكثر فأكثر أثناء مطاردة إحداهما للأخرى، مسارات دوائر جريهما السريع تضيق أكثر فأكثر إلى أن صارتا تقفزان فوق رجليه، ثم عليهما، ثم صارت إحداهما تختبىء بين قدميه، حينها قرر مناكفتهما فباغت المختبئة بوضع إناء عليها حبسها تحته.
هربت الفأرة الأخرى متوارية لبرهة قصيرة ثم عادت، أطلت برأسها من باب جحرها، تسترحمه عن بعد بنظراتها الحزينة الفاقدة لرفيقتها، ثم تجرأت على الخروج وصارت تدور في الغرفة ببطء وعيناها شاخصتان صوب عينيه تارة وطوراً صوب الإناء-السجن تناشده إطلاق سراح الفأرة الأسيرة، ولكن الفتى لم يستجب.
عادت الفأرة الطليقة إلى جحرها وأحضرت قطعة خبز، اقتربت بحذر إلى حيث يجلس الفتى، وبحذر وضعتها أمامه وهربت نحو باب الجحر وتوقفت هناك تنتظر، ولكن الفتى لم يبال بها ولم يطلق سراح الفأرة السجينة، دخلت الفأرة الطليقة مرة أخرى إلى جحرها وأحضرت قطعة خبز ثانية ووضعتها أمام الفتى، ولكنه لم يرقّ لحالها. تكرر ذهاب الفأرة وجلبها للخبز ولكن زميلتها بقيت حبيسة الإناء.
انتظرت الفأرة الطليقة ردحاً من الزمن دون أن يستجيب الفتى لتظلماتها والتماساتها ومناشداتها الصامتة، رجته بعينيها مجدداً فقابلها بابتسامة الظافر المعابث ولم يطلق سراح الفأرة الأسيرة. حينها أسرعت إلى جحرها وأحضرت له هذه المرة كيساً صغيراً فارغاً كانت تحتفظ فيه بخبزها. قدر الفتى تعلق الفأرة بحريتها ، أشفق عليها فأطلق سراح زميلتها الحبيسة ، وردَّ لها خبزها فنعمت الفأرتان بخبزهما وحريتهما معاً.
نغبط تينك الفأرتين على حلاوة قدرهما، وعلى إنسانية وطيب القيِّمِ على أمرهما ، وتقتلنا المرارة من تمنين طغاة القرن الواحد والعشرين لنا برغيف الخبز دون الحرية، كون الحرية في نظرهم "رجس من أعمال الشيطان فاجتنبوه" ، والمطالبة بها رديف للعمالة ولتنفيذ أجندات خارجية وإخلال "بالتوازن الإستراتيجي مع العدو الصهيوني". ليت طغاتنا يقتدون برقة وشفافية ذلك الفتى الذي سمح للفأرتين بالرغيف والحرية معاً دون منة حين رأى بأن ذلك الحيوان الصغير الضعيف يعطي أولوية للحرية على الرغيف.
خمنتُ أن يكون ذلك الفتى الطيب من ذرية "صولون" الذي لقب بمؤسس الديمقراطية في العام 594 قبل الميلاد. حين انتخب كرئيس لقضاة أثينا في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة على فقراء أثينا ، بينما أغنياؤها يُفصِّلون قوانين على حجم مصالحهم.
إنسانية "صولون" في حينه دعته لإجراء إصلاحات عديدة منها تشكيل "الجمعية الشعبية" ، أو ما يعادل البرلمان في أيامنا هذه، والسماح للعامة بالترشح و الإقتراع، وإلغاء قانون كان يقضي بأن يتحول المدين الذي لا يستطيع إيفاء التزاماته حيال دائنه إلى عبد رقيق للدائن.
اليوم، وبعد مرور 2418 سنة على إصلاحات "صولون" لازلنا نرى أرقاء يرزحون تحت نير الفقر والاستعباد، وأجساد طغاة يعيشون في القرن الواحد والعشرين بذهنية ما قبل "صولون".
الخبر في : 22/02/2012

CONVERSATION

0 comments: