صباحكم أجمل/ بيت لحم والجنائن المقفلة (الحلقة السادسة)/ زياد جيوسي

ما زلت أسمع شدو نايات الولجة تعزف لحناً حزيناً لمعاناة أهلها، فهذه الجنة أصبحت تعاني الكثير، وحين غادرت بقايا الولجة القديمة برفقة مضيفي خالد الصيفي، مدير مؤسسة إبداع، والذي أتعبته كثيراً معي في التجوال، وإن كان ما يغفر لي أنني حين وجه لي الدعوة من خلال مؤسسة إبداع وتحدثنا، حذرته أنني مُتعِب لمن يرافقني في التجوال، فأنا لا يمكنني الهدوء أمام روعة المكان والتاريخ في بلدة صغيرة، فكيف حين يكون ذلك في بيت لحم التي تروي كل زاوية فيها وكل بقعة، حكايات منذ استقر كنعان هذه الأرض وأنشأ حضارة الجبارين؟!

الولجة تمتد في جذورها إلى تاريخ قديم، فآثارها تدل أنها كانت مسكونة في فترة الرومان، وهذا ما تدل عليه عين الحنية، وكذلك بعض الآثار القديمة ذات الطابع الروماني، وكانت تتميز بوجود عيون الماء فيها مثل عين الحنية وعين الجويزة وعين سيف وأبي السمير والدلبة وغيرها، وإن كانت الآن معظم العيون قد سحبت مياهها الجوفية من خلال الاحتلال البغيض، فجفت مثل عين الجويزة أو شحت مياهها جداً مثل عين الحنية.

اتجهنا إلى الولجة الجديدة، والتي قامت على امتداد الجبال التابعة لأراضي الولجة التي احتلها العدو في العام 1948، وكان الهدف الأول زيارة شجرة الزيتون التاريخية والتي يعود عمرها حسب فحوصات الخبراء من جنسيات مختلفة، ما بين 3500 إلى 5500 سنة، وهذه الشجرة يطلق عليها اسم شجرة (سيدنا أحمد البدوي)، وهي ضخمة جداً ومتميزة بشكلها وحجم جذعها، حيث يصل محيط الجذع إلى عشرين متراً، ولتاريخها القديم حامت حولها أساطير كثيرة، ذكرتني بالأساطير حول شجرة مقام الأسيرة في بيتلّو قرب رام الله، والأساطير حول أشجار النبي غيث قرب دير عمار في محافظة رام الله أيضاً، وجميعها تحمل نفس الفكرة؛ وهي أن من يكسر من أغصانها غصنا يتعرض للسخط.

وصلنا إلى الولجة الجديدة وسألنا طفلاً عن موقع الشجرة، فتطوع مباشرة ليدلنا وركب معنا السيارة، وفي نقطة تنتهي بها الطريق المعبدة أوقفنا السيارة وكان الطفل مازن دليلنا اللطيف للوصول إلى الشجرة، وحين اقتربنا منها بدأ يشرح لنا عنها، ولم يفته الحديث عن الجدار البغيض أيضاً، الذي بدأ يلتهم أراضي الولجة الجديدة، وفور وصولنا استقبلنا حارس الشجرة الأخ صلاح أبو علي، والذي رحب بنا أجمل ترحيب، وقدم لنا المعلومات التاريخية عن الشجرة، وحدثنا عن تلك الشخصيات الرسمية التي زارت الشجرة والتقطت الصور لها، إضافة إلى محطات التلفزة المختلفة، كما شرح لنا عن مهرجان تراثي جميل تم تحت الشجرة، وشاركت به بشكل متميز السيدة مها السقا من خلال مركز التراث الشعبي، وعرض علينا مجموعة كبيرة من الصور لمن زاروا الشجرة والموقع، وقال: عين الجويزة التي كانت تسقي الشجرة والمنطقة بالكامل جفّت تماماً، بعدما تمكن الاحتلال من سحب المياه الجوفية، وأصبحت الشجرة وغيرها مهددة بالجفاف، وقد وعدني أكثر من شخص من كبار المسؤولين بتوفير الماء، ولكنها ما زالت (كالعادة) وعوداً في الهواء.

وقفت بذهول أمام الشجرة التي تركت أثراً كبيراً في روحي، وتخيلت جدنا كنعان وهو يغرسها في الأرض المباركة ويهمس لها: اروي الحكاية لأحفادي وقولي لهم إن الأرض تعطي لمن يحبها ويعطيها، ونحن زرعنا ليأكلوا؛ فلا يتوقفوا عن العناية بالأرض، وليزرعوا ليأكل أحفادهم أيضاً. تحركت برفقة الطفل مازن وصلاح أبو علي وصديقي خالد الصيفي بعد أن التقطت كمّاً من الصور لكل أجزاء الشجرة، وتوجهنا إلى عين الجويزة وشاهدتها تئنّ ألماً من الجفاف والعطش. وللعلم، وبسبب الجدار، فقد تم اقتلاع أشجار زيتون كثيرة يبلغ عمرها أكثر من ألفي عام، وقسم منها جرى إعادة زراعته في منطقة المهد بعد جهود هائلة لرفض الاحتلال ذلك. وفي الطريق إلى السيارة شاهدت العديد من الكهوف التاريخية، ورأيت امتداد الجدار البشع الذي التهم نسبة كبيرة من أراضي البلدة، وبدأ بمحاصرتها ليجعلها معزولة في محاولة أخرى لتهجير السكان مرة أخرى. وحين وصلنا السيارة شكرنا مضيفينا مازن وصلاح على ما ساعدونا به.

اتجهنا إلى مزرعة يقطنها منـزرعاً في أرضها الصامد عبد أبو شيخه، فحين شعر أن الجدار يهددها هجر بيته وأسرته، والتصق بالأرض وبمزرعته لا يغادرها رغم كل اعتداءات الاحتلال والمستوطنين، لا يرافقه إلا كلب وفي، وإصرار لا يلين وعزيمة لا تقهر، فاحتسينا كوباً من الشاي عنده، وغادرنا بعد أن شددت على يده بقوة..

إتجهنا نحو دير كريمزان وهو واقع على أرض متوسطة بين الولجة وبيت جالا ويمتد على مساحة واسعة بين الغابات الصنوبرية، وتمثل هذه الغابات متنفساً طبيعياً لسكان بيت لحم، وهذه الغابة من الأشجار مهددة بالمصادرة واستيلاء الجدار عليها كما الدير الذي سيقع داخل الجدار أيضاً، في حال نفّذ الاحتلال قرارات المصادرة ووضع اليد. وأرض كريمزان تبلغ مساحتها آلاف الدونمات، بين مستوطنة (جيلو ومستوطنة هارجيلو) وعلى قمة الغابة توجد كنيسة كريمزان ودير الراهبات، وفي كل أسبوع تقوم الفعاليات الوطنية والدينية باعتصامات ضد قرار المصادرة وبناء الجدار، ويقوم الإخوة المسيحيون بالصلاة في ساحة الدير تعبيراً عن عروبة الدير ورفضاً للاحتلال وإجراءاته، فالاحتلال لا يميز بين مسيحي ومسلم، فهو يريد الأرض خالية من كل أهلها. وفي الطريق مررنا بالعديد من الكهوف التاريخية التي لم تنجو من حفريات لصوص الآثار، وبكل أسف لم أتمكن من دخول الدير لتضارب الوقت مع أوقات الزيارة على أمل تنفيذ هذه الرغبة في زيارة قادمة.

من الولجة ودير كريمزان اتجهنا نحو (برك سليمان)، وهذه البرك الثلاثة المحفورة بالصخر كانت تسقي القدس في الماضي، وهي تعود إلى تاريخ قديم جداً، وتتسع إلى 160000متر مربع من الماء، وهي برك رائعة بتصميمها الهندسي وسعتها والقنوات التي تمتد منها، وكانت تصب بها ثلاثة عيون ماء لتنقل الماء عبر القنوات إلى القدس، وهذه البرك بأصولها وطبيعة حفرياتها تعود لفترة الرومان، وهذه البرك الثلاثة في أرطاس المعروفة باسم برك سليمان، نسبة إلى السلطان سليمان القانوني الذي قام بإعادة تأهيلها وترميمها بعد أن أهملت لفترات طويلة، وهي برك رائعة التصميم، وجزء من نظام مائي فريد يربط بين شبكات وقنوات مائية تحت الأرض وتصل إلى مناطق متعددة من فلسطين، واثنتان من هذه القنوات لا تزال قائمة كجزء من الآثار الرومانية على مشارف بيت لحم، ويقال إن القناة الأكبر بنيت بإمرة بيلاطوس النبطي الحاكم الروماني، وتبدأ من عين العروب، وتمر بمحاذاة التلال وصولاً إلى برك سليمان، ثم تصل بيت لحم والقدس عبر أنفاق مائية، أما القناة الثانية فهي من مكعبات من الحجر الجيري الأبيض، وقد بنيت في نهاية القرن الثاني الميلادي، وقد تم نقل الماء من بئر الدرجاني قرب برك سليمان، وآثار هذه القناة وجدت في المثلث بين مفترق الطريق المؤدية إلى شارع المهد.

هذه البرك تشكو الجفاف الآن، فقد تم تجفيفها بسبب حالات الغرق التي شهدتها، بينما كان المفترض أن يكون هناك حلول أخرى، فهي تشكل مخزوناً مائياً ضخماً كان يجب المحافظة عليه، ومقابلها تقع قلعة مراد التي بناها السلطان سليمان القانوني لحماية البرك، وكي تكون مكاناً لاستراحة المسافرين ولثكنات الجيش وحماية السكان المحليين، لنتجه من البرك إلى بلدة أرطاس، وحديث آخر في الحلقة السابعة من رحلتي لرحاب بيت لحم حيث الجمال وعبق التاريخ وحكايات كنعان وحجارة الأرض.

صباح عمّاني جميل بعد غياب عن عمّان الهوى التي وصلتها مساء الأمس، أقف إلى نافذتي مبكراً أتأمل المنطقة والأشجار التي زرعتها قبل ما يقرب ربع قرن من خلف الزجاج، فكبرت واستطالت وغمرها الجمال، فضاحية خلدا كانت منطقة ممتدة بالسهول والجمال، لتتحول إلى منطقة مكتظة بالبنايات، حتى أني لم أعرفها جيداً بعد أن غبت عنها أحد عشر عاماً متصلة، أستعيد ذاكرة زيارتي بيت لحم، وأحتسي القهوة وحيدا بدون طيفي الذي يصر أن يبقى بعيدا وموغلاً في الغيابً، لكن روحه لا تفارقني وأستمع لشدو فيروز:

(من يوم يلي تكون يا وطني الموج كنا سوى، ليوم يلي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى، تاجك من القمح تمنيتلك السلام، وشعبك بيحبك لتبرد الشمس وتوقف الأيام، عا رماد اللي راحوا، عا خاتم الزمان، على حجار السود اللي بقيو من الحيطان).

فأهمس: أيا بيت لحم يومين عرفتك بهما تركا كل هذا الأثر في قلبي، فلا بد من عودة إلى ترابك وعبقك ونسماتك، فخبايا الجمال وحكايات التاريخ ما زالت لم تكملها حوريات كنعان لي.. فيا عمّان ويا بيت لحم ويا أحبتي: صباحكم أجمل..

CONVERSATION

0 comments: