فضاءات الأب يوسف سعيد، (الأرض، التراب، السَّماء، الماء)/ صبري يوسف

أربع قصائد للأب الشاعر يوسف سعيد مع تقديم الشَّاعر صبري يوسف لهذه الفضاءات الرحبة

فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشفق الصباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزلال! .. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة "بازبداي"، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذراته على وجه الدنيا لعلَّ هذه الذرات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كل البشر!

الأب يوسف سعيد حالة شعرية متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفق في كل حين! .. لا أظن أنه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، انه جيل .. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!) ..
صنّفه بعض النقاد من جيل الستينيات، لكن هل توقّف الشاعر عند جيل الستينيات أم تغلغل إلى كل الأجيال التي جاءت بعده؟! .. وهل هذا التغلغل تطاول على أجيال غيره أم انه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشعر عبر كافة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟! ..

كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟ ..
الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري .. ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشاعر إلى حالة ولا كل الحالات، انها نزيف شعري دائم .. يتدفّق شعراً كنزيف!

الزمان والمكان عنده ليسا مهمين، يكتب في أي زمان وأي مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأن النزيف الشعري عنده مفتوح على فضاء الكون! .. ولا يشعر بالموجودات التي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشعر فيكتب ويكتب ولا يتعب من الكتابة، كأنه في ريعان شبابه! .. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعرية عديدة غير مكتوبة، فتسأله: ( ...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن الامساك بها أثناء ولادة القصيدة، لأنها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكل هائج، فتنحّت (هذه الإضافات) مختبئةً ثنايا الذاكرة الشعرية النازفة .. الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.

ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشعرية المتدفّقة؟
لا، لا أستطيع أن أمسك بكل ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى.

عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضع في الحسبان، أن يتوفَّر في أركان منزلكَ أوراقاً وكتباً وأقلاماً! .. انه جاهز في كل لحظة للكتابة، وإليك يا أيها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزمن.
فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم، تأخرت دقائق معدودة.
القهوة جاهزة (أبونا!)..
ضحك ضحكته المعهودة الرائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر! .. ثم تلا علي قصيدة .. ابتسم وبدعابة قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟ ..
فقلت لماذا؟ ..
أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!
يكتب عن أي موضوع،، وما يكتبه، يكتبه بعمق .. الحياة عنده برمتها مواضيع لكتابة الشعر، إنه يكتب (القصة، المسرح، والدراسات التحليلية) .. لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحية التي يكتبها! .. لأنه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرقات (قصة، مسرح، دراسات)، يتركها جانباً ويسبح في بحار الشعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصة أو الدراسة التي بدأ بكتابتها.

الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميمية بينه وبين الأرض .. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقا، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.
التراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح! .. الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار! ..
عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ .. أية خيوط تتكلَّم عنها؟! .. فتسأله، طيب، على أي أساس كنتَ تكتب القصيدة؟
يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أي أساس وأية خيوط، القضية أعمق مما تظن، لأن الشعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق! .. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التقليدية لكتابة الشعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً! .. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعية، أشعر وكأني (مختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي! .. وأحياناً عندما أكتب نصَاً شعرياً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته .. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير التي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانية هي التي تحسم الومضات الإبداعية المتدفّقة.
السماء، قصيدة تحمل روح السموّ والارتقاء، يتوغَّل الشاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء! .. وأي ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال! .. يغوص الشاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كل ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ درراً لا تعثر عليها في قاع المحيطات، أنها درر من نوع خاص، إنّها درر الشاعر الشفاف الأب يوسف سعيد! ..

صبري يوسف ـ ستوكهولم
أتركُ بين أيديكم درر الشاعر الراحل الأب د. يوسف سعيد

الأرض

الأرض، تحمل بين طيّاتها السفليّة رعشة أبديّة
زمهريرها يمتصّ من أحشائها النموّ
تفتح أبواب مصاريع الأبديّة
تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة
آخر ملحقات شرائح الحديد
وتراب الفضّة والقصدير..

الأرض، تزيّن صدرها بأثداء ملوّنة من هضاب
تتفلّى جدائلها برائحة شمس شرقيّة
ناطقة بلغات مسيرات الغيوم
والسحب الصيفيّة
أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس
تداعب أجفان يشوع بن نون

الأرض، تحتضن في أحشائها مهجة النور
تتلقَّى قطرات الندى والغيوث من صدر الجَلَد
أيّتها الأرض،
وجهك قطعة من شرائح مطر البركات
بذارك من مطر برارة النُّجوم البعيدة
الأرض تخبّئ في أوداجها منازل الظلمة
تجس أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه ..
قواعدها أبديّة
ركائزها من أنفاس النور.


الأرض تتحمّل انفطار الجَلَد فوق مياه الأمطار
تحتفظ بواطنها محيطات خفيّة..
رفرفات طائر العنقاء في سموات
ذات تجاعيد ملوّنة بدم الذهب
زحافات تحتضن الأبدية..
مقاطعات مدوّرة معبّأة
بأنفاس قمح الحقول..

الأرض، وحدها تعرف تفاعل المياه
وانحداراتها عبر شلالات
تصب في جزر سعيدة..
تحوّل خشب الجفر إلى مائدة
قرب مساكن البحار..
لاصطياد دلافينها
تحمل ماء السنين إلى فجوات
متغلغلة بين ضلوع صدر أخنوخ..

الأرض في انتظار عودة متوشالح
لارتداء قميص مقتطع من ستائرها
المعلّقة فوق مذابحها القديمة

الأرض، تصنع أسلحتها
من صوّانات واسطوانات تعانق تربة
تكوّن خاصرة لتربة البحر
تعانق غيوماً تتسلّى بجدائله
يسقط قناعها على حافّات
تربة المراعي السعيدة..

الأرض خميرة من سلوى الصحارى
عجينها من ذهب الإبريز
تحمل أجنحة الكاروبيم ورفرفاتها
في فراغات عودة الآلهة
إلى مساكنها الفضيّة
تطبع على خدودها
خلاصةُ دمٍ من وردة نيسان

الأرض، حوافيها منارات قبالة عرش الملوك
عبارة عن كنوز سرّية
أنفاسها تشرق بخوراً
من عطور رداء الكهنة
الأرض تحمل فوق فوهات أسرارها
عصوَين من خشب السرو..
الأرض، عبارة عن خمسة كؤوس لوزيّة
بعُجْرها وأزهارها
تحمل على راحتيها
سبعة من سُرُجٍ منيرة
بدم الأزهار الربيعيّة

الأرض، معاصرها تحتوي على خلاصات
من حبّات زيتون مرضوض
تغذّي منائر هياكلها القديمة
زيتها يفتح أشرعة خياليّة
فوق بساط العبادة
مَن يدخل لمحاكمة أبناء الأرض؟
من يحمل توبيخها لإثارة العواصف؟
لابتلاع شهقة اللحظة
من أهداب يونس

أيّتها الأرض،
مَن يعلّق على منكبيك ثياب العزاء؟
مّن يحمل عطش الأبناء إلى آبار الحنان
ومنطلقات رعشة الأبوّة؟

الأرض في الصباح تزحف أقاليمها
نحو ضباب الأبديّة
تتغرغر في الغَسَق
بماء عصارات ندى الصحراء
فسائلها من أكتاف أزهار الجنّة

أيّتها الأرض،
مَن يحمل عطش أبناءك إلى آبار الحنان؟
مَن يحتسي رعشة من دفقات عروق الأبوّة؟
الأرض في الصباح يزحف ضبابها
إلى وهادٍ رغيدة
تطوي بين ترابها الخالد
تبر الذهب المصفّى

الأرض يوميّاً ترقرق دموعها بحصى الأودية
تغدق على أفواه الجياع من دسمها
ذراعها يغرف مراراً
من خبز التقدمات
آخر رعشة
في جسد حسّها الكهربائيّ

الأرض تحمل شبق لذائذها
إلى رؤوس الكواكب
تستوعب آخر تنهّدات صقيع
يفهرس كيانات المحيط البعيد
أسرجة تتدفّق منها نهارات
من ضوء الأفلاك

الأرض تحمل سفن صمتها
إلى الممرات البعيدة
تحمل ترسانة الإيمان
وسادة محبوكة من بخور الشفق الوليد
تحمل غفوتها إلى قارات
لتسمّد طاقاتها العذراء
الأرض، جواهر من كلمة خالقة
تحبك أوردة لقلب السماء

الأرض، تستقبل في الصباح
حفيفاً من أجنحة نحلة ..
وعندما يأتي المساء
تأخذ رغيفها المستقطر من أحشائها
وترحل

الأرض رغبة أصيلة يتفصّد صمغها
تأخذ اضمامة من سنابلها الخضراء
تحفّ بها وجه أديم البحار
مراراً تصنع قوالب جملها وعباراتها
من زبد بحر لازوردي
الأرض كصفاء الضوء في بؤبؤ عيون الجواميس
حيث رونق النور

الأرض عبارة عن طاقات عذراء
تحمل رعشة من سحر السموات
الأرض شرائعها على موائد مذابحها
كفريضة موقّرة ومبجّلة
تردّد ملء حنجرتها هلليلويا
الأرض سبّحته من فرط كثرة عظمته
سبّحته بصوت الصور
سبّحته برباب وعود
سبّحته بدفوف ورقص
سبّحته بأوتار ومزمار
سبّحته بصنوج التصويت
بصنوج الهتاف
لك أيّتها القصائد أردّد
هلليلويا هلليلويا هلليلويا
الأرض تحمل بين أصابعها فرح الدفوف
ونغمات ساحرة من ذبذبات العود
ينبجس سحرها ينابيع خمرة معتّقة
دنانها معبّأة من طلّ السماء


الأرض تحوّل مرارة السكر إلى ينابيع فاغية
تصنع سحر هوائها
من سواقي العسل
ترمّم شواطئها
وتفتح أزقّة في ضباب السماء
الأرض كنفاضة زيتونة دهريّة
تودّع صراخ الجبال
في وقفتها وشموخها
تعبّئ سرورها وفرحها
في وهادٍ بعيدة
نقشتها بإبرة السماء..

الأرض تردم ذاتها بعواطف طارئة
حاملة لغة المحيطات
تغدق طاقاتها على خصلات ما تبقى
من دوالي الكروم
تقيس بأشبارها أعناق البحار
تترك نقش أصابعها على جزر ضيّقة
على موائد الشمس
ترانيم لنار ساقطة من كنف السماء
تترك رعباً وهلعاً في حُفُر الجمر
ناقوس يلتقط نغماته من ميازيب عليا

الأرض في صباحات الغيوم
تترنّح بخمرة السكارى
من يدلدل عرزال الأرض فوق جبال شرقيّة
تحتضن قلب الشمس؟
مَنْ يوحّد ملوك الأرض
ويجسّد نبرات النغمات
على حافات تيجانهم؟
مَنْ؟
من يفهرس عاصفة الجنوب؟
من يقتحم كبرياء الأرض
في ساعات سخطها؟
من يحصد من مزارع الأرض
عناقيد حبّها الأكبر؟

الأرض ظهيرة مشحونة برغبة نجوم عليا
تصغي لنداء السماء
تتلقّى ضربات طريّة
من بروق معبّأة برحيق الحياة
ترشف من شفاه أنصاب رؤوس الشهور
زخّة مباركة من تهاليل القمر

الأرض تفغر أفواهها لاستقبال خيرات
مسيّجة بخيوط الندى
تفرز زغلها
وتحرق زيوانها بنار زرقاء
لذلك المسربل بالأسرار
والمتّكئ بدلال على جناح الهيكل
صارخاً ملء حنجرته
" قدّوس، قدّوس، قدّوس
ربّ الجنود
ومجده كل ملء الأرض " ..

للأرض شفاه تسبيح في صباحاتها الباكرة
تغرّد للبحر
وفي المساءات تزغرد للصباح
في براري الروح
تنشد لحبيبها نشيد محبٍّ لكرمه

الأرض إشارات لامعة بنقاط مدبّبة
بسلالات النور
تجللها سحابة لها رونق زرقة السماء
نقاط مستكرشة بالضوء
ترسم طيّاتها على أفلاك السماء
انحناءات أقواس السحب
فوق خاصرة السماء

الأرض تطبع على فخذ رجالها
تاريخ رحلة السفن
إلى وهاد السحب البيضاء
لها رداء اسمانجونيّ الّلون
يستر عورتها
تملك بذار السحر
تفقّس أجنة الخمرة
في خابية نوح

الأرض، تصنع لوحتها الكبرى
من غمام شجيرات البحر
تصنع لوحتها الكبرى
من رحيق غمام البحر
وتنقش صورتها على جبين إنسان الغد
تترك بصمات نفحاتها الرقيقة
على وجنات صحوة النبوءة
في بابل وأروك وشنعار ويثرب
حيث بقايا كنائس العذراء
تصنع أصنام آشورياتها
من طينة رحبوت وكالح ورسن
الأرض لها تعويذاتها الخاصّة
أثناء رحلتها الكبرى نحو سهول شنعار
ولقائهم بأبناء يقطان
تستقطر بكاءها مدراراً من جفونها
في وداع هياكل الذكريات
وبات عشب الروح كنساء غريبة في قرية
قبالة سرير الشمس

الأرض انبساط ملاحف الشريعة وبنود إزارها
فوق هامات الرجال
الحاملين على مناكبهم وصايا العقل
تصاهر ليلاً تثاؤب القمر
فوق وهاد المحبة

الأرض تستقبل حفيفاً من أجنحة النحل
الصاعد أسراباً غفيرة نحو جبال الربّ
تخبّئ أجنحة بذارها
في تراب أبدي العطاءات
وتطير كفراشات ملوّنة من زهرة لدالية
تحرّرت من غربتها الكبرى
لها أنين الثكالى في تأخير
مواكب سحب المطر

الأرض ترضع بنيها بحليب مستقطر
من أثداء أمّهات المحبة
تعطي بكر قوّتها لماء فائر
يتدفّق طاقةً وعزيمةً
من شقوق الأرض وبواطنها
تحمل غضب البحر
ومع أنين أمواجه يتسلّق فوق متونها

الأرض، تربي أجراؤها
في معاقل العسل الوردي
تغسل بالخمرة أجفانها
وتراقب مطلع الشمس
فوق دساكر الفلاحين
الأرض تفوح مزارعها على السهوب
رائحة خمور معتّقة
روائح انتعاشة لأرغفة
تتنفّس الفريك والسويق
بواكيرها تتضوّع رائحة فرح وسرور
فوق مذابح العجول
الأرض، من ترابها يولد الحجر
حبر المعرفة
للأرض كتابة خاصّة
الأرض في عوص احتضنت رجل الله أيّوب
دسّ أصابعه وانطلقت حكاياته في كلّ الأرض
سُيّجت بأسوارها العالية
بيوت شعراء الربّ
تروي مواشي الرعاة بمياه فاغية
تتدفّق عبر وهادها مياهاً ثرّة
تسوّر خواصرها
بزنّار أفقها الجميل
تحوّل كآبتها
وتصهرها عبر مجرى الريح
إلى سواقي قلب الانسان

أَليست الأرض بدايات خفقة طين
لصنع الانسان الكامل¬؟!
الأرض آخر تقليعات بدايات النور وانفصاله
من عالم الظلمة
على مسرح الأرض الرحيب تمّ فصل الدكنة
من حبال خيوط الضوء
تحمل حلم ليل الخليقة البكر

الأرض، آخر مواكب مسيرات معبّأة بنور الكواكب
لها قياسات لعمق الأسافل وقياسات
لطول جبالها
لها وشم يحمل أقراطها الثمينة
وترحل نحو شلالات من ميازيب الأبدية
حيث أناشيدها
رنّة متأتية من خرير ماء
يصفّق لجداول الروح!

للأرض وشمٌ يحمل أقراطها
ويرحل صوب ميازيب الأبديّة
حيث أناشيدها رنّة متأتية من خرير ماء
يحتفل بميلاد جداول الروح
الأرض إنحناءات الضوء
فوق سعفات المرئيّات الملتوية
على خاصرة روحي
لها استرخاء كحلم الجسد
المتربّع فوق مساطب ذاكرة روحي
فوق ذاكرة فحولة هائجة بدخان شهوة المساءات
تترك مستنقعاتها الرطبة
وترحل بعيداً عن صيحات الرياح
بعيداً عن نقاهة من مزن غيوم السماء
بعيداً عن بحيرات ملتقى أسراب البجع
أليسَت الأرض تبارك في الصباح خطواتنا؟
وفي المساء تطبع على عظامنا كتابة فسفوريّة
تنمُّ عن قهقهات هتافاتنا

الأرض، جدران أسمنتيّة لصدّ رياح البحر
تتّسع أحداق عيونها للاحتفاظ
بنبرات نوتات موسيقى دموعنا
هناك في الهواء اللامرئي طاقات
تمسح وجه الأرض بخميرة الأشواق
شيء ما عالق بأهداب عيوننا
يراقب محطّات حياتنا
الساقطة على الأرض من كواكب بعيدة
لهذه الوعول قرون صلبة.
هل انتُشِلت وجُبِلت من تراب هذه الحقول؟
حيث دقائق الساعات الرمليّة
ترسم خطوطاً بدم كهرباء المساء
عن مريخ آخر
تنسجُ من الهواء الشفيف مناديل
لوجه الأرض الممسوح ببصمات ملوكها

هل لنا أن نناجي ونناغي صخور البارحة
ونفتح فيها خطوطاً؟
هذه آخر تقليعات النهار حيث بهجة النوم
وبكلّ ما يملكه من طاقة
هل النوم يبعدنا عن سرير زمهرير الموت؟
إنّي سرّياً أتفحّص مستنقعات الجسد
جسدي المتحوّل إلى وهادٍ
لملاقات عصافير الجنّة!

أشهق رائحة من غيومٍ طارئة
تداعب أجفان أمّي
لنا أحياناً في سقسقة خرير المياه
موسوعة لجداول مؤقّتة
تجتاح خيامنا البيضاء
وتناجي المساء بذبذبات مزاميرها
الأرض سفوح ملء البصر
متأقلمة بحروف من حجر
منتشلة من بحيرات الكلس
لحظة من أهداب الأرض
وتولد عوسجة الصحراء
لاستقبال كلمات ممحّصة بنار النبوءة
كُحل خاص يتناثر بتؤدة من شفاه السماء
يكحّل أهداب الأرض

الأرض تزيّن فوديها بعطور من هياكل العبادة
قارورة غالية الثمن
تغدق بهجتها على العالم
وتزيد من رونق جماله
ونضارته
الأرض آخر أسرارها معلّقة
على شجرة من نور
تلك القرى المسحورة بطلاسم الخفايا
تعرف جيّداً كيف تحبك جدائل السنين
وتربطها بقرون شمس الأرض

الأرض، تبتلع دماء الفتن والمشاغبات الكبرى
صهاريج ذات أقواس معقوفة
عيونها ترصد رياحاً جنوبيّة
الأرض خشونة عظمى
تموت تحت طيّات أجنحتها ضحكة الأحلام
الأرض أمارات ذات سقوف مترنّحة
تحت وابل من برد اللحظة
الأرض في بابل
ذات
أقواس
قزحيّة
مدارجها شفق ملوّن
الأرض،
متيّمة أوداجها بلهيب المحبّة

الأرض أسافلها معبّأة بخردقات مطلسمة
السفرجل يستقطر من رائحة أعصاب وردة
وقفّازات خاصّة بأنامل الأرض
أيّتها الأرض المحدودبة كثمرة حبلى
نبعٌ لا يغيض

الأرض، بدايات لسلم من حجارة الآباد والآزال
صرخة على أنبياء الحوار الشيّق
ياسمينة الريحان
الأرض، الوقت اللامتناهي
تأخذ عمقها من سحاب سرمدي
ملتقى بجعات الروح
روح فوق ممالك العقل
الأرض، هي أنا
هي أنتم
هي نحن
ترى من يغوص في ازرقاق محبّة الأرض؟
الأرض بدايات البدء..

مَنْ يأخذ من الأرض أنابيب دقيقة
لصنع أجنحة لزهرة اللوتس؟
مَنْ يأخذ من طيور الأرض حرارة لأعصاب يديه
لحمل أسلحة لصيد طيور الماء؟
مَنْ يحمل من الأرض دفء الضفادع الخضراء
إلى ضفاف البحيرات السعيدة
حيث الحقول تأخذ أهازيج سعادتها
في ابتلاع حضن الأرض؟

جبابرة الأرض يحرّرون أنفسهم
من أجران خمرة معتّقة،
ويتقاسمون خبز التقدمات
ويحملون على أكتافهم أسلحة العزّ
لولاك أيّتها الأرض لانقرض طائر البَلَشون،
وتولول عليه جزر الحَسَاسين

الأرض تسأل حيتانها الكهربائيّ
قائلة،
من علّق في أعناق الدلافين ساعات
عقاربها متلألئة من ندى ملح البحار؟
رعاة هذه السهول يرصفون أخاديدها
بذبائح تعبّد بدمائها طرقاً وشوارع
حتى سواحل البحر

الأرض تمرح أطفالها بحفيف سنابل الحرّية
قهقهاتها تداعب لصوصها،
وتخمّر في دنان صخورها
جفنات من خمور المجد
معاصرها تعصر خلاصات عناقيدها
لصنع خمرة موسيقى عذارى الجنوب
أحفادها الأباطرة رحلت قوافلهم
صوب سطوح الشمس
تصنع لهباً ممزوجاً برحيق عناقيدٍ
تنير ليلة جمعة حزينة

أيّتها الأرض،
هل مواكب قوافلك ستلتقي
مع ثعابين البارحة؟
متى نصادق الأفاعي الطالعة من ثقوبك الترابيّة؟
الأرض تجدّد شبابها بأكسير المراعي الخضراء
يكفّن سرابها الأبيض أجنة تمساح نبوءة
ساقطة من أحضان القمر

أيّتها الأرض .. متى صارت فضّتك زغلاً
وخمرك مغشوشة بماءٍ آسن من آجام مطر بائت؟
متى تتحوّل سيوفك البتّارة مناجلاً..
ورماحك سككاً..
وبواخرك العملاقة ملاذاً لنوارس البحر؟
متى يغمر زلزالك أنصاباً من تماثيل الفضّة
من ربوعك
وأوثانك الذهبيّة تتحوّل إلى رماد أسود؟

يا صحوناً قادمة من منازل النجوم ومسارح كواكبها!
أوقفوا رعبكم لأطفال الأرض الجميلة
الأرض تخشخش خلاخلها وعصائبها من ذوبان كتلة
مغضّنة من ذهب الإبريز
للأرض سلاسل ومناطق مسوّرة بآيات سماويّة
خواتمها وخزائم انفها
من شلالات فضّة ممحّصة
الأرض أردية مصنوعة من ملاحف الشمس
ترصّع ديباجها
بخلاصات خمر مجفّف

الأرض زنّارها من سلالات نجوم المجرّة
محافلها تسربلها سحابة بيضاء
تضيف على ضوئها نوراً مضاعفاً
له روعة الشعاع والمجد المؤثل
أنهارها وجداولها من سيول ماء العطور

منعطفات جبالها
ملتقى مواكب أسراب النسور
وطيور العقاب والحدأة والبواشق
تلويحات يد تلوّح للراقصين على متن السحب
مركبات مصنوعة من ضباب مجفّف
في مراعيها، وسهولها ملتقى طيور الكركي
والبجع الأنيس،
القوق المهاجر
الرخم واللقالق
العائدة إلى سطوحنا
لبناء أعشاشها الخشنة!

السويد ـ سودرتالية 1999

CONVERSATION

0 comments: