" وعلينا نحنُ أَنْ نحرسَ وردَ الشّهداءْ
وعلينا نَحْنُ أَنْ نحيا كما نحنُ نشاءْ " / محمود درويش
(1)
رسالة وصلتني قبل أيام ، أغلى عندي من الحياة نفسها
" ذات يوم كتب احدهم، وكان زميلا لي في الصحافة العراقية.. ان المدعو اسعد البصري معتوه ومجنون قد كتب عني كذا وكذا، فقلت في نفسي تراه من يكون اسعد هذا.. واي مجنون ذاك الذي كتب هذه الكلمات بحق فلان.. فدخلت على صفحتك وكلي ثقة بأنني سوف ارى كتابات غبية - حاشاك - او سأنعتك كما فعل هو بنعوت لا تليق الا بمعتوه.. واذا بي اقرأ ما كتبت موضوعاً بعد اخر.. من دون ان تمل عيني، وبعد كل موضوع اقول في نفسي: يا لها من كتابات رائعة.. يا له من رجل مثقف.. اصبحت لا اتلذذ الا بما يكتبه اسعد.. لأنني على يقين بأنك من القلائل الذين لم يبيعوا اقلامهم للفاسدين.. انك الحق الناطق.. لذلك اقول لك: انت تثلج صدري دوماً.. لك كل التوفيق اخي العزيز " . إن كاتبا واحدا ، يكفي لمنح عشرات الكتاب ، الجرأة ، والشجاعة اللازمة ، لتحدي السلطة المقدسة السوداء . أعلم بأنني أكتب أشياء خطرة ، وإن دربا كهذا نهايته معروفة . شيء مؤلم أن تكون كاتبا جيدا جدا ، و مكروها جدا ، في نفس الوقت . لا أحد يشكك في موهبتك ، بل الجميع يشكك في نواياك ، و نقاء قلبك . هذا هو الجحيم .
(2)
حياتي موتٌ كَتَمَ أنفاسه تحت الماء ، يطفو بعد قليل ، ليتنفس العدم . ما أكذب البشر . أسمع دقات الموت الغريق ، ولا أكتب الشعر دائماً ، حتى لا يزداد فزع الناس ، وَ كراهيتهم لي . آه ! ماذا أقول لك يا ابنتي عن الشعر ، إنه كما قال السياب " الماء في الجرار ، والغروب في الشّجَرْ " ، ناوليني الماء البارد ، الشاعر مليء بما ليس منه بُد . نعيش هذا الألم الفظيع ، التقشف الشعري والكتمان ، لحفظ ماء وجه الشعراء عبر التاريخ ، نصنع كما صَنَعَ أسلافنا ، كتابة قصائد قليلة . ضعي يدك هنا ، على صدري ، كل هذه الذئاب تعوي ، أليس كذلك ؟ ، إنها جائعة ، تتضور جوعا .
(3)
أهمية الكاتب مرتبطة بالقضية التي يمثلها ، بالمغامرة التي يخوضها ، بالخطر والتضحية والمعاناة . لا يمكن لكل متقاعد ، و عاقر ، و هاربة من زوجها ، أن يكون كاتبا مبدعا ، و كاتبة مبدعة ، هذه الفوضى يجب أن تتوقف . السؤال المهم هو ، لماذا يصبح كتاب السلطة جذابين ؟ . التكريس ، والأضواء ، والشهرة ، و دعم الحكومة ، يجعل من كاتب محدود الموهبة ، عبقريا في نظر الناس . كيف يحدث هذا ؟ . كنت أعمل في شركة أمريكية كبيرة ، تتبع أسلوبا غوغائيا ، يشبه غوغائية الثقافة العراقية هذه الأيام . ولاحظت بأن معظم المدراء ، والمناصب العليا فيها لليافعين ، شباب بلا خبرة ، ولا معرفة . لكن الراتب ، والسلطة ، والثياب الأنيقة منحت الفتيان ، ثقة كبيرة بالنفس . ومع الوقت يتحسن خطابهم ، و أداؤهم ، فيظهر عليهم الوقار ، والهيبة ، و تهوي إليهم أفئدة الناس ، و توسلاتهم ، و نفاقهم ، و أسرارهم الخفية القبيحة . نفس الشيء في الثقافة .
(4)
مشكلة المثقف أنه يفكر كسياسي . هذا خطأ كبير . أنت كاتب لا علاقة لك بالواقع والممكن ، و غير الممكن . يمكنك أن تخرج بحلول كالإنتحار الجماعي للبشرية ، كما فعل شوبنهور . لا تغير من شراسة كلماتك بسبب الواقع ، والناس ، والعامة . اكتب كما يحلو لك ، كما لو أن المدنيات كلها تحترق ، وأنت آخر قصيدة على ساحل الخراب البشري ، و سقوط الحضارات . أو لا تكتب . نحن بحاجة إلى انتحاريين من النوع الثقافي ، يستحمون بالماء المالح ، يلبسون الكفن ، ويقولون الحقيقة في حشد غفير من الكذابين والمنافقين . هذه هي حرب التطهير الحقيقية ، وهذا هو الجهاد المعرفي .
(5)
عندي وجهات نظري الخاصة التي لا أتخلى عنها . منها اعتقادي الراسخ ، بأن غياب الأدب الملحمي في تراثنا ، هو الذي جعلنا نفهم التاريخ الإسلامي فهما طائفيا . لأننا نفهم الصراعات بوصفها نورا و ظلاما ، وليس تحولات تاريخية تأخذ شكلها العنيف الطبيعي . معاوية بن أبي سفيان مثلا ، ابن عم عليّ بن أبي طالب ، ومن سادة قريش ، مؤسس علم السياسة في التاريخ العربي الإسلامي ، بشهادة مؤلف قصة الحضارة وول ديورانت ، واحد من عباقرة العالم . أما عليّ بن أبي طالب ، فهو من أكبر الروحانيين في التاريخ البشري ، أخلاقي عظيم ، و صاحب أعظم نظرة مأساوية لمصير البشر ، متشائم كبير من متشائمي التاريخ . تقاتلا كما يتقاتل الأبطال في الملاحم الهوميروسية ، كما يتصارع الخلود مع الخلود . ما شأنكم يا براز الضفادع الأخضر ، الطافي على مزابل التاريخ الآسن ، ويا طحالب الفناء ، وبثور الزمن . هؤلاء رجال رأوا في مناماتهم آلهة الفردوس و الجحيم ، حتى حملوا مصيرهم إلى أقصى ضمير في التاريخ . لماذا بعد آلاف السنين نبول على قبر معاوية ؟ . أو نجعل قبر عليّ سوقا ، و حصالة نقود ، و عصبا سياسيا ، و مستودعا لضعفنا ، و دموعنا . ما شأن الذين يقبلون أيدي رجال الدين وأقدامهم ، بذلك الذي كرّم الله وجهه ؟؟ .
(6)
أحيانا تسكت ، لأنك تشعر بأنك أمرضت قراءك ، بقسوة كلماتك . الآن علي أن أعتذر لقرائي ، بانحناءة نادل مهذّب ، في حانة راقية ، بباقة ورد في حفلة تنكرية ، بمقالات فيها دقات قلب ، بدلا من قرع الطبول . القاريء الحبيب ، كنزي ، وثروتي ، و عشيرتي في هذه الدنيا . كثيرا ما يمرض القاريء و يموت ، بسبب غباء الكاتب . الحوذي الغبي ، يجلد حصانه العزيز حتى يقتله ، والعاشق الغبي ، يكسر قلب معشوقه . لن يحدث هذا لسيدي القاريء ، العناية المركزة بالكلمات ، هي عناية مركزة ، بصحة القاريء ، و شهيته . أصر على الكتابة باللغة العربية الفصحى ، فالذين يعتقدون بتفوق اللغة المحكية ، على اللغة الفصحى . لا يعرفون ما تفعله اللغة الفصحى ، حين تطلق أرواحها القديمة بالكلام . أنا مُخَرّب كبير ، لقد طرقتُ أبوابكم في الليلة الممطرة ، وقلتُ أطعموني ، قبل أن أبكي ، و تسمعني العاصفة ، ما زال أنفي ينزف ، من اصطفاق أبوابكم الثقيلة بوجهي . الآن جاءت العاصفة ، تخلع تلك الأبواب الموصدة ، كأبواب جهنم . الشاعر يكون غامضا ، و نائيا مثل كتابته . الكثير من الصور في المراقص ، والحدائق ، و طاولات الطعام . لا تجعل منه شاعرا ، بل ممثلا .
0 comments:
إرسال تعليق