أطيرُ نحوَ قبّةِ الحنين/ صبري يوسف


أطيرُ مثلَ نسرٍ نحوَ قبّةِ الحنينِ
حيثُ عناقات الطُّفولة تفورُ في أوجِ العبورِ
 أسيرُ نحوَ مدنٍ معشَّشةٍ في ذاكرةِ الرّوحِ
شعورٌ ممزوجٌ بِحِيرَةٍ وفرحٍ
يتدفَّقُ مِنْ كلِّ الجِّهاتِ
مغامرةٌ أخرى تُضافُ إلى مغامراتِ العبورِ
     في أعماقِ المجهولِ!
أنظرُ مِنْ شُبَّاكِ الطَّائرة الصَّغير
تستقبلُني غيومٌ محمَّلةٌ برسائل متدفِّقة
     مثلَ جموحاتِ سوفوكليس
كأنّني في حضرةِ الألياذة والأوذيسة
شغفٌ ملحاحٌ نحوَ مرافيء بوحِ الرُّوحِ
أينَ أنتَ يا سقراط
كي أتلو عليكَ شكِّي المتفاقم يوماً بعدَ يومٍ؟
هَلْ فعلاً  نبعَتْ حضارةُ الإغريق مِنْ هذهِ الأرضِ
     الَّتي نرفرفُ عليها الآنَ؟ 
حضاراتٌ منبعثةٌ مِنْ أريجِ بخورِ الأديرةِ الطَّافحة
     بسموِّ الرُّوحِ والأفكارِ
حضاراتٌ متجذِّرة في قلبِ فلسفةِ الحياةِ
     وفي أعماقِ الملاحمِ الشِّعريَّة
لملمَتْ فكراً بكراً وفرَشَتْهُ على خدودِ الدُّنيا
مسرحُ الإغريقِ وملاحمُ الإغريقِ
بطاقةُ عبورٍ إلى منجمٍ مِنْ ذهب
ملاحمٌ شعريَّة منسوجة مِنْ خُيُوطِ الشَّمسِ
منسدلةٌ على صباحٍ مشعشعٍ بالفرحِ
كانسدالِ شَعرِ هيلانة على خدودِ الأملِ
قُشَعْريرةٌ منعشةٌ سَرَتْ في ظلالِ أحلامٍ منبعثةٍ
     من أرضٍ معشوشبةٍ بالماءِ الزُّلالِ
إنّي أبحثُ عنكِ يا قصيدتي البكر
     منذُ بزوغِ الطَّوفانِ
هَا قَدْ جئتكِ محمَّلاً بباقاتِ السَّنابلِ
أيّتها الأرضُ المباركة
تعالي أنقشُ على حنينِكِ الأزلي
بهجةَ انبعاثِ حرفي
     إلى أقصى مرامي القصيدة
تعالي نعانقُ حفاواتِ الأديرةِ القديمةِ
لعلَّنا نستدلُّ على مساراتِ انبعاثِ القصيدة
فرحٌ في لجينِ القلبِ ينمو
أرى بينَ طيّاتِ الغيومِ مآقي الأزمنة الغابرة
أزمنةٌ محفورةٌ في ذاكرةِ أرضٍ مجبولةٍ
بانحناءاتِ حروفٍ مسترخيةٍ بينَ أهدابِ السَّماءِ
 أرى الشَّفقَ يلوحُ في الأفقِ البعيدِ
جميلٌ وأنتَ معلَّقٌ بينَ هلالاتِ السَّماءِ
     في انتظارِ بزوغِ الشَّفقِ
احمرارُ الشَّفقِ يخلقُ في نفسي
فرحاً أشبه ما يكونُ انبعاثَ ماءِ القصيدة 
     من شهقةِ السَّماءِ
خيوطُ الشَّفقِ على وشكِ أنْ تفرشَ أجنحتها
     على خدودِ الصَّباحِ
تهنِّئ الشَّمسُ ذاتها أنْ تقبِّلَ يوميَّاً
     خدودَ الأرضِ والسَّماءِ
نعمةُ النِّعمِ أنْ تكونَ في محرابِ الاحتضانِ
احتضانُ الشَّمسِ للبحارِ
     لحنينِ السِّماءِ لوجهِ الثَّرى
كيفَ فاتَ البشرُ
أنْ يصنعوا للشمسِ تماثيلَ
مِنْ رذاذاتِ الذَّهبِ المتناثرِ
     مِنْ أثداءِ السَّماءِ؟
الإنسانُ صديقُ الغمامِ
صديقُ المطرِ
صديقُ الشَّمسِ
صديقُ هذا الزّمان
صديقُ الرِّيحِ
صديقُ مصادفاتٍ لا تخطرُ على بال!
نحنُ البشر أشبه ما نكونُ أجنحةً
     منبعثةً مِنْ أحلامِ الغيومِ
نتهاطلُ مِنْ أرحامِ أّمَّهاتِنا
كما يتهاطلُ المطرُ مِنْ رحمِ السَّماءِ
هَلْ كانَتْ السَّماءُ يوماً أمَّنا ولا ندري؟
هَلْ ما تزالُ السَّماءُ أمَّنا ولا ندري؟
كيفَ فاتَ الإنسانُ أنْ يعقدَ معاهدةَ حبٍّ
بينهُ وبينَ نسيمِ الصَّباحِ
 منذُ أنْ فتحَ عينيه على وجهِ الدُّنيا
أمْ أنَّهُ كانَ جزءاً مِنْ نسيمِ البحرِ المندّى
     ببسمةِ الشَّمسِ ولا يدري؟
أشرَقَتِ الشَّمسُ كأنَّها صديقتي الأزليّة
رحَّبتْ بي كأنِّي على موعدٍ معها
منذُ إغفاءَةِ الأزمنة الغابرة على خدودِ الحجرِ
هَلْ تستطيعُ الشَّمسُ أنْ تحتفظَ بي
كشهقةِ فرحٍ بينَ ضياءِ خيوطِهَا المنبعثة
     على وجهِ الدُّنيا؟
أنا صديقةُ الشَّمسِ
أنا ابنُ الشَّمسِ البكرِ
أنا أحلامُها المتطايرة مِنْ أشعّتها الدَّافئة
تغمرنُي الآنَ حالةٌ عشقيّةٌ لا أفهمُهَا
حالةٌ مماثلةٌ لجلجامشَ وهوَ في طريقِهِ
     إلى أعماقِ البراري
بحثاً عن نبتةِ الخلاصِ!
هل نحنُ جزيئات متدفّقة منذُ زمنٍ سحيقٍ
     مِنْ جفونِ الشَّمسِ
لهذا يغمرُنا دفئها أينما ذهبنا وأينما حللنا!
تتراءى أمامي
قامات أصدقائي وصديقاتي الشُّعراء والشَّاعرات
تزهو أمامي
حفلات تأبين الشَّاعر الأب يوسف سعيد
صديقاتي الشَّاعرات يرفرفنَ عالياً
     في رحابِ الذَّاكرة
أصدقائي الفنَّانينَ غائصينَ الآنَ في نومٍ عميقٍ
ربَّما الفنّان صدر الدَّين أمين
ينظرُ الآنَ طويلاً
     في لوحةٍ معرَّشةٍ في حبورِ الطُّفولةِ
صدرالدِّين أمين صادقٌ في أمانتِه الطُّفوليّة
صادقٌ في رهافةِ الطُّفولةِ المبرعة    
     في فردوسِ لوحاتِهِ
كأنّه يقطفُ مواسمَ حصادِهِ مِنْ ثغورِ السَّماءِ
كأنّهُ على علاقةٍ شفيفةٍ معَ أمواجِ البحرِ
كأنّهُ غيمةٌ حُبلى بشهوةِ المطرِ
يهطلُ علينا بألوانٍ مِنْ نكهةِ النّعناعِ البرّي
لوحاتٍ على إيقاعِ أحلامِ البراري الفسيحة
هَلْ تبرعمَ في أحشاءِ أمِّهِ
فيما كانَ والدُهُ في حالةٍ عشقيّةٍ
     يناجي نُجيماتِ الصَّباح؟
هَلْ ما تزالُ سوزان عليوان
     مقمَّطة بحالاتٍ أنينيّة
تنسابُ مِنْ مآقيها دموعٌ معتَّقة بملوحةِ البحرِ
تكتبُ قصائدَها
    في انتظارِ شموخِ أشجارِ النَّخيلِ
بعيداً عَنْ غدرِ هذا الزَّمان؟!
لماذا أشتاقُ إليكِ كأنَّكِ صديقة أزليّة
مضمَّخة بماءِ القصيدةِ الأصفى؟
انفرشَتْ صورُ الأهلِ فجأةً
     على مساحةٍ فسيحةٍ مِنْ ذاكرةٍ ملتاعةٍ
مِنْ ارتصاصِ ضجرِ غربةِ الرٍّوحِ
استقرَّتِ الصُّورُ في بؤرةِ الحنينِ
مسحَتْ كلّ مشاحناتِ شفيرِ غربتي
     المعفّرة بشهوةِ الشِّعرِ
تتلألأ قاماتُ الأحبّة تباعاً
عاشقةٌ مِنْ نكهةِ النَّارنجِ
لا تبارحُ صباحاتي البليلةِ
تغفو بينَ أجنحةِ اللَّيلِ الحنونِ
     بينَ شموخِ القصيدةِ
تعالي أزرعُ فوقَ وجنتيكِ
     فرحاً مجنّحاً بأريجِ الرِّيحانِ!
الطُّفولةُ طاقةٌ فرحيَّة مكلَّلة
بأسرارِ أغانٍ معتَّقةٍ
     في مروجِ الأحلامِ
ترنُّ في أذني تهلهيلةُ أمِّي الآنَ
توقظُ في روحي حنيناً
     إلى صباحاتِ الصَّيفِ
الغافيةِ على أغصانِ الدَّوالي
حيثُ عناقيدُ الكرومِ تنتظرُ إشراقةَ الصَّباحِ
كانَتْ أمِّي تهلهلُ في أكاليلَ الأحبّةِ
وهم في طريقِهم إلى أحضانِ الحياةِ
تهمسُ أمِّي إلى أعماقي
المعشوشبة بيراعِ القصيدة
حرفي ممزوجٌ بحنينِ أمِّي
     إلى تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ
والدي مندّى بألقِ نجمةِ الصَّباحِ
     ويخضورِ العشبِ البرِّي
كَمْ مِنْ باقاتِ السَّنابلِ حَصَدْنا
ونجمةُ الصَّباحِ شاهدةٌ
     على شموخِ السَّنابلِ
          وإيقاعِ المناجل!
كَمْ مِنَ الحنينِ
حتّى تورَّدَتْ خدودَ البحار
     بأهازيجَ القصيدة!

اليونان ـــ تسالونيكي: تشرين الأوَّل (اكتوبر) 2012
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

* أوَّل نصّ شعري أكتبه خارج السُّويد، ستوكهولم منذ قرابة ربع قرن!

CONVERSATION

0 comments: