محمد سليم زنجير كان بالأمس بيننا يملأ حياتنا بمداد قلمه الرشيق الذي كان يصور لنا تاريخ مدن سورية وأحيائها بصور وردية ومخملية، مستحضراً تاريخها بصور إبداعية يتنقل بنا في أحضان ذلك التاريخ المشرّف الذي لا يوازيه أي تاريخ، وعينه ترنو إلى مستقبل سورية الذي يحلم به.. سورية التي أحب وعشق وهام.. دولة مدنية يعيش فيها كل السوريين بكل ألوانهم وانتماءاتهم وأعراقهم ومذاهبهم وأديانهم وطوائفهم في ظل هوية المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات، واليوم يغادرنا ولمّا يقف يراعه عن العطاء حتى آخر لحظة من تصاعد أنفاسه.. مبشِّراً بغدٍ مشرقٍ يُطلُ على سورية.. يبدّد دُجى الظلمة التي لفها منذ نصف قرن بوشاحه الأسود!!
محمد سليم زنجير المعلّم الذي استلهمت منه الكثير وتعلمت منه الكثير.. عرفته عن قرب.. عشت معه أياماً عصيبة.. وذقت وإياه من مرارة كأس النظام الأسدي العلقم.. وتقلبت وإياه نتجرع مرارة النفي القسري في بلاد الله الواسعة.. وتحملت معه الكثير من المعاناة من ذوي القربى.. وحلمت معه بعودة كريمة إلى الوطن حيث الأهل والعشيرة ومراتع الصبا.. حلمت معه بعودة تكون فيها قاماتنا منصوبة.. وهاماتنا مرفوعة.
بالأمس غادرنا أبو الخير.. قبل أن تجف أوراقه.. ولم يبخل علينا مداده.. الذي كنا نستلهم منه الصبر والجلد والبذل والجهد والعطاء…. دون كلل أو ملل.. كما عوّدنا وكما علمنا!!
غادرنا أبو الخير ولا تزال كلمات شعره البديع أجراساً تدغدغ مسامعنا.. فتشحن نفوسنا مزيداً من النهوض والمثابرة والإقدام.. دون الالتفات إلى الوراء.. إلاّ بما يزيد من عزيمتنا وإصرارنا على الكفاح من أجل إعادة الابتسامة لترتسم على شفاه الأيتام والأرامل والثكالى.. ضحايا النظام السادي الذي جاء به آل الأسد.. من ظلمات القرون الغابرة!!
لم تحل بُعدُ المسافات المتطاولة.. ولا الأسوار الشاهقة.. من أن يخاطب أبو الخير سورية والسوريين مستنهضاً هممهم.. لتمزيق أستار الظلمة عن وجه سورية الحبيبة الأسيرة.. لتعود دمشق الفيحاء كسابق عهدها.. منارة تشع منها الحرية والنور والمدنية والحضارة والعطاء الإنساني!!
محمد سليم زنجير فارقتنا بجسدك.. ولم تفارقنا بروحك.. التي ستظل تحلق في سماء قلوبنا.. حتى نلحق بك.. فهذا قدر قافلة الرحمن.. يرتفع واحدنا إلى بارئه تلو الآخر.. دون أن تنقطع هذه السلسلة المباركة.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!!
نعاهدك يا أبا الخير أننا سنظل على العهد.. عهد الوفاء للقضية التي أمضيت جل حياتك صغيراً ويافعاً وكهلاً لها حتى فارقت هذه الدنيا الفانية من أجلها.. نعاهدك أن تظل حدقات عيوننا مصوبة إلى سورية.. نقارع الظلم وأهله حتى يحكم الله بيننا.. مهما غلت التضحيات وتوالت الأيام وبعدت المسافات.. فكما كنت حتى الرمق الأخير من أنفساك مستلاًّ قلمك.. مشهراً يراعك.. تنافح به عن وطنك.. وتذود به عن دينك وشرفك.. سنظل على نفس الطريق وحتى صعود النفس الأخير كما كان حالك.. وحتى نلاقي الله كما لقيته.. أحراراً منتصبي القامة.. مرفوعي الهامة.. سلاحنا قرآننا وقلمنا.. ومعيننا مدادنا.. الذي لن يجف وفي عروقنا دم يتدفق.. وبين صدورنا قلب يخفق!!
0 comments:
إرسال تعليق