أسوأ سلالات الديوك/ محمود شباط

غادرت وظيفتها بعيد انتهاء الدوام، تنساب كالريم في سبيلها إلى منزلهما الزوجي وتقطر عذوبة فراشة تطير للمرة الأولى. ولجت مدخل عمارة عالية وسلكت درجها النتن الدبق الضيق المعتم لغاية سطحها حيث تكثر الصحون اللاقطة المتعامدة مع غسيل منشور تنم نوعيته عن فقر العائلة الصغيرة. بلغت فسحة السطح حيث مسكنهما المتواضع، رأته هناك على كرسيه البلاستيكي يقلب أوراقاً يزعم بأنها عروض عمل. حيته فالتفت صوبها ورد ببرود ثم استأنف "شغله".
جلست على الكرسي القريب تستريح وتتساءل: هل لازال حرداً وحاقداً عليها لأنهما تشاجرا ليل أمس حين عَرَّفـَتـْهُ بأنها تشك بصحة تلك العروض، وترجح بأنه يراسل نفسه باسم شركة وهمية تعرض عليه منصباً مرموقاً وراتباً محترماً ، ورد عليها بتشكيكه بعلاقتها بمديرها.
رغم أنها في اوائل ثلاثيناتها كانت تتصرف معه بنهج تمرير ما تبقى من سنوات العمر. وقد يكون قصدها سنوات عمره هو الذي تجاوز الخامسة والستين، تذكرت يوم زوجها منه والدها قائلاً لها بأنه سوف يكون مطمئناً لمستقبلها مع رجل مثقف لديه عقارات وأبنية وسوف يسعدها رغم فارق السن.
توقف عن تقليب الأوراق والتمعن بها ثم سألها فيما إذا دفعت إيجار المنزل وحساب البقال واللحام والخباز. رمشت هدبيها الجميلين وطمأنته بأنها فعلت.
همدر بتسلط فظ : إلامَ ستبقين في عملك في تلك الشركة ؟
- إلى أن تبدأ أنت في العمل، أعني في العمل الحقيقي المجدي الذي "يطعم خبزاً"
- رد بغضب: كالخبز الذي يطعمنا إياه راتبك البائس. إني أعرف كل شيء وكفى تمنيناً .
تجاهلت ما لمح به إلى شكه بعلاقتها بمديرها وجاوبت عما يتعلق بالتمنين فأوضحت له بأنها تذكر ولا تمنن ، وبأن تعمل على الأقل ولديها أمل في استلام راتب في آخر الشهر. قالتها وهي تخلع بلوزتها وتمروح براحتيها لتبرد عنقها وصدرها وإبطيها المتعرقين. لاحظ كدمة زرقاء على ذراعها الأيسر فغلى مرجل شكه من أن تكون يد المدير الغريب أو فمه تجولا على تلك البشرة البضة الناعمة، تلمظ وبلع ريقه ثم همدر بتسلط فظ: "اعمليلي قهوة" ! إنما اغتسلي اولاً ! ألا تشمين رائحة عرقك ؟ أف !!
حدجته ثم قامت واغتسلت وارتدت لباس النوم الأسود، هو يطلب منها أن تشتري "روب دي شامبر" ملون ولكنها ترد عليه بأنها لا تلبس روبات ملونة و تفضل الأسود فيسكت لأنها هي من ستدفع وهي من ستلبس والأهم بأن الروب الملون لن يجترح العجائب ولن يغير في الواقع.
أعدت ركوة القهوة ، ملأت فنجانه ووضعته أمامه لم يلتفت نحوها ولم يشكرها. اقتعدت فراشاً اسفنجياً تقرأ بمجلة نسائية وفي الوقت ذاته تستقصي مدى إمكانية انبعاث دخان زوجها الأبيض الذي طالت سنون انتظاره، تنهدت بيأس ليقينها بأنه سيطول، ولا أمل في تلمس آثار الدخان الأبيض.

في غمرة السكون الضاغط وجفاف علاقة عاطفية فعلية تنشف وتنشف وتتفسخ وتتمدد شروخها في كل الجهات، هي من تتنازل دائماً وتعالج الشروخ بسكر التسويات، زعق بحدة يسألها عن تبغه. نفثت قهرها، رشفت ما تبقى من قهوتها وأشاحت بوجهها عنه مستلهمة الصبر كي لا يتشاجرا.
ألح في طلبه فردت عليه بمسح وجنتيها المتوردتين بأصابع كشموع العيد و تشاغلت بتجفيف العرق المتلألىء كحبيبات الماس عن بشرة نقية كالعسل المصفى .
- لماذا لا تردي ؟ أين سجائري ومصروفي ؟
صرخت بنفاد صبر فـَرَدَّ مشوشاً بعصبية وانفعال ولكنها أكملت متجاهلة جعجعته و توترت نبرتها مذكرة إياه بأن عشراً من العمر في نجود التيه تكفي ، وبأنها تـَحَمَّلتْ عطشها لنسلها ونقع غليل صباها ما يكفي، وذبحها بياته في قوقعة البطالة وسراب العظمة ما يكفي، وتوسلته بأن يحتفظ بأوهامه له ويخلي لها راتبها وسنين عمرها.

لم يرق له العرض فدق الطاولة بقبضته وصرخ بها :
- قبل أن نتزوج قلت لي بأنك ستستمرين في وظيفتك . ما الذي تغير ؟
- لاشيء .وأنت قلت بأنك ستعمل !
- وهل ترينني ألعب ؟
كيف سترد عليه وتفهمه بأن عليه أن يجذف كبقية خلق الله في بحار الحياة فيربح أو يخسر،وكيف ستكرر له للمرة الألف ربما بأن غرقه في أوهامه سيبقيه خاسر او خاسر.
ضايقه صمتها فقرر استفزازها وسألها : لم لا تطالبين بزيادة راتبك ؟ أعرف جيداً بأن كلمتك مسموعة جداً لدى مديرك المحترم فقاطعته من فورها بانفعال بأن مديرها محترم فعلاً وليس مجرد ديك متقاعد.

هـَبَّ من فوره واقفاً ورشقها بدفتر تلقفته بخفة ورمته به ، أوجعته ردة فعلها بقدر ما آلمته سياطها الملغومة بتذكيره بأنه "مجرد ديك متقاعد" فصفعها وأفرغ ما جعبته من بذاءة وابتذال بينما كانت هي تتحسس آثار الصفعة على خدها .

لم يكن ذلك الشجار كسابقيه ، لن تهادن بعد الآن ولن تمرر سنين أكثر. لقد قررت الإنفصال ولكنها لم تصارحه بذلك بعد. عليها أن تفكر ملياً كيف ستغادر. اتجهت نحو سور السطح. وبينما هي تجول على أفضل الخيارات للرحيل اهتدت إلى أبسطها، ثم تطرقت إلى ما قد يشكل مستمسكاً عليها فلامت نفسها على تسرعها في الدفاع عن مديرها وغاصت في الحيرة والتساؤل : هل كان دفاعها عن سمعة مديرها من باب المناكفة والكيد لزوجها الذي تكرهه ، وصارت تكرهه أكثر بعد ان صفعها، أم هو ثمرة لاستلطافها البريء العابر لشاب محترم يحسن معاملتها ولم يخطر لها أن يدخل قلبها يوماً.

استمرت عائمة في تهويماتها وهواجسها وهي مرتفقة حافة سور السطح تبكي و ترنو إلى بساتين المدينة، مسحت دموعها، حـَنـَّتْ إلى دفء الربيع وحيويته. عادت إلى غرفتها وجمعت حوائجها الضرورية بحقيبة يدها ومشت. استدرك جدية خسارتها فهب في أثرها يتوسلها البقاء ، وكلما اقترب كلما ابتعدت وظلت تنسل من بين كفيه كأشعة المغيب.

CONVERSATION

0 comments: