صورة من كورنيش الخبر/ محمود شباط

كانت صفحة ماء "بحر الخبر" في الهنيهات الأخيرة لذلك الفجر تتلألأ كمرآة عملاقة،مؤطرة الحواف باستدارة أفق لازوردي، تسبح على صفحة بلورها صورة نجمة صبح ترسل بوميضها من البعيد البعيد، و صورة قمر، كنت أمشي على الكورنيش باتجاه نهاية المسار المخصص لهواة المشي ، استرجع صوراً و أصواتأ و مواقف ، قليلها مفرح ومعظمها مترح، تذكرت جوهر ، العامل الآسيوي الذي كان يغسل السيارات على الكورنيش ، وتذكرت كيف قضى نحبه بينما كان يعبر الطريق بدراجته الهوائية .
بلغت نهاية المسار و انعطفت راجعاً صوب بدايته من حيث انطلقت قرب المطاعم البحرية. في طريق عودتي كان الضوء ينمو و يزدهر. استمريت في المشي عائماً في غدير تفكري ، أمشي وأتطلع صوب مياه الخليج مُسَبِّحاً باسم راسم تلك المرآة الصافية النقية الزرقة الرحبة الجوانب، يُبَرْوِزُ استدارتها الواسعة الأفق اللازوردي الذي صار يخالطه الأرجواني الآن ، من حيث كانت تباشير الشمس تفرد إرهاصات الضوء، ومن حيث كان هام النهار ينهض من سباته متناعساً و يتضرج ببطء بحمرة الشروق القادم.تذكرت جوهر يوم كنت أتوقف قربه حيث يكون منشغلاً بغسيل سيارة. كنا "ندردش" و نراقب النوارس البيضاء ، تذكرته و هو يوصيني بحرص المحب بألا آكل لحم ذلك العصفور الأبيض ، أو كما يلفظها هو "أصفور أبـْيـَزْ". بقيت استذكر جسده النحيل الضئيل وابتسامته وأسنانه المفرقة الملتاثة بآثار التبغ وشعره الأسود الفاحم اللامع المـُسَرَّحِ المصفف بأناقة عفوية على الدوام ، كما استمريت في متابعة النوارس تهف و تتبارى في بهلوانيات فطرية مسرحها سيرك طلق لايحده حد ولا يعيقه سد. تستمر في عروضها الإنسيابية السائغة فوق المرآة المائية تشاكس انعكاسات صورها على صفحة الشاطيء الرائقة الشفافة الداكنة الزرقة، النقية نقاء ذلك الصباح الوليد. بعضها يستمر بالعبث وآخرون يَغُطُّون في الماء بين الحين والحين لالتقاط المقسوم لهم من مخلوقات كانت هي الأخرى تصطاد في مياه البحر .
عدت إلى غرفتي في سكن الشركة ، اغتسلت وتمددت وغرقت في غدير التفكر ثانية حول توقنا النوستالوجي للماضي كجزء من كينونتنا لإرضاء الذات ولتحقيقها في آن ، كما مررت على محاولات استرجاعنا لصور واحداث مضت عبر بساط ريح المخيلة، كون سلاحف الحاضر لن تقوى على اللحاق بها أو الإمساك بتلابيبها.
ذلك ما كنت عليه آنئذ ، لم يتراءى لي الكورنيش في استعراض الصور كما كان في السنوات الخاليات ، قارنت الحاضر بالماضي وما صار بما كان ، قارنت خفة الهمة سابقاً بكيف صرت أمشي حاضراً بهمة ما تبقى من الهمة على المسار المخصص للمشاة والمحاذي لمسار "قطار الكورنيش" ، وبينما أنا امشي صرت ألتفت إلى الوراء من حين إلى حين كي لا يبغتني "القطار". معتمداَ في تدبيري الإحترازي على ما تبقى من البصر أكثر من اعتمادي على ما تبقى من السمع كون الأخير لا يسعفني بقدر ما يلزم . تذكرت بأني صرت أرى وجوهاً جديدة صارمة و شفاهاً تتمتم بارتفاع الأسهم وانخفاضها و "تحاضر" في علم مراقبة البورصة . تذكرت خلو الكورنيش ممن كنت فيما مضى أبادر إلى تحيتهم أو هم يفعلون، وممن تعودت رؤيتهم من زملاء الهواية ، هواية المشي المبكر بعيد انبلاج الفجر وتفعيله لنبضاته، بعضهم كان يسبقني بإلقاء السلام، فتتطاير التحيات في فضاءاتنا العابرة كفراشات مروج ربيعية لامرئية ، تواكبها البسمات وأنصاف الإبتسامات وانحاناءات الرؤوس احتراماً بإلفة ومودة خالية من التكلف، كل ذلك كان يحدث بصمت وبإيماءة سريعة دون أن يعرف أحدنا اسم الآخر.

الوحيد الذي كنت أعرف اسمه ، ورغبت في أن أعرف اسمه وأتوقف لمحادثته هو "جوهر" ، حيث كنت أستأنس بالتحدث إليه، أناديه بمجرد أن ألمحه من بعيد فيرد بابتسامته المغسولة بالطيبة والبراءة " أيوه بابا ؟ كيف إنتا مهندس ؟ " وأحياناً "كيف إنتا مدير؟" وعرفت لاحقاً بأنه يُنْعِمُ على كل أشيب بلقب "بابا" وعلى كل من يرتدي نظارة بلقب مهندس أو مدير ، وحين أصل إليه تتوقف يداه النحيلتان السمراوان المعروقتان، رغم شبابه وصغر سنه، عن غسيل سيارة يكون منشغلاً بها .
كان جوهر يبتهج لحضوري بقدر ما كنت أرتاح لرؤيته ، ولكي أضمن سهولة التواصل معه كنت أسأله بلغة هجينة أخلط فيها العربية المكسرة بالأنكليزية واللغة الأردية فيرد بتعابير مماثلة . نساير بعضنا و نضحك لنكات أو أحداث يرويها أحدنا للآخر ، غالباً ما نفهمها باجتزاء، نجهد لتفسيرها عبر سياقها و نستوعب منها نتفاً مفككة متباعدة. و مع ذلك يضحك أحدنا لمجرد ضحك الآخر .
سألته بالإنكليزية "الميسرة" التي يفهمها في آخر لقاء بيننا عن آخر مرة رأى فيها أهله وأسرته، أغمض عينيه للحظات ثم أطلقت مقلتاه سراح دمعتين انهمرتا ببطء على وجنتيه البارزتين ، تلاهما سيل أغرق خديه. مسح دموعه وهمس بالأردو : " تين سال " فعرفت بأنه لم يذهب في إجازة منذ ثلاث سنوات .
حين لاحظ تأثري ، رنا نحوي بعينين مغرورقتين متعاطفاً مشفقاً علي لشدة إشفاقي عليه ، و في محاولة للتخفيف عني دمدم جوهر : " لكن أنا روهـ بيت كل يوم" فهمت منه بأنه يزور منزله في بلده بالروح يومياً لينعم برؤية أهله وزوجته وأطفاله .
ولينسيني شجني ، ربما ، حسبما قدرت ، ابتسم جوهر و أفلت الخرقة التي يغسل بها السيارات فسقطت في دلو نصف مليء بالماء ورغوة مسحوق غسيل ، مسح راحتيه بجانبي بنطاله ثم هرع باتجاه دراجته ، و بينما هو يتجه مسرعاً نحوهاكان يومىء لي أن أنتظر و يصيح بي دون أن يلتفت نحوي ملحاً علي بعدم المغادرة : "لازم شوي إنتزار بابا ، لازم شوف بيبي حق أنا " على عجل فتح جعبة بلاستيكية ملحقة بدراجته المقيدة بسلسلة بعمود الإنارة وعاد مسرعاً ليريني صورة طفل يمتطي دراجة ثلاثية العجلات ، وجهه الأسمر المكتنز بالعافية والملاحة يمجد خالقه، جمال بسمته الحلوة أضفت على محياه السكري البريء مسحة مرئية جداً من الجاذبية ، تأملت الصورة، كان يتابع إعجابي بابتسامة مبتهجة .و بعد أن أعدتها إليه ، فتح جوهر بغبطة غامرة علبة كرتون وأراني اللعبة التي اشتراها لطفله .
أعدت ذاتي من ذلك المسلسل الشيق الأليم الشائك ، أغمضت عيني لأنسى ولكني لم أنس . عادت حلقات المسلسل تفرض نفسها على شاشتي الجفنين مسترجعة يوم افتقدت جوهر وسألت زميلاً له عنه ، و كيف أخبرني عن حادث صدم الشاحنة لجوهر ، قال لي يومها بأنه وزملائه شاهدوا جسد "جوهر" والدراجة يطيران في الهواء بفعل صدم الشاحنة، حلقا في الهواء و دوما كما يحدث في الأعاصير، ثم عادا أدراجهما نحو الأسفل بينما قبس ملون يكمل طريقه نحو الأعلى متجهاً شعاعه بخط مائل صوب بلد جوهر ، و زوجة و طفل جوهر.

CONVERSATION

0 comments: